يتأسس طلب «الجمهورية الجديدة» على التصورات والأفكار التى تصاحبها والقواعد التى تلتزمها قبل الشعارات العامة والأحاديث المرسلة .
قبل سبعة عقود تأسست الجمهورية فى مصر، تناقضت السياسات والخيارات الاجتماعية والاستراتيجية بين رئاسة وأخرى دون أن تحدث قطيعة كاملة فى أسلوب الحكم .
لن تكون هناك جمهورية جديدة إلا إذا تغيرت فلسفة الحكم وأساليبه وفق قواعد دستورية نافذة تتمتع بقوة الحضور فى الحياة العامة .
لا تنسب الجمهوريات إلى أشخاص، أياً كان قدر دورهم فى تاريخ بلادهم .
لا كانت هناك «جمهورية شارل ديجول» ولا «جمهورية فرنسوا ميتران»، ولا جمهورية أى رئيس آخر فى التجربة الفرنسية المعاصره، رغم تباين التوجهات والسياسات وطبائع وأوزان الرجال .
لا تنسب الجمهورية الخامسة، التى تأسست عام (1958) فى فرنسا إلى الجنرال «شارل ديجول»، الذى تبنى الدعوة لدستور جديد تغيرت بمقتضاه طبيعة النظام السياسى من برلمانى إلى شبه رئاسى، بقدر ما تنسب إلى القواعد التى بنيت عليها الشرعية الدستورية وأنهيت بمقتضاها الفوضى الضاربة فى بنية الحكم حيث كان التغيير الوزارى يحدث على أوقات متقاربة للغاية فى «الجمهورية الرابعة»، التى أعقبت الحرب العالمية الثانية .
على مدى (64) عاما تناوبت الرئاسات دون أن تمس الأسس التى قامت عليها الجمهورية الخامسة، ولا كان بوسعها الإخلال بالتوازنات السياسية العامة .
تقوضت النخب السياسية على ما تبدى فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة لكن فرنسا لم تسقط ولا وقعت فى الفراغ.
إنها القواعد الدستورية أولا وأخيراً .
هذا ما نحتاجه فى مصر إذا ما أردنا تأسيس جمهورية جديدة تستجيب لحقائق عصرها وضروراته، تنهض بشعبها وتفسح المجال للمستقبل أن يتحرك .
كان مستلفتاً فى الدعوة الرئاسية المصرية لإجراء حوار وطنى واسع تشارك فيه كل القوى والتيارات السياسية بلا استثناء وتمييز، حسب نص الدعوة، أنها اعتبرت الحوار مدخلاً لما أطلق عليها «الجمهورية الجديدة»، دون أن يكون واضحاً ما المقصود بالمصطلح نفسه .
لا يوجد تعريف واحد متفق عليه، هذا يستدعى التحديد والوضوح حتى يكون الحوار ممكناً وواصلاً إلى أهدافه .
لا تتأسس الجمهوريات الجديدة على شعارات فى الفراغ، أو على شاشات الفضائيات .
هناك من هو مستعد أن ينسب الجمهورية الجديدة إلى مشروعات عمرانية جارية .
هذا خطأ فادح فى فهم المعنى، معنى الجمهورية وأن تكون جديدة !
وهناك بالمقابل من هو مستعد أن يقول : « البشر قبل الحجر»، دون أن يزيد حرفاً واحداً عما يقصده .
«هل تحتاج مصر جمهورية جديدة ؟ » .
هذا سؤال فى الضرورات لا النوايا .
الإجابة : « نعم » .
« أى جمهورية نريد ؟ » .
هذا سؤال آخر تحتاج إجابته إلى اجتهادات تحاول بقدر ما تستطيع أن تؤسس لنظرة أخرى إلى المستقبل .
فى اعتقادى إنها «الجمهورية الدستورية»، التى تلتزم القيم الأساسية لدستور (2014) فى الفصل بين السلطات وتبادل السلطة بالوسائل السلمية وتوسيع الحريات العامة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية .
بصياغة أخرى، إنها الاستجابة لطلب بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة التى تبنتها ثورتى «يناير» (2011) و«يونيو» (2013)، دولة الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، دولة القانون والمواطنة وعدم التمييز .
بقوة الحركة إلى المستقبل سوف يتم التحول إلى «جمهورية جديدة» طال الزمن أو قصر .
قبل الحوار الوطنى وبعده تحتاج مصر إلى رد اعتبار الدستور، إنفاذ فلسفته ونصوصه .
هذا هو المدخل الوحيد لأى حديث جاد عن جمهورية جديدة .
معضلة مصر الحقيقية أن لها إرثين متناقضين فى النظر إلى الدستور .
هى أول من أطلت فى العالم العربى على الدساتير الحديثة، نصوصها وفلسفتها وأسس الحكم الرشيد وبدت تجاربها ملهمة.. وهى بالوقت نفسه من أكثر دول العالم تلاعباً بالدساتير وانقلاباً عليها !
كان دستور (1923) الإنجاز الأهم لثورة (1919)، غير أنه كان منحة من الملك «فؤاد الأول» بهدف احتواء الثورة الشعبية، وقد جرى إلغاؤه عام (1930) واستبداله بدستور آخر حتى عاد للحياة من جديد تحت ضغط الحركة الوطنية المصرية .
فى ظل حكم يفترض أنه ملكى دستورى لم يتسن لـ«الوفد»، حزب الأغلبية الشعبية بلا منازع، أن يحكم البلد سوى لسنوات معدودة تزيد قليلاً عن عدد أصابع اليد الواحدة !
شهدت مصر فى ذلك الوقت سلسلة من الانقلابات الدستورية أفضت تداعياتها إلى إطاحة النظام كله بثورة «يوليو» (1952).
بقوة التغيير وضروراته فى عالم جديد ولد بعد الحرب العالمية الثانية حكمت مصر بـ«الشرعية الثورية» .
غابت الدساتير وحضرت الوثائق كـ«فلسفة الثورة» و«الميثاق
الوطنى» و«بيان 30 مارس» .
إثر هزيمة (1967) جرت مراجعات واسعة للأسباب التى أفضت إليها، حاكم «جمال عبدالناصر» نظامه فى مراجعات دعت إلى التعددية الحزبية ودولة المؤسسات وتبدت أفكار تدعو إلى الانتقال من «الشرعية الثورية» إلى «الشرعية الدستورية» .
بعد رحيله بعام واحد فى سبتمبر (1971) استفتى الشعب على دستور أطلق عليه «دستور مصر الدائم»، لكنه أخضع لتعديلات جوهرية أدخلت عليه فى عهدى الرئيسين «أنور السادات» و«حسنى مبارك» حتى جرى تشويهه بالكامل وتحول إلى ما يشبه «الخرقة» قبل تعطيله نهائيا إثر ثورة «يناير» (2011) .
من أخطر التشوهات، التى نالت من روح ذلك الدستور وفلسفته، ما أدخله «السادات» فى (22) مايو (1980) من تعديل عليه يسمح له بتمديد رئاسته دون سقف زمنى ! .
لم يستفد «السادات» من ذلك التعديل المعيب فقد اغتيل بعد الاستفتاء بوقت قصير فيما استفاد منه خلفه «مبارك»، الذى بقى على المعقد الرئاسى لثلاثين سنة متصلة، بل فكر فى توريث الرئاسة داخل عائلته !
هذا ما يطلق عليه « دهاء التاريخ ! » .
بذات القدر لم يتمكن «مبارك» بالتشوهات التى أحدثها على الدستور فى (2007) من تصعيد نجله لرئاسة الدولة .
أدخل فى ذلك العام تعديلاً يسمح بإجراء انتخابات رئاسية مباشرة، دون أن تمس الصلاحيات شبه المطلقة للرئيس، أو تضمن نزاهة الانتخابات .
هكذا مضت التلاعبات بالدساتير إلى آخر مداها دون أن يتعلم أحد شيئاً من التجارب المريرة .
بعد ثورة «يناير» حاولت جماعة «الإخوان المسلمين» الانفراد بوضع الدستور، وإلغاء أية شراكة، وتحويل البلد كله إلى دولة دينية، غير أن محاولاتها أخفقت بفداحة، وولد دستورها ميتاً .
الدستور موضوع توافق وطنى، عقد اجتماعى له صفة الإلزام والاحترام، إذا ما جرى التلاعب به تخدش شرعيته .
المدخل الممكن الآن لحوار وطنى له صفة الجدية :
إنفاذ الدستور وتوسيع المجال العام وإطلاق سراح المحبوسين ممن لم يتورطوا فى عنف أو إرهاب على خلفية قضايا رأى .
هذه مسألة شرعية تمتد جذورها إلى ثورتى «يناير» و«يونيو» فى طلب التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة .
إنها «الجمهورية الجديدة» التى نحتاجها .
المصدر: الشروق