هي واحدة من أقوى الضربات المعنويّة التي تعرّض لها الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في مسيرته الرئاسيّة والأمنيّة. قد تكون أقسى من حادثة شكّلت إلى حدّ كبير وعيه السياسيّ: رفض موسكو السوفياتيّة تقديم الدعم لوقف محتجّين هدّدوا باقتحام مركزه الأمنيّ في درسدن سنة 1989، حين كان لا يزال ضابطاً في الـ”كي جي بي”.
طوال فترة “التمرّد”، أظهر زعيم “فاغنر” يفغيني بريغوجين أنّه يملك اليد العليا على الأرض: سيطرة سريعة على أحد أهمّ المقارّ العسكريّة الروسيّة في روستوف-أون-دون واجتياز نحو 500 كيلومتر في 24 ساعة من دون مقاومة فعليّة. حتى خطاب بوتين الذي تعهّد خلاله تدفيع “الخونة” الثمن لم يحمل الكثير من السطوة: طلب من الجيش “ألّا يرتكب خطأ قاتلاً” وكأنّه اعتراف بأنّ بعضاً منه على الأقلّ كان في وارد التفكير بذلك، كما تحدّث عن ثورة 1917 في اعتراف أيضاً بأنّ احتمال الحرب الأهليّة قائم.
يستحيل معرفة سبب عدم تحرّك الجيش الروسيّ لوقف تقدّم “فاغنر”. يبرز احتمالان على الأقلّ: عدم جاهزيّته النفسيّة واحتمال انقسامه في حال اتّخاذ قرار بضرب “فاغنر”، أو تجنّب سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيّين. في كلتا الحالتين، خسارة بوتين هائلة. تجرّأ أحدهم على تهديد سلطته وأظهر أنّه كان بحاجة إلى وسيط خارجيّ أضعف منه لوقف التقدّم نحو العاصمة. الأخبار عن مغادرته موسكو إلى سانت بطرسبرغ لم تخدمه هي الأخرى. ولّدت سريعاً مقارنات مع ملازمة الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينكسي كييف بعد انطلاق الهجوم الروسيّ.
الاتّفاق-الأحجية
بحسب المعلومات المتداولة عمّا يمكن وصفه بـ”اتّفاق بيلاروسيا” الذي أوقف تقدّم “فاغنر”، سيتمّ إسقاط التّهم القضائيّة عن بريغوجين، ومقاتلو “فاغنر” الذين شاركوا في التمرّد سيوقّعون عقوداً مع وزارة الدفاع. بريغوجين نفسه سيتوجّه إلى بيلاروسيا، وليس واضحاً ما إذا كان سيعيش منفيّاً هناك.
وصف مسؤول أميركيّ رفيع المستوى عدم دخول بريغوجين موسكو بأنّه “لغز” مشيراً إلى أنّه “بدا في موقف مهيمن”. في حديث إلى شبكة “أي بي سي”، وضع المسؤول احتمال أن يكون بريغوجين في “حالة عاطفيّة” دفعته إلى التفكير بأنّه قد يدمّر روسيا. وربّما فكّر في نهايته الشخصيّة. وأضاف أنّه من المستحيل القول ما إذا كان بريغوجين يعتقد فعلاً أنّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين سيلتزم بالاتّفاق فعلاً.
أن يكون زعيم مجموعة ارتزاقيّة في “حالة عاطفيّة” يطرح علامة استفهام واحدة على الأقلّ. عادة ما يكون هؤلاء متمرّسين في ضبط انفعالاتهم حين تكون مصالحهم، إن لم تكن حياتهم، معرّضة للخطر. يدرك بريغوجين أنّ بوتين لن يسامحه. قال الأخير في إحدى مقابلاته إنّه يستطيع أن يسامح أفعالاً مسيئة ما عدا الخيانة. بحسب الاتّهامات الغربيّة على الأقلّ، استطاعت روسيا تنفيذ محاولات اغتيال بعيدة من حدودها، كما حصل مع تسميم الجاسوس السابق سيرغي سكريبال (المملكة المتّحدة) سنة 2018، أو المسؤول الأمنيّ السابق ألكسندر ليتفينينكو (أيضاً المملكة المتّحدة) سنة 2006. نجا سكريبال بعكس ليتفينينكو. بيلاروسيا أقرب إلى روسيا، هذا إن لم تكن، إلى حدّ بعيد، روسيا نفسها.
إذاً لماذا قبل بريغوجين بالاتّفاق؟
مجدّداً إنّه اللغز. ولا يتعلّق الموضوع فقط بزعيم مجموعة “فاغنر”. لا شكّ في أنّ الغضب يعتري عدداً من عناصرها. عرّض هؤلاء حياتهم للخطر حين قبلوا التوجّه إلى موسكو قبل أن يقرّر الاستدارة. بالطبع، لن يتجرّأ كثر على دخول الجيش. حتى أنّ بعض الإعلام، مثل “فايننشال تايمز”، بدأ يتحدّث عن عدم وضوح مستقبل “فاغنر”. وليس مؤكّداً بعد مدى تمكّن الطرفين من استعادة القدرة على التنسيق في أوكرانيا. أوّلاً، أسقط مقاتلو “فاغنر” عدداً من المروحيّات العسكريّة للجيش الروسيّ خلال التمرّد. كذلك، يطرح قبول موسكو التنسيق مع “فاغنر” مع رفضها وجود بريغوجين في روسيا علامة استفهام أخرى. أساساً، إنّ الضرر الذي تسبّب به بريغوجين على الجبهة الأماميّة خلال الساعات القليلة الماضية يمكن أن يفوق أيّ منفعة ميدانيّة قد تقدّمها مجموعته للجيش الروسيّ في المرحلة المقبلة. حتى السيطرة على باخموت بعد عشرة أشهر من القتال قد يتبيّن أنّها لم تستحقّ كلّ التضحية في نهاية المطاف مقابل الجلبة التي أحدثها بريغوجين بشكل شبه يوميّ. لكن قد يكون للكرملين حسابات أخرى.
خسارة بريغوجين من الاتّفاق واضحة بالمقارنة مع ما أظهره من قوّة. المنطق الوحيد الذي يبرّر قبوله بالاتّفاق هو أنّه كان سيتعرّض لخسارة ميدانيّة قاسية، ومؤشّرات ذلك قليلة. نظريّاً، كان الحرس الوطنيّ (روسغفارديا) هو الذي سيدافع عن موسكو. لكن كما أشارت الباحثة في الشؤون الروسيّة دارا ماسيكوت، لم تكن تدريباته وتجهيزاته مخصّصة لمواجهة أرتال عسكريّة. تبقى هذه تكهّنات مراقبين من الخارج، ويستحيل معرفة بالضبط موازين القوى بين الطرفين. لكنّ المؤشّرات الخارجيّة تفرض أخذ هذه الحسابات بالاعتبار.
لم يتحدّث الاتّفاق عن مصير رئيس هيئة الأركان الجنرال فاليري غيراسيموف ووزير الدفاع سيرغي شويغو. حتى لو طالت التغييرات مراكز أدنى فسيكون بوتين قد خسر هو الآخر. لاحظ مراقبون أنّه بعكس الجنرال سيرغي سوروفيكين الذي نشر مقطع فيديو ناشد فيه مقاتلي “فاغنر” اتّباع تعليمات الرئيس، لم يكن لشويغو أو غيراسيموف أيّ إطلالات إعلاميّة. امتناعهما عن الظهور في لحظة حرجة كهذه دلالة كبيرة إلى رغبة لديهما، أو لدى بوتين نفسه، بعدم تصعيد الأمور أكثر. وهذه انتكاسة أخرى للرئيس الروسيّ.
“بروفة” للمهتمّين
يقول المسؤول الأميركيّ نفسه إنّ بوتين “مصدوم بالكامل” من سرعة قوّات “فاغنر” في التحرّك داخل روسيا. “في الوقت الحاليّ، هو يحاول ببساطة تأمين موقعه. لا يريد أن يُنظر إليه على أنّه يتفاوض حول وزير الدفاع، لكنّ المسؤول يقول إنّ الولايات المتحدة تعتقد أنّ تنازلات قُدّمت بشأن مصير سيرغي شويغو كما مصير آخرين” بحسب تقرير الشبكة نفسها.
يمكن توصيف “اتّفاق بيلاروسيا” بأنّه اتّفاق “خاسر-خاسر”. خسر بوتين كلّ ما راكمه من مظاهر قوّة طوال عقدين من الزمن. بيّن بريغوجين أنّه قادر على الوصول إلى موسكو من أقصى الجنوب في غضون 48 ساعة. غنيّ عن التذكير بأنّ العرض هذا هو “بروفة” لجميع المهتمّين، بدءاً بالجيش الأميركيّ والجيوش الأطلسيّة وصولاً إلى الفرق الصغيرة المدعومة من أوكرانيا والتي تقتحم بيلغورود بين الفينة والأخرى. والطامحون المحتملون إلى الرئاسة الروسيّة دوّنوا ملاحظاتهم.
حكم الرئيس الروسيّ وحياة زعيم “فاغنر” أصبحا على المحكّ. يبدو أنّ فصل بوتين-بريغوجين لمّا ينتهِ بعد.
المصدر: النهار العربي