مع عودة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى السلطة في إسرائيل ومعه ائتلاف يميني متطرف ضيق، تحطم حل الدولتين الوهمي، ولم يستح أعضاء حكومته الجديدة من إبداء آرائهم في ماهية إسرائيل، وما يجب أن تكون عليه في كل الأنحاء التي تسيطر عليها: إسرائيل الكبرى التي لا تعرف على أنها دولة يهودية فحسب، بل دولة يرسخ قانونها تفوق اليهود وسيادتهم على جميع الفلسطينيين الذين لا يزالون هناك. وعلى هذا، يستحيل تجنب مواجهة واقع الدولة الواحدة.
وليست حكومة إسرائيل الراديكالية الجديدة هي من أنشأ هذا الواقع، لكنها هي من حالت دون إنكاره. وتحول وضع “احتلال” الأراضي الفلسطينية الموقت إلى حال دائمة في دولة تحكم فيها فئة من الناس فئة أخرى. وفي عودة إلى الماضي، كان الوعد بحل يجيز قيام دولتين مقبولاً، وذلك على صورة مستقبل بديل، في السنوات التي تلت اتفاقيات أوسلو عام 1993. ويومها، كان ثمة أطراف تؤيد التسوية على كلا الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، وأحرز تقدم ملموس، ولو أنه عابر، وحمل على بناء مؤسسات دولة فلسطينية افتراضية، بيد أن ذلك الوقت انصرم منذ زمن بعيد. وبات من غير المنطقي، اليوم، القبول بأن تحجب رؤى مستقبلية الترتيبات القائمة والراسخة رسوخاً عميقاً.
وكان ينبغي أن نتعامل، منذ وقت طويل، مع ما يعنيه واقع الدولة الواحدة من منظور المؤسسات والسياسة والفهم. ففلسطين ليست شبه دولة تنتظر تقليدها السلطة رسمياً، وإسرائيل ليست دولة ديمقراطية تحتل الأراضي الفلسطينية بالصدفة. فلطالما شكلت جميع الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن دولة واحدة تحت الحكم الإسرائيلي، وتسري عليها، أرضاً وناساً، أنظمة قانونية مختلفة تماماً، ويعامل فيها الفلسطينيون على الدوام معاملة طبقة دنيا. وصناع السياسة والمحللون الذين يتجاهلون واقع الدولة الواحدة جزاؤهم الفشل المستحق وخسارة المكانة، فهم لم يفعلوا شيئاً غير التستر على عمق رسوخ الوضع الراهن.
وتتجلى بعض الآثار المترتبة على واقع الدولة الواحدة من غير لبس. ولن يكف العالم عن الاهتمام بحقوق الفلسطينيين، مهما بلغت رغبة بعض مؤيدي إسرائيل (وبعض الحكام العرب) في حصول ذلك. وعلى مدى العام الماضي، تعاظم العنف ومعه المصادرات وانتهاكات حقوق الإنسان. وفي كل يوم يمضي، والفلسطينيون حبيسو نظام قمعي وعدواني إسرائيلي يتوسع على الدوام في إطار قانوني، يزداد خطر نشوب مواجهة عنيفة وواسعة النطاق، ولكن الأمر الغامض بعض الشيء هو كيف ستتكيف الجهات الفاعلة والوازنة مع تحول واقع الدولة الواحدة من سر ذائع إلى حقيقة ماثلة، هذا في حال تكيفت الجهات هذه.
ويبدو أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، ملتزم كل الالتزام دوام الوضع الراهن، ولا دليل على أن إدارته فكرت في هذه القضية، أو بذلت جهداً يتعدى إدارة الأزمات والتعبير عن الاستياء. والحق يقال، تتغلغل في واشنطن روح حالمة. ولا يزال كثير من المسؤولين الأميركيين يحاولون إقناع أنفسهم بأن هناك فرصة للعودة إلى مفاوضات حل الدولتين، بعد مغادرة حكومة نتنياهو المنحرفة والضالة، ولكن تجاهل الواقع الجديد ليس خياراً مطروحاً وقتاً أطول. فثمة عاصفة قادمة في إسرائيل وفلسطين، تتطلب استجابة عاجلة من الدولة التي أسهمت في قيام دولة واحدة تدعم التفوق اليهودي. وإذا كانت الولايات المتحدة تريد تجنب غلبة حال من الاضطراب الشديد على الشرق الأوسط، وتتحدى سياساتها العالمية الأوسع، فعليها الكف عن حل إسرائيل من التزام معايير النظام الدولي الليبرالي الذي تأمل واشنطن في قيادته وبهياكله.
لا يظهر مشروع الدولة الواحدة بين الاحتمالات المتوقعة في المستقبل. فهو واقع قائم، بغض النظر عما يعتقده زيد أو عمرو من الناس. وبين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، تتحكم دولة واحدة في دخول وخروج الأشخاص والبضائع، وتشرف على الأمن، ولديها القدرة على فرض قراراتها وقوانينها وسياساتها على ملايين الأشخاص من دون موافقتهم.
ومن حيث المبدأ، يمكن لواقع الدولة الواحدة أن يقوم على أساس الحكم الديمقراطي والمواطنة المتساوية، بيد أن مثل هذا الترتيب ليس بين الخيارات المتاحة في الوقت الحالي. واضطرت إسرائيل إلى الاختيار بين ترسيخ هوية إسرائيل اليهودية من جهة والديمقراطية الليبرالية من جهة أخرى، واختارت الأولى. وعززت نظام الامتياز اليهودي، وهو يشهد تمييزاً بنيوياً ضد غير اليهود، أي استبعادهم وفق مخطط هيكلي متدرج: فيعيش معظم الأشخاص غير اليهود حالاً من التمييز الشديد والعزل والتسلط، في حين يتمتع بعض آخر وحده بمعظم الحقوق التي يتمتع بها اليهود، وليس كلها.
وفي السنوات الأخيرة من القرن العشرين، لاحت من عملية السلام إغراءات بحدوث شيء مختلف، ولكن منذ قمة كامب ديفيد عام 2000 في قيادة الولايات المتحدة، وإخفاق المفاوضات في تحقيق حل الدولتين، صرفت عبارة “عملية السلام” في معظم الأوقات الانتباه عن الوقائع، وقدمت ذريعة لتجاهل هذه الوقائع.
وأسهمت الانتفاضة الثانية، وهي اندلعت بعد مدة وجيزة من خيبة الأمل التي نتجت عن قمة كامب ديفيد والتوغلات الإسرائيلية اللاحقة في الضفة الغربية، في تحويل السلطة الفلسطينية إلى ما يزيد قليلاً على مقاول فرعي ينفذ مشاريع ضامنة لأمن إسرائيل. وأدت الانتفاضة الثانية إلى تسريع انحراف السياسة الإسرائيلية إلى اليمين، وإلى التحولات السكانية الناجمة عن انتقال المواطنين الإسرائيليين إلى السكن في الضفة الغربية، وشرذمة المجتمع الفلسطيني جغرافياً. وتجلى التأثير التراكمي لهذه التغييرات، خلال أزمة عام 2021 الناجمة عن الاستيلاء على منازل الفلسطينيين في القدس الشرقية، وهي أزمة لم تقتصر على تحريض المستوطنين الإسرائيليين والفلسطينيين بعضهم على بعض، بل حرضت المواطنين اليهود والفلسطينيين في إسرائيل كذلك، فتواجهوا في صراع أدى إلى تقسيم المدن والأحياء.
وتتمثل هذه الاتجاهات في حكومة نتنياهو الجديدة، وهي ائتلاف من اليمينيين المتدينين والقوميين المتطرفين. ويتباهى أعضاؤها بمهمتهم وهي بناء إسرائيل جديدة على صورتهم: أقل ليبرالية، وأكثر تديناً واستعداداً للتمييز ضد غير اليهود. وفي هذا السياق، كتب نتنياهو أن “إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها” بل هي “دولة للشعب اليهودي- دون سواه”. وفي الأثناء، أعلن الرجل الذي عينه وزيراً للأمن القومي، إيتمار بن غفير، أن غزة يجب أن تكون “لنا” وأنه “يمكن للفلسطينيين الذهاب إلى… السعودية أو أماكن أخرى، مثل العراق أو إيران”. ولطالما لاقت هذه الرؤية المتطرفة قبولاً في أوساط أقلية من الإسرائيليين في الأقل، وجذورها عميقة في الفكر الصهيوني وممارساته. وكسبت أنصاراً غداة وقت وجيز على احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية في حرب عام 1967. وعلى رغم أنها ليست وجهة نظر سائدة بعد، فإنها قد تعبر ظاهراً عن غالبية المجتمع الإسرائيلي، وليست مجرد موقف هامشي.
ولطالما كان واقع الدولة الواحدة ملموساً لأولئك الذين يقيمون في إسرائيل وفي الأراضي الخاضعة لسيطرتها، ولأي شخص لاحظ التحولات الجارية على الأرض. وفي السنوات القليلة الماضية، حصل تغيير بارز. فإلى وقت قريب، نادراً ما كانت الجهات النافذة تقر بواقع الدولة الواحدة، على خلاف تجاهلها السابق أولئك الذين جهروا بالحقيقة، أو معاقبتها لهم لأنهم صرحوا بها. وعلى وجه السرعة، انقلب ما لا يجوز قوله إلى رأي شائع تقريباً.
الديمقراطية للبعض
وقد يحتاج مراقبون كثيرون إلى نظارات جديدة ليروا بوضوح حقيقة الدولة الواحدة. فهم اعتادوا تمييز الأراضي المحتلة من الداخل الإسرائيلي نفسه، أي الدولة على صورتها قبل عام 1967، حين استولت إسرائيل على الضفة الغربية وغزة، ويعتقدون أن سيادة إسرائيل تقتصر على الأراضي التي سيطرت عليها قبل عام 1967، ولكن هناك فرق بين الدولة والسيادة. فالدولة تعرف بما تسيطر عليه، في حين تفترض السيادة اعتراف الدول الأخرى بمشروعية تلك السيطرة.
وتسمح [النظرة] الجديدة هذه بالفصل بين مفاهيم الدولة، والسيادة، والأمة، والمواطنة، على نحو يسهل رؤية واقع الدولة الواحدة الذي يستند، من غير شك، إلى علاقات التفوق والدونية بين اليهود وغير اليهود، في كل الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية المطلقة، وإن على تباين واختلاف. فلننظر إلى إسرائيل من منظور الدولة. فهي تسيطر على منطقة تمتد من النهر إلى البحر، واستخدام القوة وقف عليها، وتستعمل تلك القوة في فرض حصار شديد ومتصل على قطاع غزة، والسيطرة على الضفة الغربية بواسطة نظام من حواجز التفتيش، ودوريات الشرطة، وتوسيع المستوطنات بلا هوادة.
وبعد أن سحبت الحكومة الإسرائيلية قواتها من غزة، في عام 2005، بقيت تسيطر على معابر الدخول إلى القطاع والخروج منه. وعلى مثال أجزاء من الضفة الغربية، تتمتع غزة ببعض الحكم الذاتي. ومنذ الحرب الأهلية الفلسطينية القصيرة التي اندلعت في عام 2007، تولت حركة “حماس” الإسلامية إدارة القطاع، وهي لا تتسامح مع أصحاب الرأي المعارض، ولكن لا ساحل القطاع، ولا مجاله الجوي، ولا حدوده، خضع لحكم “حماس”. وفي تعبير آخر، وبحسب المنطق، تشمل الدولة الإسرائيلية كل الأراضي بين حدودها مع الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
وكان التغاضي عن هذا الواقع سائغاً لأن إسرائيل لم تعلن، رسمياً، سيادتها على تلك المناطق. فهي ضمت بعض الأراضي المحتلة، ومن بينها القدس الشرقية وهضبة الجولان، من غير أن تعلن بعد سيادتها على بقية الأراضي الخاضعة لسيطرتها. والأرجح أن عدداً قليلاً من الدول قد يعترف بمثل هذه المزاعم إذا صرحت إسرائيل عنها.
والحق أن السيطرة على الأرض، وتعزيز الهيمنة المؤسسية عليها، من غير إضفاء طابع رسمي على السيادة، يمكن إسرائيل من الحفاظ على واقع الدولة الواحدة بحسب شروطها هي. وعلى هذا، يسعها أن تنكر مسؤوليتها عن معظم الفلسطينيين وحقوقهم، وتترتب هذه المسؤولية عن إقامتها على أراضيها، لكنهم ليسوا مواطني الدولة. وهي تبرر هذا التمييز بشكل ماكر، وتتذرع ببقاء حل الدولتين ممكناً. وعدم إضفاء الطابع الرسمي على السيادة يتيح الإقرار لإسرائيل بديمقراطية دولتها في علاقتها بمواطنيها، وفي الوقت نفسه يحررها من مساءلة الملايين من سكانها الآخرين. وبرر هذا الترتيب لكثير من مؤيدي إسرائيل في الخارج الاستمرار في الادعاء بأن هذا كله موقت، وبأن إسرائيل لا تزال دولة ديمقراطية ليبرالية، وبأن الفلسطينيين سيمارسون حقهم في تقرير المصير يوماً ما.
والحق أن ديمقراطية إسرائيل، داخل حدود ما قبل عام 1967، تكبلها قيود يراها الناظر إليها من منظور المواطنة، فقد أدت هوية إسرائيل اليهودية، وواقع الدولة الواحدة إلى مجموعة من التصنيفات القانونية الملتوية التي توزع على السكان حقوقاً ومسؤوليات وحمايات متفاوتة. فقانون “الدولة القومية”، الذي أقر عام 2018، يعرف إسرائيل “دولة قومية للشعب اليهودي” ويحصر “ممارسة حق تقرير المصير القومي فيها بالشعب اليهودي فحسب”، ولا يأتي على ذكر الديمقراطية أو المساواة للمواطنين غير اليهود.
وعلى المثال الهرمي هذا، لا يتمتع بالمواطنة الكاملة إلا اليهود الإسرائيليون (أي أولئك الذين تتفق يهوديتهم مع المعايير الحاخامية)، وهم يعتبرون مواطنين من غير شرط. ويتمتع الفلسطينيون الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، ويقيمون في إسرائيل قبل عام 1967، بحقوق سياسية ومدنية، ولكن تقيد قيود قانونية وغير قانونية حقوقهم ومسؤولياتهم وحمايتهم. ويملك الفلسطينيون المقيمون في القدس خيار الاعتراف بهم مواطنين إسرائيليين، لكن معظمهم يرفضون الخيار هذا، لأن قبوله يعتبر خيانة. وفي المقابل، يصنف الفلسطينيون المقيمون في المناطق الفلسطينية في أدنى مرتبة على الإطلاق. وتتبع حقوقهم ومسؤولياتهم مكان سكنهم، علماً أن المقيمين في غزة ينزلون أسفل التسلسل الهرمي، ومنذ أن أصبحت السلطة في يد حركة “حماس” انحطت حالهم فوق انحطاطها قبل “حماس”. وعند الطلب إلى شخص فلسطيني وصف وضعه القانوني، قد تدوم إجابته دقائق، وتظل على رغم ذلك غامضة.
ومع بصيص أمل بحل الدولتين، واعترافه بحقوق الفلسطينيين، كان جائزاً ربما حمل الوضع، داخل حدود إسرائيل 1967، على مساواة قانونية يشوبها تمييز فعلي ضد بعض المواطنين، وهو واقع مؤسف لكنه شائع في بلدان كثيرة. إلا أن الاعتراف بواقع الدولة الواحدة، يتكشف عن شيء أشنع وأخبث.
ففي الدولة الواحدة، هناك أشخاص تخضع تحركاتهم، وسفرهم، وحالتهم المدنية، وأنشطتهم الاقتصادية، وحقوقهم في الملكية وحصولهم على الخدمات العامة، لقيود مشددة. وثمة نسبة كبيرة من المقيمين الأصليين والدائمين هناك، ممن لهم جذور عميقة وثابتة في أرض الدولة، لا وطن لهم ولا جنسية. والتصنيفات ودرجات الهامشية هذه يعمل بها بموجب تدابير قانونية وسياسية وأمنية، وتفرضها جهات حكومية نافذة لا تترتب عليها مسؤولية إلا أمام شطر من السكان فحسب.
وعلى رغم بعض الإجماع على الإقرار بالإجحاف المستمر والشديد الذي يدفع هذا الواقع، فتسميته باسمه ستثير جدلاً سياسياً حاداً. وأدت مجموعة من التقارير الصادرة عن منظمات غير حكومية إسرائيلية ودولية، توثق الإجحاف وأوجه عدم المساواة، إلى نقل مصطلح “الفصل العنصري” من هامش النقاش الإسرائيلي الفلسطيني إلى قلبه. ويدل مصطلح “الفصل العنصري” على نظام التمييز العنصري الذي فرضته حكومة الأقلية البيضاء، في جنوب أفريقيا، ورسخت به امتيازات العرق الأبيض وهيمنته، بين عام 1948 وأوائل تسعينيات القرن الماضي. ومذ ذاك، عرفه القانون الدولي، والمحكمة الجنائية الدولية، ببرنامج ممارسة الفصل والتمييز العنصريين على نحو مشروع. واعتبر جريمة في حق الإنسانية. واستعملت منظمات حقوق الإنسان الرئيسة، بما فيها “هيومن رايتس ووتش”Human Rights Watch و”منظمة العفو الدولية” Amnesty International، هذا المصطلح في حال إسرائيل. وكذلك فعل عدد من الأكاديميين. وفي استطلاع رأي، أجري في مارس (آذار) 2022 وشمل باحثين تتناول دراساتهم منطقة الشرق الأوسط وينتمون إلى ثلاث جمعيات أكاديمية كبيرة، وصف 60 في المئة من المشاركين الوضع في إسرائيل والأراضي الفلسطينية بأنه “واقع دولة واحدة يسوده تمييز قريب من الفصل العنصري”.
وقد لا يكون هذا المصطلح دقيقاً ومناسباً لوصف الوضع في إسرائيل. فنظام التمييز البنيوي أكثر تطرفاً وقسوة من ذاك السائد في أقل الدول ليبرالية. ولكنه، خلافاً للتعريف الذي يصدق على الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والتعريف المعتمد بموجب القانون الدولي، ليس قائماً على أساس العرق، بل على أساس الإثنية، والقومية، والدين. وقد يكون هذا التمييز مهماً لمن يرغب في اتخاذ إجراءات قانونية في حق إسرائيل. إلا أنه أقل أهمية من الناحية السياسية، ويكاد يفتقر إلى معنى حين يتعلق الأمر بتحليل الواقع. فالمهم، سياسياً، هو أن مصطلحاً كان يحظر استعماله في الماضي تحول، على نحو متزايد، إلى أداة فهم شائع ومناسب للواقع في إسرائيل. ومن ناحية التحليل، ما يهم هو أن تعبير “الفصل العنصري” يصف الوقائع على الأرض وصفاً دقيقاً، ويبدو بداية لخطط ترمي إلى تغيير هذه الوقائع. والفصل العنصري ليس عبارة سحرية قد تغير الواقع بمجرد لفظها، بيد أن دخولها في الدائرة السياسية السائدة ينم عن اعتراف واسع بأن بنيان الحكم الإسرائيلي صمم في سبيل المحافظة على التفوق اليهودي، على الأرض التي تسيطر عليها الدولة. ومن حيث المبدأ [ووفقاً للتعريف المعتمد للمصطلح]، قد لا يعتبر النظام الإسرائيلي نظام فصل عنصري، لكن الشبه بين النظامين قوي.
الاصطدام بواقع مرير
وفي الأساس، ينبغي أن يكون الإسرائيليون والفلسطينيون هم الذين يتعاملون مع واقع الدولة الواحدة. ولا شك في أن يؤدي هذا الواقع إلى تعقيد علاقة إسرائيل ببقية العالم. وعلى مدى نصف قرن، سمحت “عملية السلام” للديمقراطيات الغربية بالتغاضي عن الاحتلال الإسرائيلي لمصلحة مستقبل طموح ينتهي فيه الاحتلال بحل يتفاوض عليه الطرفان، كما لا شك كذلك في أن الديمقراطية الإسرائيلية (على رغم عيوبها)، والتمييز الاسمي فحسب بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة ساعدا الأجانب على الإشاحة بنظرهم عما يحصل فعلاً، ولكن كل هذه الصوارف عن النظر ولت الآن. والاعتراف على نطاق واسع بواقع الدولة الواحدة لم يبدأ إلا اليوم، إلا أنه قديم وأصيل في القانون والمجتمع والسياسة الإسرائيلية. ولا تتوافر بدائل جاهزة عن هذا الواقع، بعد انقضاء عقود على آخر عملية سياسية ذات مغزى سعت في إنشاء بديل.
وقد لا يغير الاعتراف بهذه الحقائق شيئاً. فبعض القضايا العالمية الشائكة والمزمنة لم تلق حلاً على الإطلاق. فنحن نعيش في عالم تسوده الشعبوية التي تتهدد الديمقراطية وحقوق الإنسان بالإطاحة. ويتوسل القادة الإسرائيليون بـ”اتفاقيات أبراهام” التي أنشأت علاقات بين إسرائيل والبحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتحدة، حجة على أن التطبيع مع الدول العربية لا يحتاج إلى حل القضية الفلسطينية. وقد يستمر القادة الغربيون، من جهتهم، في التظاهر بأن إسرائيل تشاركهم قيمهم الديمقراطية الليبرالية، في وقت تتمسك فيه جماعات كثيرة مؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة بدعم تل أبيب. وقد يجد اليهود الليبراليون الأميركيون صعوبة في الدفاع عن إسرائيل تجتمع فيها سمات نظام الفصل العنصري، من غير أن يكون كبير أثر عملي لاحتجاجاتهم.
وعلى رغم ذلك، ثمة أسباب تدعو إلى الاعتقاد أن الانتقال من عالم طموح يتسع لحل الدولتين إلى عالم حقيقي تسود فيه الدولة الواحدة، قد يكون صعباً. ويدل انتشار تشبيه النظام الإسرائيلي بنظام الفصل العنصري، وصعود حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات BDS على إسرائيل، ورد الفعل العنيف ضد كليهما، إلى أن المشهد السياسي تغير. وربما تتمتع إسرائيل بأمن مادي، واعتراف دبلوماسي إقليمي فوق ما تمتعت به في أي وقت مضى، وقليل من القيود الدولية أو المحلية يقيد أنشطتها في الضفة الغربية، ولكن السيطرة تفترض أكثر من مجرد استخدام قوة وحشية عمياء. وتتطلب بعض مظاهر الشرعية، مع الحفاظ على الوضع القائم باعتباره أمراً مسلماً به بشكل طبيعي، والتطبيع باعتباره المنطق السليم، والحيلولة دون التفكير حتى في مقاومة مبررة. ولا تزال إسرائيل تمتلك القوة المادية [الجيوسياسية] القادرة على كسب المعارك التي تختارها. ولكن، مع تكاثر تلك المعارك، يضعف كل انتصار موقعها القتالي أكثر فأكثر. وأولئك الذين يدافعون عن واقع الدولة الواحدة، يدافعون فعلاً عن مبادئ استعمارية في عالم ما بعد الاستعمار.
والكفاح من أجل تحديد شروط الدولة الواحدة وصياغتها قد يتخذ أشكالاً جديدة. ففي الماضي، خلقت الحروب الدراماتيكية بين الدول فرصاً للمفاوضات والدبلوماسية العالية المخاطر، ولكن من المستبعد أن يواجه صانعو السياسة الأميركيون في المستقبل مواجهات تقليدية على غرار تلك التي اندلعت بين إسرائيل والدول العربية في عامي 1967 و1973. وسيواجهون، عوضاً عن ذلك، شيئاً أقرب إلى الانتفاضتين الأولى والثانية، أي اندلاع أعمال العنف بشكل مفاجئ، واحتجاجات شعبية كبيرة مثل تلك التي حصلت في مايو (أيار) 2021. فيومذاك، أشعلت الاشتباكات في القدس حرباً أوسع نطاقاً شملت إطلاق صواريخ بين إسرائيل وحركة “حماس”، وانتشار التظاهرات والعنف في الضفة الغربية، ووقوع حوادث بشعة داخل إسرائيل، ذلك أن الإسرائيليين من أصل يهودي وفلسطيني (والشرطة الإسرائيلية) تصرفوا وكأن الانتماء الإثني أهم بكثير من المواطنة [الجنسية]. ويبدو أنه لا مفر من أعمال العنف اليومية، وموجات الفوران الشعبية، وما قد يتجلى في انتفاضة ثالثة شاملة.
ويضطر اليوم صناع السياسة في الولايات المتحدة ودول أخرى، وهم دعوا منذ مدة طويلة إلى الحفاظ على حل الدولتين، إلى مواجهة أزمات ليسوا مستعدين لها. وأثارت المشكلات التي نجمت عن واقع الدولة الواحدة حركات تضامن، وحملات مقاطعة، وصراعات مجتمعية جديدة. وتسعى المنظمات غير الحكومية، والحركات السياسية المنخرطة في القضايا الإسرائيلية والفلسطينية، وجماعات التضامن الدولية في تغيير المعايير العالمية، والتأثير في الأفراد والمجتمعات والحكومات من خلال الحملات الإعلامية الحديثة والتقليدية. وتهدف هذه المنظمات، على نحو متعاظم، إلى وسم السلع المنتجة في أماكن سيطرة الحكومة الإسرائيلية أو مقاطعة تلك البضائع، والتوسل بقوانين الحقوق المدنية لتعبئة مؤيديها، وإيجاد بدائل للجهود الدبلوماسية العقيمة التي يبذلها قادة الحكومات.
وتسعى التحركات والحملات إلى حشد جماعات منقسمة على نفسها. فالفلسطينيون منقسمون بين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وأولئك الذين يحملون أنواعاً متفرقة من تصاريح الإقامة، وكذلك بين الذين يقيمون في القدس الشرقية والمقيمين في الضفة الغربية وغزة. وهم منقسمون بين من تسري عليهم إجراءات الدولة الواحدة والمقيمين في الخارج. وثمة من ينتسب إلى حركة “فتح” السياسية التي تسيطر على الضفة الغربية، ومن يناصر حركة “حماس” التي تسيطر على غزة. ويتسع الانقسام تبعاً للأجيال. فالفلسطينيون الأصغر سناً يشعرون بأنهم أضعف ارتباطاً بالحركات والمنظمات التي حظيت بولاء آبائهم وأجدادهم، وطاقاتهم السياسية، وهم يميلون، على الأرجح، إلى مجموعات جديدة، ويتبنون تكتيكات مقاومة جديدة.
وعلى مثال قريب، ينقسم اليهود الإسرائيليون على طبيعة الدولة، ودور الدين في السياسة، وبعض الأمور الأخرى، بما في ذلك حقوق المثليين والمثليات والأقليات الجنسية الأخرى. وقد نظم اليهود الإسرائيليون الليبراليون احتجاجات حاشدة نددت بعدوان حكومة نتنياهو على الديمقراطية والقضاء، لكن حشودهم ومبادراتهم في صدد القضية أقل كثيراً من الأولى، وهذا قرينة على أن الخلافات الداخلية بينهم تطغى على المسائل المتعلقة بعملية السلام التي لم تعد قائمة.
والنتيجة هي أن القادة، من كلا الجانبين، لا يقودون بكل ما للكلمة من معنى. وثمة سياسيون، في كل الجماعات، يريدون إبقاء الصراع على حاله، وليس في خدمة استراتيجية للحل، وسائقهم التقاعس وضعف الكفاءة. وفي المقابل، يريد سياسيون آخرون هز الوضع الراكد، وتحريكه في اتجاه مختلف تماماً، كما فعل الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع “صفقة القرن”، واعداً بإنهاء الصراع على نهج قضى تقريباً على الحقوق والتطلعات الوطنية الفلسطينية. واليهود الذين يسعون إلى ضم رسمي للأراضي المحتلة، والفلسطينيون الذين يدعون إلى أنماط جديدة من مقاومة الحكم الإسرائيلي، كلاهما يعقد الأمل على قلب الوضع القائم رأساً على عقب، لكن هذه الجهود تنهار أمام أبنية السلطة والمصالح الراسخة بقوة.
وفي هذه الظروف، يرجح أن تفشل المهام الدبلوماسية التي تسعى في حل الصراع حلاً عادلاً. فهي قاصرة عن التماس بدائل ممكنة للمأزق الحالي، من جهة، وتفتقر هذه البدائل إلى رغبة الأطراف في تحقيقها، من جهة أخرى. ويتعين على صناع السياسات الراغبين في بناء خيارات أفضل أن ينتبهوا إلى طرق عمل نظام الدولة الواحدة وتطوره. وهم يحتاجون إلى فهم صورة الوطن على المثالات التي يتخيلها الناس المختلفون الذين يسوسهم النظام هذا، وإلى معرفة كيفية فرض الحقوق أو انتهاكها، وكيفية تغير التركيبة السكانية ببطء، وعلى نحو ينذر ظاهره بالسوء.
أطياف الربيع العربي
وللاعتراف بواقع الدولة الواحدة تداعيات مهمة على العالم العربي، ومتناقضة. ولطالما افترض تأييد حل الدولتين أن للقضية الفلسطينية مكانة عالية في نظر الجماهير العربية، إن لم يكن في نظر حكوماتهم. ورسمت مبادرة السلام السعودية في عام 2002، وهي عرضت مقايضة تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة، صورة أساسية: السلام مع العالم العربي يقتضي حل القضية الفلسطينية.
وشددت ”اتفاقيات أبراهام” التي توسطت فيها إدارة ترمب ودعمتها إدارة بايدن بحماسة، على افتراض آخر بوضوح وصراحة. فسرعت التطبيع السياسي والتعاون الأمني بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، من غير إلحاح على إحراز تقدم في حل القضية الفلسطينية. ولا شك في أن فك الرابط بين التطبيع العربي وحل القضية الفلسطينية كان له دور هائل في ترسيخ واقع الدولة الواحدة.
وإلى اليوم، أثبتت “اتفاقيات أبراهام” متانتها ومناعتها، فنجت من تشكيلة حكومة نتنياهو بوزرائها المتطرفين، ومن المرجح أن يستمر تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات، في الأقل، إلى ما بعد الجولة التالية من العنف الإسرائيلي الفلسطيني، وربما إلى ما بعد المبادرات الإسرائيلية السافرة والعلنية إلى الضم. ولكن، منذ توقيع الاتفاقيات، لم تسع دول عربية أخرى في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. واستمرت السعودية في اتخاذ جانب الحيطة والحذر، وإرجاء إقامة علاقات مع تل أبيب.
ومن المرجح أن يظل التطبيع العربي مشروطاً بحل القضية الفلسطينية إلى أجل غير مسمى. ومن السهل جداً تخيل سيناريو تعمد فيه إسرائيل إلى مصادرة مزيد من الممتلكات في القدس، فيؤجج ذلك احتجاجات فلسطينية واسعة النطاق، ثم ترد على تلك الاضطرابات بعنف أكبر، وتنزع أملاكاً أخرى بشكل أسرع، مما يؤدي، في نهاية المطاف، إلى انهيار السلطة الفلسطينية نهائياً. قد يثير مثل هذا التصعيد موجة احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم العربي، حيث جهزت المصاعب الاقتصادية، والقمع السياسي المزمن، قنبلة موقوتة على وشك الانفجار. وإلى هذا، يلوح في الأفق، تهديد أكثر خطورة، هو إقدام إسرائيل على طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية، أو حتى القدس. ويطلق على هذا الإجراء، على سبيل التخفيف، اسم “ترانسفير” (هذا المشروع هو جزء من خطة 2050 الإسرائيلية). وتدل استطلاعات الرأي على أن كثيراً من اليهود الإسرائيليين سيؤيدون هذا الإجراء، ناهيك بالطريقة التي قد تستغل بها حركة “حماس” أو إيران مثل هذه الظروف.
وقد لا يولي الحكام العرب اهتماماً في شأن الفلسطينيين، ولكن الشعوب العربية توليه اهتماماً كبيراً. والتخلي الكامل عن الفلسطينيين، بعد أكثر من نصف قرن من الدعم الخطابي، أمر محفوف بالمخاطر على أضعف تقدير. ولا يخشى القادة العرب خسارة الانتخابات، لكنهم لا ينسون الانتفاضات العربية التي اندلعت في عام 2011، ويساورهم القلق من كل ما من شأنه أن يتسبب في تعبئة شعبية جماهيرية لا يؤمن ألا تتحول إلى احتجاجات ضد أنظمتهم.
الخروج، رفع الصوت أو الولاء؟
وقد يؤدي الاعتراف بواقع الدولة الواحدة إلى انقسام في المناقشات الأميركية حول إسرائيل والفلسطينيين، وإلى استقطاب حاد. وقد يتبنى الإنجيليون، وكثيرون آخرون ينتمون إلى اليمين السياسي، واقع الدولة الواحدة، ويرونه تحقيقاً لمطامح إسرائيلية مشروعة. وفي المقابل، قد يعترف أخيراً كثير من الأميركيين، من اليسار والوسط، بأن إسرائيل لم تعد لتستحق تصنيف دولة ديمقراطية ليبرالية. وقد يتخلون عن الوعد البعيد المنال بحل الدولتين، وينحازون إلى هدف قيام دولة واحدة تقر حقوقاً متساوية لجميع سكانها.
والحق أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية كبيرة عن ترسيخ واقع الدولة الواحدة. وهي تواصل أداء دور قوي في تأطير القضية الإسرائيلية الفلسطينية وتشكيلها. ولم يكن بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية ليصمد ويتسارع، وما كان الاحتلال ليستمر، لولا جهود أميركا في حماية إسرائيل من عقوبات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى. ولولا التكنولوجيا والأسلحة الأميركية، لما وسع إسرائيل ربما الحفاظ على تفوقها العسكري في المنطقة، وترسيخ سيطرتها على الأراضي المحتلة. ومن دون الجهود والموارد الدبلوماسية الأميركية الأساسية، لما كان في مستطاع إسرائيل إبرام اتفاقيات سلام مع الدول العربية، من كامب ديفيد إلى اتفاقيات أبراهام.
وعلى رغم ذلك، تغاضت المناقشات الأميركية التي دارت حول إسرائيل والفلسطينيين عنوة عن تناول الطرق التي شجعت فيها واشنطن الاحتلال. وصيغ دعم الولايات المتحدة لعملية السلام على أساس يضمن أمن إسرائيل. ويؤكد أن فكرة حل الدولتين هي الوحيدة القادرة على الحفاظ على إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية في آن. وهذان هدفان مختلفان ويجعلهما واقع الدولة الواحدة متضاربين ومتناقضين.
وعلى رغم أن القضية الإسرائيلية الفلسطينية لم تكن قط على رأس قائمة أولويات الجمهور الأميركي، فإن المواقف الأميركية تغيرت بشكل ملحوظ. وفي أثناء السنوات القليلة الماضية، تراجع دعم حل الدولتين، فيما ازداد تأييد قيام دولة واحدة تضمن مواطنة متساوية. وتظهر استطلاعات الرأي أن معظم الناخبين الأميركيين يدعمون إسرائيل الديمقراطية على حساب إسرائيل اليهودية، إذا أجبروا على الاختيار. وأمست وجهات النظر حول إسرائيل أكثر حزبية وتحيزاً. فازداد دعم الجمهوريين، وبخاصة الإنجيليين، للسياسات الإسرائيلية، في حين مالت الغالبية العظمى من الديمقراطيين إلى اعتماد سياسة أميركية منصفة. ويعبر جيل الشباب الديمقراطيين الآن عن دعمهم للفلسطينيين أكثر من دعمهم لإسرائيل. ولعل أحد أسباب هذا التحول، لا سيما بين الديمقراطيين الشباب، هو حمل القضية الإسرائيلية الفلسطينية على مسألة عدالة اجتماعية، وليس على مسألة مصلحة استراتيجية أو نبوءة توراتية. وتجلى ذلك في مرحلة نشاط حركة “حياة السود مهمة” Black Lives Matter.
وأدى واقع الدولة الواحدة إلى تعطيل سياسة اليهود الأميركيين وزعزعتها. وكانت فكرة جمع إسرائيل اليهودية إلى الليبرالية، في الوقت نفسه بمثابة قضية مقدسة في نظر معظم اليهود الأميركيين المؤيدين لإسرائيل. وآذنت حكومة نتنياهو الأخيرة بانهيار الفكرة في نظر هذه المجموعة. فمن الصعب التوفيق بين الالتزام بالليبرالية ودعم دولة تقتصر ديمقراطيتها ومنافعها على اليهود. وهي اليوم تضايق وتهين بعضاً منهم كذلك، فيما تحول دون انتفاع غالبية سكانها غير اليهود منها.
ويعتبر معظم اليهود الأميركيين أن المبادئ الليبرالية الأساسية، على غرار حرية الرأي والتعبير، وسيادة القانون والديمقراطية، ليست قيماً يهودية فحسب، بل هي أيضاً حصون واقية من التمييز، وتضمن قبول المجتمع الأميركي بهم وبقاءهم في الولايات المتحدة. والحق أن التزام إسرائيل الليبرالية كان على الدوام هشاً ومضطرباً. فإسرائيل، بناءً على يهوديتها، تعتنق شكلاً من أشكال القومية العرقية عوضاً عن القومية المدنية. ويضطلع مواطنوها اليهود الأرثوذكس بدور راجح في تحديد الطريقة التي يرسم فيها الدين اليهودي معالم الحياة في إسرائيل وتفاصيلها.
وفي عام 1970، كتب المتخصص في الشأن الاقتصادي السياسي، ألبرت هيرشمان، أن أعضاء المنظمات التي تواجه أزمة أو تردياً أمام ثلاثة خيارات: “الخروج، ورفع الصوت، والولاء”. وأمام اليهود الأميركيين هذه الخيارات نفسها اليوم. فأحد المعسكرات، ويقال إنه يهيمن على أهم المؤسسات اليهودية في الولايات المتحدة، يبدي ولاءً يضمر إنكار واقع الدولة الواحدة. و”رفع الصوت” [الاحتجاج والتعبير] هو الخيار المهيمن بشكل متزايد لدى الأميركيين اليهود الذين كانوا في السابق في معسكر السلام. وهم كانوا يشددون على حل الدولتين. أما اليوم فيتوجه نشاطهم على الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وحماية فسحة الحرية المتضائلة المتاحة للمجتمع المدني الإسرائيلي، ومقاومة المخاطر التي تسببها حكومة نتنياهو اليمينية. وأخيراً، هناك اليهود الأميركيون الذين اختاروا “الخروج”، أو اللامبالاة، وهم ببساطة لا يفكرون كثيراً في إسرائيل. وقد يكون ذلك لأنهم لا يحسون إحساساً قوياً بالانتماء إلى الهوية اليهودية أو لأنهم يرون أن إسرائيل لا تتناغم مع قيمهم، بل هي تناقضها. وتدل بعض القرائن على أنه كلما مالت إسرائيل إلى اليمين، اتسعت هذه المجموعة بين الشباب اليهود الأميركيين على الخصوص.
مراجعة الحقائق والوقائع
وإلى اليوم، سعت إدارة بايدن إلى الإبقاء على الوضع القائم، فيما تحث إسرائيل على تجنب الاستفزازات الشديدة. وفي الرد على استمرار بناء المستوطنات في الضفة الغربية، وغيرها من الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي، أدلت الولايات المتحدة بتصريحات جوفاء تدعو إسرائيل إلى تجنب ارتكاب أعمال تقوض حل الدولتين، ولكن هذا النهج يخطئ في تشخيص المشكلة ويزيد الوضع سوءاً: فحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة هي من أعراض واقع الدولة الواحدة، وليست من أسبابه، ولن يؤدي التودد إليها، في محاولة إقناعها بالميل نحو الاعتدال، إلا إلى تقوية شوكة قادتها المتطرفين، وظهورهم في مظهر من أفلت من العقاب.
وعوضاً عن ذلك، يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد رد فعل جذرياً في مواجهة واقع متطرف. وبداية، على واشنطن أن تلغي مصطلحي “حل الدولتين” و”عملية السلام” من قاموسها. فالدعوات التي توجهها الولايات المتحدة إلى الإسرائيليين والفلسطينيين، من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات، تعتمد على التفكير الخيالي. ولن يؤدي تغيير الطريقة التي تتحدث بها الولايات المتحدة في القضية الإسرائيلية الفلسطينية إلى تغيير شيء على أرض الواقع، لكنه يمزق الستارة التي أتاحت لصانعي السياسة الأميركيين تجنب مواجهة الواقع. وعلى واشنطن أن تنظر إلى إسرائيل على ما هي فعلاً، وليس وفق ما يفترض أن تكونه، وأن تتصرف على هذا الأساس. فإسرائيل كفت عن تكبد عناء التظاهر بحفظ تطلعاتها الليبرالية. وليس لدى الولايات المتحدة أي “قيم مشتركة” مع دولة تمارس التمييز ضد الملايين من سكانها، أو تسيء معاملتهم على أساس عرقهم ودينهم، كما ينبغي ألا تعقد “روابط غير قابلة للفك” مع دولة مماثلة.
وانتهاج سياسة أميركية أفضل من شأنه أن يدعو إلى المساواة، والمواطنة، ومناصرة حقوق الإنسان لجميع اليهود والفلسطينيين داخل الدولة الواحدة التي تهيمن عليها إسرائيل. ومن الناحية النظرية، لا تحول مثل هذه السياسة دون العودة إلى إحياء فكرة حل الدولتين، في حال تحرك الطرفان في هذا الاتجاه، في المستقبل البعيد. وهو أمر بعيد الاحتمال، ولكن الانطلاق من واقع دولة واحدة مذموم أخلاقياً، ومكلف استراتيجياً، يقتضي تركيزاً فورياً على المساواة في الحقوق الإنسانية والمدنية. والرفض الحازم للواقع غير العادل، اليوم، من قبل الولايات المتحدة، وبقية المجتمع الدولي، قد يدعو الطرفين إلى التفكير جدياً في مستقبل بديل. لذا، يجب على الولايات المتحدة أن تطالب بالمساواة الآن، ولو أن قرار التسوية السياسية النهائية يعود إلى الفلسطينيين والإسرائيليين.
ومن أجل بلوغ تلك الغاية، على واشنطن أن تشترط عدم حصول إسرائيل على المساعدات العسكرية والاقتصادية ببذل جهود واضحة وصريحة في سبيل إنهاء السيطرة العسكرية الإسرائيلية على الفلسطينيين. والحق أن تجنب مثل تلك الشروط قد جعل واشنطن متواطئة إلى حد بعيد مع واقع الدولة الواحدة. وإذا استمرت إسرائيل في مسارها الحالي، على الولايات المتحدة أن تنظر في تقليص المساعدات، وغيرها من الامتيازات التي تمنحها لإسرائيل، وربما في فرض عقوبات ذكية ومحددة الأهداف عليها، رداً على التجاوزات الواضحة. ويمكن لإسرائيل أن تقرر بنفسها ماذا تريد أن تفعل. وفي المقابل، يمكن للولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى التأكد من أن إسرائيل تدرك الكلفة الباهظة التي ستتكبدها إذا استمرت في اعتماد نظام تمييز غير ليبرالي على الإطلاق، أو إذا فاقمت تعسف هذا النظام.
كانت الرؤية العالمية الأوضح التي عبرت عنها إدارة بايدن هي دفاعها الصارخ والمدوي عن القوانين والأعراف الدولية رداً على غزو روسيا لأوكرانيا. وحتى إذا تجاهلنا واقع الدولة الواحدة، فالمعايير والقيم نفسها هي على المحك في إسرائيل وفلسطين، وفق ما هو مفهوم على نطاق واسع في جميع أنحاء دول الجنوب العالمي. وحين تنتهك إسرائيل القوانين الدولية والأعراف الليبرالية، على الولايات المتحدة أن تدينها، على انتهاكها، على ما قد تفعل مع أي دولة أخرى. ومن المفترض أن تتوقف واشنطن عن حماية إسرائيل في المنظمات الدولية، عندما تواجه ادعاءات صحيحة ومحقة بارتكابها تجاوزات في حق القانون الدولي. وعليها أن تمتنع عن استخدام حق النقض على قرارات مجلس الأمن الدولي التي تهدف إلى محاسبة إسرائيل، وأن تتوقف عن مقاومة الجهود الفلسطينية الرامية إلى التماس العدالة والإنصاف في المحاكم الدولية، وأن تحشد دولاً أخرى من أجل المطالبة بإنهاء الحصار المفروض على غزة. وهو تدبير إسرائيلي آخر يفترض أن يكون موقتاً، إلا أنه أصبح واقعاً قاسياً متأصلاً في النظام.
ولكن واقع الدولة الواحدة يتطلب مزيداً من الجهود. وعند النظر إلى إسرائيل من هذا المنظور، يتبين أنها دولة فصل عنصري. وعوض إعفائها من الإجراءات الحازمة ضد الفصل العنصري المنصوص عليها في القانون الدولي، على واشنطن أن تتعامل مع الواقع الذي أسهمت في تكوينه، وأن تشرع في رؤيته، والكلام عليه، والتفاعل معه بصدق. كذلك، على الولايات المتحدة أن تدافع عن المنظمات غير الحكومية، الدولية والإسرائيلية، والفلسطينية، ومنظمات حقوق الإنسان، والنشطاء الأفراد الذين تشوه صورتهم بسبب انتقادهم المظالم البنيوية بشجاعة. وإلى ذلك، يتعين على واشنطن حماية منظمات المجتمع المدني الإسرائيلية، الملاذ الأخير للقيم الليبرالية في البلد، ومثيلاتها الفلسطينية التي يرتقب أن تلعب دوراً حيوياً في تجنب نشوب صراع دموي في الأشهر المقبلة. وعلى الولايات المتحدة أيضاً أن تعارض الاعتقالات الإسرائيلية للقادة الفلسطينيين الذين يقترحون رؤية غير عنيفة للمقاومة الشعبية. وعليها، من وجه آخر، ألا تسعى إلى اعتقال أو معاقبة أولئك الذين يختارون مقاطعة إسرائيل سلمياً بسبب سياساتها التعسفية.
وعلى رغم أن واشنطن لا تستطيع أن تمنع تطبيع العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب، فإنه ليس من المفترض أن تقود جهوداً مماثلة. ويجب ألا ينخدع أحد بسراب نجاح اتفاقيات أبراهام، في حين أن القضية الفلسطينية تتلاشى. فالفصل بين اتفاقيات التطبيع هذه ومعاملة إسرائيل للفلسطينيين لم يؤد إلا إلى تمكين اليمين المتطرف الإسرائيلي، وترسيخ نزعة التفوق اليهودية داخل الدولة. ولن تثمر هذه التغييرات في السياسة الأميركية على الفور. ومن الممكن أن تلاقي رد فعل سياسياً عنيفاً، على رغم أن الأميركيين، وبخاصة الديمقراطيين، أصبحوا أشد انتقاداً لإسرائيل من السياسيين الذين ينتخبونهم. وهذه التغييرات تقدم، على المدى الطويل، أفضل أمل للتحرك نحو حلول أكثر سلماً وعدلاً في إسرائيل وفلسطين. ومن طريق مواجهة واقع الدولة الواحدة، أخيراً، واتخاذ موقف مبدئي، تضطلع الولايات المتحدة بدورها جزءاً من الحل وليس من المشكلة.
*مايكل بارنيت أستاذ جامعي للشؤون الدولية والعلوم السياسية في كلية إليوت للشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن
**ناثان ج. براون أستاذ في العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن وزميل أول غير مقيم في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
***مارك لينش أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في “جامعة جورج واشنطن”
****شبلي تلحمي أستاذ كرسي أنور السادات للسلام والتنمية في جامعة ميريلاند وزميل أول غير مقيم في معهد بروكينغز
المصدر: اندبندنت عربية