إبتسام تريسي روائية سورية متميزة، تنتمي للثورة السورية، قرأنا لها أغلب إنتاجها، لمار، غواية الماء، عين الشمس، مدن اليمام، وكتبنا عنها كلها.
لعنة الكادميوم رواية ابتسام تريسي الجديدة، تنتمي للموضوع ذاته الذي اهتمت به منذ اندلاع الثورة السورية ٢٠١١ م إلى الآن، وهو سورية المجتمع والحياة والسلطة المستبدة المجرمة والشعب السّوري.
في كلِّ رواية تسلط الضوء على جانب من واقع سورية تنيره لنا، الآن ومن أجل المستقبل.
تبدأ الرواية من عام ٢٠١٥ تقريبا وما بعده، حيث تحضر “فضيلة” المرأة ذات الأصل السوري، بصحبة الصحفي الإيطالي “لورينزو” إلى تركيا، ومنها تتوجه إلى الأراضي السورية للقاء أحد عناصر الجماعات الاسلامية الذي وعدها بأن يوصلها إلى ابنتيها “آناتا و أنتونيتا” اللتان اختطفتا في سورية، حيث جاءتا من أجل القيام بأعمال إغاثة ونشاط إنساني.
تسير الرواية بطريقة السرد من قبل أشخاصها المحوريين، كلهم يتكلم من الواقع الذي عايشه وتتقاطع الأقدار، الرواية تمتد عبر شخوصها في الزمان فتعود لعشرات السنين إلى الوراء، أما في المكان، فإضافة لسورية، تتحدث عن مصر وإيطاليا والغرب عموما، تلاحق حياة أشخاصها ومصائرهم. فضيلة ابنة الريف الإدلبي السوري، من جيل الخمسينات، جدها صاحب الأراضي ممن عايشوا النشاط الوطني ضد الاستعمار الفرنسي وبداية الاستقلال، والدها اهتم بالأرض وحاول حماية إرث والده، درس مهندسا زراعيا في مصر، عاد منها مع زوجة مصرية هي أم فضيلة وأختيها، فشل بالعناية بالأرض أمام نقص المياه والجفاف الذي حل في شباط من عام الوحدة بين مصر وسوريا. غادر إلى حلب واستقر هناك مع عائلته، فضيلة وأختها الكبرى كريمة وبقية العائلة، كان دخول فضيلة إلى الجامعة معاصرا لأحداث الصدام بين نظام الاستبداد السوري، والحراك الوطني الديمقراطي السوري، والحراك الإسلامي، عبر صراعه مع الإخوان المسلمين، والذي أظهر نظام حافظ الأسد به عنف النظام وهمجيته تجاه معارضيه، واتجاه الشعب في كثير من المدن والبلدات، ومنها حلب حيث كان مصير عائلة فضيلة القتل جميعا، هي لم تكن في البيت، لذلك لم تقتل نجت من الموت بالصدفة. تتذكر فضيلة أمها المصرية الأصل وكونها مسيحية، و قصة جدتها أيضا، تتذكر جامعتها ودراستها للطب، صداقاتها البعض من أصول شيعية ، من “كفرية” الشيعية وكيف كان لهم دور في محاولة سحبها لعالم الضياع الجنسي والاجتماعي، استمر أصدقاؤها في دراسة الطب، لكن فضيلة قررت أن تترك سورية وتغادر إلى أوروبا بعد مقتل أهلها بمجازر حلب (حي المشارقة ) في ثمانينات القرن الماضي، استطاعت المغادرة إلى إيطاليا، عاشت حياة صعبة جدا، عملت بالتنظيف في أحد الفنادق لفترة من الزمن ، ثم في عيادة طبيب، ومن ثم أم روحيّة لطفلتين توأمين آناتا وأنتونيتا، استمرت ترعاهما، وبعد وفاة والدتهما أصبحت فضيلة أمهما واقعياً وعمليا، كبرت الفتاتان وتأثرتا بفضيلة كثيرا، تعلمتا منها العربية، وأصبحت القضايا الانسانية في أيّ مكان في العالم، محل اهتمامهما، ذهبتا إلى السودان وغيرها لتقديم المساعدة والدعم للناس المنكوبين، وعندما أصبحت سورية موقعا لأكثر مآسي الإنسانية في هذا العصر، قررتا الذهاب إلى هناك للقيام بدور إنساني إغاثي وصحي وغير ذلك. خافت الأم فضيلة على بنتيها، هي تعرف هذا النظام القمعي المستبد والمجرم والقاتل لشعبه، وهو قاتل منذ عشرات السنين، ألم يكن أهلها ضحيته سابقا مع عشرات آلاف الأبرياء السوريين في سبعينات و ثمانينات القرن الماضي، أليس هو من قتل مئات آلاف الشعب السوري، وجرح وأعاق واعتقل مثلهم، أليس هو من هجّر نصف الشعب السوري داخل سورية وخارجها، أليس هو من دمّر أكثر من نصف بنيان سورية وضرب اقتصادها، ذلك رداً على الربيع العربي والسوري منذ ٢٠١١ إلى الآن، كلُّ ذلك لأنّ الشعب السوري طالب بالحريّة والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل، مثل كلّ أمم الأرض، نعم قتل واستدعى كلّ قوى الشر في الأرض، روسيا وإيران وحزب الله و المرتزقة الطائفيين، زرع روح القتل وتبريره طائفيا، ودفع كثير من السوريين ليكونوا ضدّ أهلهم، برضى ودعم من النظام العالمي. نعم خافت فضيلة على بنتيها، وبالفعل ما إن وصلتا إلى سورية حتى اختفتا، ويرجح أنهما اختطفتا.
في سورية انتشرت تجارة خطف الرهائن والابتزاز للحصول على الكثير من المال، وخاصة إن كانوا من الأجانب، فإن ثمنهم مرتفع، ودولهم تدفع لتنقذهم. تواصلت فضيلة مع أحدهم على الفيس بوك يدعى “أسد الله حمزة” ناقشها كثيرا وبرر لها كونه من الجماعات الجهادية، وكونه يقاتل ضد النظام السوري، وضد الجيش الحر؛ لأنه يريد بناء الدولة الإسلامية، لم يكن يصرح أنّه من الدولة الاسلامية في العراق والشام “داعش”. وعدها أنه سيساعدها من أجل إيجاد بنتيها وإنقاذهما، لكنّ الحقيقة أنه كان يستدرجها إلى سورية، ليفعل معها ما حصل مع ابنتيها، وتكون رهينة عند داعش تستخدم لأخذ الفدية أو سريّة عند رجال الدولة الإسلامية أو تجند لعملية انتحارية، تأتي فضيلة مع لورينزو الصحفي، هو يرصد ويتابع وينشر ما يرى، يؤسس لصناعة فيلم يحكي المأساة السورية. يصلان لتركيا ومن ثم يدخلا الأراضي السورية، وهناك يصلان إلى أسد الله حمزة الذي يتبين أنّ اسمه خضر وأنّه ملازم أوّل وأنّه منشق عن الجيش السوري، وأنّه من الطائفة العلوية، ولتجد أنّها ضحية خطة المراد منها خطفها وبيعها للدولة الإسلامية في العراق والشام مثل ابنتيها، وتترك لمصيرها عند أمير الدولة الإسلامية، ستعرف فضيلة حقيقة خضر فهو أحد الجنود السوريين من الطائفة العلوية، كان في الفرقة ١٧ التي حاصرتها قوى الثورة ثم هاجمتها داعش وقتلت أغلب جنودها وهرب البعض، كان منهم، مقرّب من قائد الفرقة العلوي أيضا، بعد خروجه من الحصار واحتمال الموت في الفرقة ١٧، سلّم أمره لقادته، فهم يعرفون الصحيح ويفعلونه، حولوا علاقته إلى العقيد أيوب الملقب الثعلب، وهناك بعثه ليكون جزءاً من الدولة الاسلامية في العراق والشام “داعش”، كان العقيد هناك أيضا أميرا في الدولة الإسلامية، تدرب في معسكر الموت، تنقل بين الهوتة؛ التي هي عبارة عن انعدام صخري عميق في منطقة الرقة السورية، يشبه بئر سحيقة يرمى فيه المعتقلون احياء، والعطشانة في سورية والعراق، العقيد أحد قادة داعش، في داعش يتدربون على المفخخات، يحفظون بعض القرآن، يؤمنون بضرورة بناء الدولة الإسلامية، انتدب لأكثر من عملية؛ تفجير في تجمعات سكانية، قتال الجيش الحر، وخطف الأجانب سواء من يحضر لوحده أو من يستدرج إلى سورية، لقد كان لخضر دوراً في استدراج أناتا و أنتونيتا، ومن ثم خطفهما لصالح تنظيم الدولة الإسلامية، اللتين تحولتا لسبايا عند الأمير، وكيف استدرج الأم فضيلة بالمجيء إلى سورية، وخطفها وأحضرها للأمير، خضر رجل فاقد الانتماء لأيّ شيء سوى أوامر قادته، صار الإجرام جزءاً من شخصيته، له ميول جنسية مثلية، لا يقرب النساء، يقتل، يفجّر، يذبح، لا يتورع عن أي فعل، كان وراء خطف وذبح صائد دبابات النظام، أحد ثوار الجيش الحر، ومثله كثير. وفي لحظة صحوة ضمير أراد إنقاذ فضيلة، حيث تم القبض عليه وأعدم على الأغلب، أما فضيلة فقد تمكنت من الهرب، بعد أن عرفت أنّ ابنتيها أصبحتا من نساء الأمير، لم تستطع أن تصل إليهما، آناتا جامعها الأمير جنسيا ثم أهداها لخضر الذي عافها ولم يقربها، جهزت لتقوم بعملية إرهابية بحزام ناسف، كانت تحب الحياة لكنها أجبرت على ذلك، أختها تمكنت من الهرب، وفي النهاية تلتقي أقدار الأختين مجددا على حاجز للجيش الحر، يحاولون فك الحزام الناسف عن آناتا لكنه ينفجر فتموتا مع آخرين.
في طبقات الرواية المتراكبة نتابع قصة فضيلة مع أول حب لها في حلب “آرام” الذي أحبته في الحي والتقت به مرة واحدة فقط، ثم علمت أنه من يهود حلب، وأنه ينتمي ليهوديته أكثر من انتمائه لكونه سوري، وكيف برّر هجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة التي أصبح اسمها “إسرائيل”، وكيف هاجر هو بعد ذلك، وعاد في ٢٠٠٤م ضمن وفد ليهود سوريين الأصل لزيارة مدنهم السابقة، وكيف استقبلهم بشار الأسد وأخبرهم أنهم أبناء الوطن السوري ويمكنهم الزيارة في أي وقت شاؤوا، لقد دافع آرام عن ما يفعله الأسد بالشعب السوري، واعتبره منسجما مع مصلحة “إسرائيل”، ويومئ أن هناك توافق فيما حصل بين الصهاينة والأسد الأب والابن سواء المباشر أو عبر وسائط. ستتابع فضيلة أيضا مصائر زملائها في الجامعة الذين أصبحوا أطباء في المستقبل، وسيكونون جزءاً من شبكة قتل المعتقلين والمصابين وسرقة أعضائهم، وبيعها ضمن مافيا دولية إبان الثورة السورية الآن. ستتابع أيضا قصة وردة النيل النبتة القاتلة التي تمتص الماء وتمتدُّ بشكل سرطاني في الأراضي، علمت عنها فضيلة من والدتها في حوض النيل، وعجز الدولة عن علاج امتدادها ومنع ضررها، وكيف كُلّف خضر في مرحلة ما بتوزيع بذورها في مناطق كبيرة حيث تواجد الثوار وحاضنتهم الشعبية لتخريب أراضيهم الزراعية، وامتصاص مخزونهم المائي، وزيادة نسبة الكادميوم الذي تبثه النبتة في الأرض، المادة القاتلة للحياة والبشر.
عند لقاء الأم فضيلة وابنتيها آناتا و أنتونيتا مع الصحفي على الحدود السورية، ينفجر الحزام الناسف في آناتا وتموت وأختها، هنا تنتهي الرواية.
في تحليل الرواية نقول:
إننا أمام رواية تسجيلية للحدث السوري في إحدى مراحله المتأخرة من ثورة الشعب السوري على النظام، تسجيل للواقع بمظاهره المباشرة، وعمقه وخفاياه وأبعاده الاستراتيجية، نحن أمام لحظة ذبح الشعب السوري وإهدار انسانيته، فقط لأنّه طالب بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل، ترك الشعب السوري ليكون ضحية القتل والتشريد والاعتقال والذل والخنوع، ودمِّرت سورية على رؤوس أهلها، تم فرز طائفي؛ طائفة النظام وبقية الشعب، البعض ثار والبعض آثر الصمت والبعض هرب إلى المجهول، كلّ قوى الشر العالمي ساعدت النظام المستبد القاتل، روسيا وإيران و الميليشيا الطائفية حزب الله وغيره، وصمت العالم مباركا ما يحصل وعلى رأسه أمريكا، تحرك النظام ليستثمر كلّ شيء، تدمير البيوت لسرقة محتوياتها، موت واعتقال الناس ليسرق أعضاءهم، يخلق داعش المتوحشة، فيسيء للإسلام، ويؤكد أن المسلمين السنة قتلة ودينهم يحرضهم على ذلك، ويظهر أنه ضحية إرهابها وإرهاب الإسلاميين، سنعلم أنّ النظام يرتبط بالعمق بكلّ خطط الضرر بمصلحة السوريين والعرب والمسلمين، نظام معتمد من “الإسرائيليين” والغرب كما هو معتمد من قبل روسيا وإيران والأنظمة العربية الاستبدادية قاطبة. الرواية تومئ إنّ أسوأ ما يمكن أن يحدث لشعب قد حدث للشعب السوري، كما جاء على لسان المؤرخ السوري سهيل ذكّاى قبل وفاته، وتوضح أنّ ذلك ممكن الفهم وفق معادلة مصالح النظام وبعض الطائفة العلوية وحلفاؤها الدوليين، لكنه ليس مقبولاً مطلقاً ضمن أيّ عرف ديني أو إنساني، إنّه هدر لإنسانية الإنسان السّوري، ليس كأفراد فقط، بل كجماعة وطنية ومجتمع يراد إبادته فعلا.
لكن هل سيحدث ذلك؟!. ذلك ما تنبئنا به الأيام القادمة.