مع الأيام الأولى التي تلت تهجير عشرات الآلاف من منطقة ريف حمص الشمالي وسط سوريا، في أيار عام 2018 على يد النظام السوري وروسيا والميليشيات الإيرانية، بدأت السلبية والعشوائية تطفو على مختلف مناحي الحياة هناك، خاصة الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، والآن، مع مضي خمس سنوات على حملة التهجير نحو الشمال السوري، وصلت المنطقة إلى أسوأ مراحلها، فقد باتت أشبه بسجن كبير يقيّد فيه الشباب وتكمم داخله الأفواه، وتُقتل فيه الآمال بنورٍ في نهاية النفق المظلم.
خلال السنوات الخمس الماضية، تسلّطَ عناصر الميليشيات الإيرانية والشبيحة الموالون للنظام السوري من القرى المحيطة ذات الأغلبية العلوية على رقاب المدنيين في ريف حمص الشمالي، لا سيما منطقة الحولة المحاطة بطوق من مدن وبلدات الطائفة العلوية والتي يسيطر عليها ميليشيات طائفية حاقدة على أبناء المنطقة بسبب مشاركتهم في الثورة السورية.
وجد “الشبيحة” بيئة خصبة للانتقام الذي يصل إلى حد القتل والخطف، بعد أن فتح النظام السوري الباب على مصراعيه أمام ميليشياته للتدخل في مختلف تفاصيل الحياة شمالي حمص، وسرعان ما تطور نشاطهم وانتهاكاتهم ليطول الكبير والصغير، والقطاعات الخدمية والتعليمية والطبية والزراعية وغيرها، في انعكاس مباشر للحالة الانتقامية للنظام وميليشياته، من مدنيين كان ذنبهم الوحيد الانخراط في الثورة والمطالبة بالحرية والعدالة.
الانتهاكات.. من الطائفية الانتقامية إلى الاعتقال والحرمان من الخدمات
تتنوع الانتهاكات المرتكبة من قبل النظام السوري بحق المدنيين شمالي حمص، وتشمل القتل تحت التعذيب والاعتقالات وتغلغل الميليشيات الإيرانية وحرمان السكان من أبسط الحقوق، كالماء والكهرباء، ما انعكس سلباً على أعمالهم.
وسُجلت آخر الانتهاكات قبل أيام، إذ أقدمت قوات إيرانية على قتل أربعة مدنيين من ريف حمص الشمالي، عبر استهدافهم بواسطة مدفع 23 في أثناء عملهم في الحصاد بمنطقة السخنة شرقي المحافظة.
والبعد الطائفي الذي غذاه النظام في المنطقة بين السنة والعلوية منذ بداية الثورة السورية، ما زالت ارتداداته قائمة وزادت بعد التهجير، حيث بات بإمكان صاحب القوة والسلاح الانتقام أو الإجرام دون قيد أو محاسبة، وآخر الأمثلة على ذلك كان عندما قتل رجل من الطائفة العلوية نحو شهر شخصاً في مدينة كفرلاها بمنطقة الحولة وأصاب آخر، بسبب خلاف وقع بينهم، وسط غياب للقوى الأمنية التابعة للنظام.
وأفاد الناشط الإعلامي المنحدر من ريف حمص، أنس أبو عدنان، بأنه وعلى مستوى المجال الأمني، اعتقلت قوات النظام مئات الشبان من مدن وبلدات شمالي حمص ممن قرروا البقاء هناك بعد عملية التهجير، بسبب نشاطهم السلمي في الثورة السورية.
وأكد “أبو عدنان” في حديث مع موقع “تلفزيون سوريا” أن الاعتقالات شملت عدداً من الشبان الذين انشقوا عن جيش النظام، وبعض المتطوعين السابقين في مؤسسة الدفاع المدني السوري، وتم إرسالهم للقتال في صفوف النظام بريف حمص الشرقي، وفي الشمال السوري.
وشملت حملات الاعتقال عدداً من الشبان الذين قرروا العودة من تركيا أو الشمال السوري أو لبنان، إلى ريف حمص الشمالي، ويؤكد الناشط أن بعض هؤلاء الشبان عادوا إلى ذويهم جثثاً هامدة بعد مضي أسابيع قليلة على اعتقالهم.
ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدة حالات قتل في سجون النظام لشبان من ريف حمص، حيث قالت في وقت سابق إن الشاب مجد طريف العبد الله، وهو من أبناء قرية كفرلاها بريف حمص الشمالي، اعتقلته قوات النظام في عام 2019، لدى عودته من تركيا إلى سوريا، مضيفة أنها حصلت فيما بعد على معلومات تُشير إلى وفاته، علماً أنه كان بصحة جيدة لحظة اعتقاله، ما يرجح بشكل كبير وفاته بسبب التعذيب داخل سجون النظام.
كذلك أكدت الشبكة العام الماضي، أن “الشاب معتصم فاضل قناطري (مواليد 1995)، من قرية (طير معلا) بريف حمص الشمالي، اعتقلته قوات النظام عام 2019 أثناء مروره على حاجز (اللواء 26) في القرية”، مشيرة إلى أن عائلته علمت في 14 من شباط 2022 أنه توفي داخل أحد السجون التابعة لقوات النظام، بسبب التعذيب ونقص الرعاية الصحية.
ترهل الحالة الاقتصادية والخدمية
دخلت منطقة شمالي حمص حالة من الترهل الاقتصادي، بالتزامن مع سحق الطبقة الوسطى ومعاناة غالبية السكان من الفقر المدقع، لأسباب كثيرة، منها تسلط ضباط النظام على التجار وأصحاب المهن، وغياب المقومات الرئيسية للعمل كالكهرباء، وانتشار البطالة وشح فرص العمل، مع عزوف الشبان عن السفر لمحافظات أخرى للعمل، خشية اعتقالهم على حواجز النظام بحجة التخلف عن “الخدمة الإلزامية” في جيش النظام.
الصحفي المنحدر من حمص، بسام الرحال، قال في حديث مع موقع “تلفزيون سوريا”، إن مناطق ريف حمص الشمالي تعاني من حالة اقتصادية متردية جداً نتيجة ارتفاع أسعار مختلف المواد، بدءاً من المواد الغذائية مروراً بالمحروقات والأدوية، ما خلق نوعاً من عدم الاستقرار والأمان في هذه المناطق التي بدأ الفقر ينهش بسكانها، مما اضطر الكثير منهم للجوء ربما لـ “طرق ملتوية” لتحصيل قوت يومهم.
ووفقاً للرحال، فإن ما “زاد الطين بلة، الإتاوات والمبالغ المالية التي تفرضها الأجهزة الأمنية على السكان مقابل عدم اعتقالهم بتهم مختلفة، كنوع من الابتزاز المالي، بتوجيه مباشر من الضباط العلويين المسؤولين عن المنطقة”.
أما بالنسبة للخدمات، يؤكد الصحفي أنها تكاد تكون شبه معدومة في مناطق ريف حمص الشمالي، فعلى صعيد الكهرباء، يصل التيار لمدة نصف ساعة في كل خمس ساعات، وفي بعض الأحيان يُحرم السكان من الكهرباء لأيام بسبب الأعطال، وهذا الأمر ينطبق على المياه.
من جهته ذكر الناشط “أبو عدنان” أن المنطقة لم تشهد أي نشاطات خدمية من قبل مؤسسات النظام، بل إن الأخير سعى لتضييق الخناق على المدنيين وحرمانهم من أبسط الحقوق، ومن الأمثلة على ذلك تفكيك أبراج الإنترنت دون تأمين بديل.
ويضاف إلى ذلك امتهان عناصر النظام للسرقة دون رادع، ويشمل ذلك سرقة الدراجات النارية، وبطاريات وإطارات السيارات، والمعدات الزراعية وغطاسات المياه، والأسلاك الكهربائية.
وفي الوقت نفسه لم يولِ النظام أي أهمية للملف التعليمي، إذ أُجبر الطلاب على الدراسة داخل مدارس متصدعة تغيب عنها أدنى المقومات، ووفقاً للناشط، فقد انهار سقف مدرسة على رؤوس الطلاب في مدينة تلبيسة نتيجة تعرضها لقصف سابق من الطيران، ما أدى إلى وفاة طفل وإصابة آخرين.
وأشار “أبو عدنان” إلى أن نسبة التزام النظام ببنود التسوية تعتبر “صفراً”، مع غياب دور الجانب الروسي الذي يعتبر نفسه ضامناً، وأدى ذلك إلى ارتفاع وتيرة هجرة الشباب من المنطقة، سواء باتجاه لبنان، أو الشمال السوري وتركيا.
انتشار كبير للمخدرات
راجت تجارة وتعاطي المخدرات بين الآلاف من شباب ريف حمص الشمالي، بعد أن أغرقت قوات النظام، وقوات “حزب الله” اللبناني والميليشيات الإيرانية المنطقة بالمواد المخدرة والحشيش.
وذكر الناشط الإعلامي من مدينة تلبيسة فراس السعيد، في حديث مع موقع “تلفزيون سوريا” أن تجارة المخدرات تنتشر بشكل كبير في مدن وبلدات شمالي حمص، وسط الصراعات الداخلية بين عصابات تصنيع وترويج المخدرات المرتبطة بالنظام بشكل مباشر.
ولفت السعيد، إلى أن التوترات الأمنية التي شهدتها مدينة تلبيسة خلال شهر أيار الماضي، كان سببها الرئيسي هو التنافس بين العصابات على تجارة المخدرات واندلاع اشتباكات فيما بينها، إضافة إلى أسباب أخرى منها اعتقال النظام لعدد من المدنيين.
مبادرات محلية لتدارك الأزمات
وأضاف الناشط أن حالة الفلتان الأمني وانتشار المخدرات والخطف، دفع مجلس عوائل تلبيسة لعقد مشاورات من أجل “معالجة الفساد، ومنع تجارة المخدرات وترويجها، ومكافحة الجريمة المنظمة وغير المنظمة، والسرقات، والخطف”.
وقرر المجلس منع حمل السلاح ليلاً أو نهاراً، ومنع إطلاق النار لأي سبب كان، وتشكيل قوة من أبناء المدينة تزيد على 300 شخص، لحماية مداخل ومخارج المدينة والطريق الدولي، يحق لها توقيف أي شخص يخالف الشروط المتفق عليها.
وبسط النظام السوري سيطرته بدعم روسي على كامل ريف حمص الشمالي في أيار عام 2018 بعد حصار دام لسنوات، وتهجير عشرات الآلاف من السكان على تسع دفعات إلى الشمال السوري، وما إن انتهت الحافلات الخضراء من نقل المهجرين قسرياً نحو الشمال، حتى بدأت العمليات الانتقامية من قبل الجهات الأمنية التابعة للنظام بحق الكثير ممن بقي هناك، ليكون الريف الشمالي لحمص انعكاساً لما هو الحال في مختلف مناطق سيطرة النظام، التي تشهد موتاً بطيئاً، وقتلاً لكل أشكال الحياة بأساليب ممنهجة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا