قُبَيْل اندلاع الثورة السورية في 2011، كانت سوريا تُنتج محلياً 90 بالمئة من احتياجاتها من الأدوية بحسب منظمة الصحة العالمية، ولكنّ هذه الصناعة تأثّرت بشدة نتيجة الأعمال العسكرية، إذ تتركز 90 بالمئة من مصانع الإنتاج الصيدلاني في أرياف حلب وحمص وأرياف دمشق، وهي مناطق كانت مسرحاً لمواجهاتٍ شديدةٍ بين قوات النظام والمعارضة على مدى سنوات. أغلقت العديد من المعامل أبوابها جرّاء تدميرها خلال الصدامات العسكرية، أو بسبب الخسائر وعدم القدرة على تمويل استيراد المواد الداخلة في عمليات التصنيع وارتفاع تكاليف الوقود وغياب الكهرباء، مما أدَّى إلى نقصٍ حاد في الأدوية وغيرها من المنتجات الصيدلانية المُنقِذة للأرواح، رغم أن عدد معامل الأدوية في سوريا قد ازداد على الورق خلال العقد الماضي.
وتُشير الإحصاءات الصادرة عن وزارة الصحة السورية، إلى أن 52.7 بالمئة من السكان كانوا قبل العام 2011 يتلقّون المعالجة المضادة للأمراض الهضمية والأمراض التنفسية وأمراض القلب والأوعية والكلى وأمراض السرطان، في مراكز علاجية ومستشفيات ومستوصفات بشكلٍ مجاني.
رفع متكرّر لأسعار الأدوية
رفعت وزارة الصحة في حكومة النظام السوري، مطلع العام الجاري، أسعار الأدوية بنسبة 50 بالمئة من أجل «استمرار توفيرها في الأسواق، ونظراً لرفع مصرف سوريا المركزي سعر صرف الليرة مقابل الدولار». غير أنّ الأسعار ارتفعت في الواقع نتيجة هذا القرار بنسبٍ تصل أحياناً إلى 80 بالمئة، وذلك بحسب جريدة الوطن شبه الرسمية. بدورها، برّرت مديرية الشؤون الصيدلانية في الوزارة القرار بأنه جاء «بناءً على ارتفاع سعر الصرف وفق نشرة المصرف المركزي الصادرة بتاريخ 2 كانون الثاني، وارتفاع تكاليف حوامل الطاقة وحرصاً على استمرار توفر الأدوية في السوق». وشملت زيادة الأسعار بموجب القائمة التي نشرتها وزارة الصحة أكثر من 12 ألف زمرة دوائية من مختلف معامل الأدوية المحلية، وفي تعليقٍ على زيادة الأسعار، قال رئيس المجلس العلمي للصناعات الدوائية، محمد نبيل القصير، في تصريحٍ لإذاعة محلية، إن الزيادة «كان يجب أن تكون أكثر من ذلك لإغلاق الفجوة الموجودة»، معتبراً أن تعديل أسعار الأدوية «يدعم السوق الدوائية وعجلة الإنتاج، إذ لا تزال هناك نسبة خسارة لبعض المستحضرات التي تحتوي على تركيز المادة الفعالة بنسبةٍ عالية، وهذه المستحضرات تشكّل نحو 60-65 بالمئة من سعر الدواء»، حسب قوله.
وأدت أزمة الدواء، المرتبطة برفع أسعار المحروقات وعدم ثبات سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، إلى فقدان العديد من الأدوية أو ندرتها في الأسواق، وإلى نشوء سوق سوداء لبيع الأدوية الأجنبية المُهرّبة وحليب الأطفال بأسعار مضاعفة. وقدّرَ رئيس فرع نقابة الصيادلة في دمشق حسن ديروان، في تصريح لصحيفة الوطن، نسبة النقص في الأدوية «بحدود 50 بالمئة». لجنة التسعير في وزارة الصحة كانت قد اقترحت رفع الأسعار بنسب تصل إلى 100 بالمئة، وذلك «بموجب تكاليف إنتاج كل شكل دوائي»، بحسب ما قاله محمد نبيل القصير. كما اقترح «المجلس العلمي للصناعات الدوائية» على وزارة الصحة وضع «مؤشر عند تذبذب سعر الصرف لينعكس على الدواء بشكلٍ خفيف، وحتى لا يؤثر مستقبلًا بنقص التوريد»، ولكن وزارة الصحة لم تأخذ بهذا الاقتراح.
سبق رفع أسعار الدواء مطلع العام الحالي سلسلةٌ من عمليات رفع الأسعار، منها في كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي بنسبة 30 بالمئة، وفي آذار (مارس) 2022 بنسبة تتجاوز 40 بالمئة. لم تقتصر لائحة الأسعار الجديدة المنشورة في كانون الثاني الماضي على الشركات الدوائية المُصنِّعة في سوريا، ولا على الأدوية العلاجية فقط، ولكنها امتدت إلى حليب الأطفال ومستحضرات التجميل والعناية بالبشرة والزيوت الطبية والأعشاب الطبيعية ومختلف أنواع الشاي التي تُباع في الصيدليات لأغراض صحية.
ومنذ العام 2011، ارتفع سعر بعض الأدوية بنسبٍ تتجاوز 1000-1500 بالمئة، في حين تخطّت نسبُ الزيادة في أسعار أدوية بعض الأمراض الخَطِرة والسارية والمضادات الحيوية بنحو 4000 بالمئة عمّا كانت عليه، على أن الأسوأ من هذا الارتفاع هو عدم توافر الكثير من أدوية أمراض الكلى والسكر والضغط وجرعات الأمراض السرطانية، وانتشار بدائل مهرّبة وغير مراقبة صحياً وبأسعار مرتفعة جداً.
العقوبات بريئة «جزئياً» من أزمة الدواء
لا تشمل العقوبات المفروضة على النظام السوري قطاع الأدوية والمعامل الدوائية، ويمكن استيراد الأدوية مباشرةً أو المواد الداخلة في تركيبها دون عقبات، ولكن ما يؤثّر فيه هي العقوبات على التحويلات البنكية وعدم رغبة العديد من المصانع الأجنبية في التعامل مع سوريا خشية تجاوز بعض الإجراءات الصارمة المتعلقة بالامتثال للعقوبات. يؤدي ذلك إلى قيام مصانع الدواء باستيراد المواد التي تحتاجها عبر وسطاء في دولٍ أخرى، وهو ما يزيد من تكلفتها.
أما المشكلة الحقيقية، فتتمثّل في تأمين القطع الأجنبي اللازم لعمليات الاستيراد، ذلك أن الدواء يُباع بالليرة السورية، بخلاف عمليات الاستيراد التي تتم بالدولار غالباً، ويؤدي تذبذب سعر الدولار في السوق، صعوداً في الغالب، إلى فقدان العملة السورية لقيمتها سريعاً، ما يجعل الشركات المستوردة ومعامل التصنيع غير قادرة على مجاراة هذا التذبذب، فتلجأ إلى تعطيل الإنتاج لتجنّب تحمّل المزيد من الخسارات. ورغم أن المصرف المركزي هو المسؤول نظرياً عن حل هذه المشكلة من خلال تمويله لواردات بعض القطاعات الحيوية، وعلى رأسها مستلزمات الصناعات الدوائية، فإنه يعتمد أسعار صرف أقل من سعر صرف الدولار الحقيقي، ولا يؤمّن إلا جزءاً قليلاً من احتياجات الاستيراد. ويضاف إلى ذلك مشكلة عدم تأمين الكهرباء والمحروقات لتشغيل المختبرات والمصانع أو عدم كفايتهما، إذ تلجأ المعامل في أحيان كثيرة إلى شراء المحروقات من السوق السوداء بأسعار مرتفعة.
المريض خاسر ومصانع الأدوية خاسرة
هناك فرقٌ بين الشركات المستورِدة والمعامل المصنِّعة للدواء في سوريا، إذ بمقدور الشركات استيراد الأدوية وبيعها بموجب الأسعار التي استُوردت بها، على أنها ملزَمة باتباع نشرة أسعار المصرف المركزي، والتي تكون أقل من أسعار السوق السوداء، ولكنها غالباً ما تستطيع التفلّت من هذا الإلزام. أما المعامل، فهي مجبَرة على التسعير بموجب نشرة الأسعار الواردة من وزارة الصحة بالليرة السورية. ولكون الشركات والمعامل غير قادرة على مخالفة الأسعار الحكومية، فإنها تلجأ إلى تعطيل الإنتاج أو تخفيضه، وبالتالي عدم توفيره في الأسواق، ليكون المرضى هم المتضررون الفعليون، لا سيما أصحاب الأمراض المزمنة الذين لا يمكنهم التوقّف عن أخذ الدواء، وهو ما يؤدي إلى سعيهم لتأمين الأدوية من السوق السوداء عبر دفع أضعاف سعرها الرسمي.
ولم تأخذ قرارات رفع أسعار الدواء من قبل وزارة الصحة بعين الاعتبار إلا جانباً واحداً من المتضرّرين، وهي الجهات الموفّرة للدواء، فرغم أن الأخيرة تخسر أحياناً بحسب ما يقوله أصحاب المعامل والمستودعات الدوائية، لكنّ المرضى بدورهم لا يستطيعون مجاراة الأسعار الجديدة، فزيادة بمعدل 100 بالمئة تقتضي أن يكون هناك ارتفاع في معدل الأجور يُمكِّن المرضى من تغطية ارتفاع أسعار الدواء، لا سيما أن معدلات الأجور هي أصلاً من الأدنى عالمياً ولا تكفي احتياجات أسرة مكونة من خمسة أشخاص لأكثر من أسبوع. ولا يمكن فعلياً حل مشكلة أسعار الدواء إلا من خلال تدخل حقيقي من المصرف المركزي وحكومة النظام، بما يؤمّن تقديم القطع الأجنبي بأسعار مناسبة لاستمرار عمل المصانع من جهة، ولدخل السوريين من جهةٍ ثانية.
واسطات لتأمين الأدوية
نتيجة قلّة الدواء الذي توفّره الشركات ومعامل الأدوية، فإن الصيدليات تحتاج إلى واسطاتٍ ومعارف من أجل حجز حصة أكبر من الدواء، أو للحصول على عينات مجانية من بعض الأدوية، وهذه الأخيرة لا توزّع دائماً على المرضى مجاناً، ففي حين يقوم بعض الصيادلة بمنحها للأطباء لتوزيعها على المرضى الأشد فقراً، أو يعطونها بأنفسهم مباشرةً للمرضى، فإن نسبةً متزايدةً من هذه الأدوية صارت تباع في الصيدليات أو في السوق السوداء. ويعلل أحد الصيادلة ممن تواصلتْ معهم الجمهورية.نت بيعها بأنها «تعوّض بعض الخسارات الناجمة عن تقلبات سعر الصرف»، ويضيف بأنها «لا تأتي إلا بكمياتٍ قليلة جداً».
وبالإضافة إلى الأدوية، تبرُز الحاجة في سوريا حالياً إلى الفيتامينات والمقويات، خصوصاً لدى الأطفال، وذلك بسبب قلة الطعام وتراجع نوعيته، إلا أن هذه العقاقير مرتفعة التكلفة وليست في متناول الشريحة الأوسع من السكان. هناك بعض الجمعيات والمستوصفات التي تقدّم الأدوية بالمجان، لكنّ حضورها تراجع بشكلٍ كبير نتيجة قلة الأموال التي تُقدّم لدعمها من قبل حكومة النظام، وعدم توفّر السواد الأعظم من الأدوية، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام المحسوبية والواسطات للحصول على ما يتوفر من أدوية. حتى إن المشافي الحكومية المجانية غالباً ما لا توفّر إلا جزءاً يسيراً من الأدوية ومستلزمات إجراء العمليات، وتطلب من المريض وذويه شراءها من الصيدليات قبل العمل الجراحي، وذلك بحسب شهادة أكثر من مريضٍ تواصلت معه الجمهورية.نت.
إغلاق مستتر للمعامل
قال عضوٌ في المجلس العلمي للصناعات الدوائية، في كانون الثاني (يناير) الماضي، لجريدة الوطن إن 15 معمل دواءٍ في سوريا مغلقة «بشكلٍ مستتر»، وذلك في ظل أزمة دوائية يعتبرها العاملون في المجال «الأسوأ من نوعها». وأضافت الصحيفة أنّ هذه المعامل المُغلقة «تذرّعت بإعطاء موظفيها إجازةً سنوية لإيقاف الإنتاج، في حين أحجمت مستودعات الأدوية عن التوزيع بحجة الجرد السنوي».
وتقوم مستودعات الأدوية بإلزام الصيدليات بشراء كمياتٍ من الأدوية قليلة الطلب مقابل تقديم الأدوية ذات الطلب المرتفع، وهو ما يؤدي إلى خسائر وكسادٍ في بعض الأصناف، فيلجأ بعض الصيادلة إلى تعويض هذه الخسائر عبر البيع بأسعار تزيد عن السعر المُحدّد من وزارة الصحة، أو عبر نقل الأدوية المطلوبة بشدة إلى السوق السوداء. في تعليقٍ لأحد الصيادلة على هذه النقطة، أجاب بأن «أصحاب المستودعات في الغالب عبارة عن تجار يديرون مشاريع ربحية، وهم الذين يبيعون الأدوية في السوق السوداء، ولكن هناك العديد من الصيادلة باتوا بدورهم تجاراً أيضاً».
ورغم أن السوق السوداء توفّر القسم الأعظم من الأدوية أو بدائلها بأسعار مرتفعة، كثيراً ما يلجأ المصابون بأمراضٍ مزمنة إلى تأمين الأدوية من خارج سوريا عن طريق المسافرين. لكنّ هذا الخيار أيضاً ليس متاحاً تماماً، خصوصاً بعد الأزمة الدوائية في لبنان في أعقاب احتجاجات العام 2019 وانفجار مرفأ بيروت والانهيار المالي والاقتصادي، لكنّ المفارقة تكمن في أن الكثير من الأدوية المفقودة في الصيدليات السورية، والتي يجلبها المسافرون معهم من لبنان والعراق، مصنوعةٌ أصلاً في معامل سورية ويجري إما تصديرها أو تهريبها إلى هذه الدول.
وقامت شركاتٌ أجنبية بسحب بعض امتيازاتها التي كانت ممنوحةً إلى 58 شركة دواء سورية في العام 2011، وهو ما أدى إلى تفاقم مشكلة الدواء بحسب وجهة نظر أصحاب المعامل والشركات. كما تراجعت صادرات المعامل الدوائية السورية لتُسجل ما نسبته 10 بالمئة فقط من إجمالي صادراتها المُسجّلة في العام 2010، إذ تراجع عدد الدول المستوردة للدواء السوري من نحو 44 دولة قبل 2011 إلى حوالي 10 دول فقط، بخسارة تقدر سنوياً بنحو 200، إذ كانت عتبة الإنتاج في العام 2010 تصل إلى 350 مليون دولار سنوياً.
رغم هذه الخسائر، ارتفع عدد معامل الأدوية السورية في العام 2018 إلى 96 معملاً ومصنعاً وفق وزير الصحة السابق في حكومة النظام نزار يازجي، مقارنةً بـ70 معملاً قبل العام 2011. ولكنّ هذا الارتفاع في أرقام المصانع يقابله نقصٌ شديدٌ في الدواء، وشكوى من مصانع الأدوية بدعوى الخسائر، وشكاوى أكثر حدةً من المرضى الذين يفقد عددٌ منهم حياته بسبب نقص الدواء أو عدم القدرة على شرائه نتيجة الفقر وغياب الدور الحكومي.
المصدر: الجمهورية.نت