واصلت مسألة التقارب التركي مع النظام السوري حضورها في التصريحات السياسية بين الجانبين، في زحمة النشاطات السياسية الإقليمية المتفاعلة مؤخرًا.
هذا الملف الذي يسير على طريق وعر من القضايا الخلافية بين أنقرة ودمشق، لم يخطُ بعيدًا عن التصريحات المتضاربة، وتمسك النظام السوري بالشروط ذاتها منذ انطلاق أول اللقاءات الرسمية العلنية برعاية روسية أواخر عام 2022.
ما تغيّر في الملف حاليًا، السياق الزمني الذي يشكّل خلفية لهذه التصريحات المتواصلة، التي اتخذت لهجة أكثر حدة على لسان رئيس النظام السوري، بشار الأسد، خلال مشاركته بقمة جدة، في 19 من أيار الحالي.
صحيفة “الوطن” المقربة من النظام نقلت، في 25 من أيار الحالي، عن مصادر وصفتها بـ”المتابعة”، أن من المبكر الحديث عن إعداد لجنة سورية لمتابعة خارطة طريق لتطوير العلاقات مع أنقرة، استنادًا إلى مخرجات الاجتماع الوزاري الرباعي بموسكو، في 10 من الشهر نفسه.
وجاءت هذه التصريحات ردًا على حديث وزير الخارجية التركي عن إمكانية انعقاد لقاء يجمع لجنة إعداد خارطة طريق التطبيع، خلال الأيام القليلة المقبلة، الأمر الذي اعتبرته “الوطن” تصريحات انتخابية.
خلاف مستمر
خلال مشاركته في القمة العربية المنعقدة بجدة، في 19 من أيار الحالي، صعّد النظام السوري لهجته ضد تركيا، وبدا ذلك بوضوح في كلمة الأسد، حين هاجم أنقرة دون تسميتها، في معرض حديثه عن مشكلات المنطقة.
وقال الأسد، إن العناوين كثيرة لا تتسع لها كلمات ولا تكفيها قمم، لافتًا إلى جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، و”خطر الفكر العثماني التوسعي المطعم بنكهة إخوانية منحرفة”.
من جانبه، أعاد وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، في 22 من أيار الحالي، تأكيد تلك التصريحات، مشددًا في الوقت نفسه على شرط انسحاب القوات التركية من سوريا، قبل التوصل إلى لقاء يجمع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بالأسد.
كما أوضح المقداد أن “الدولة السورية” لن تطبّع مع “أعدائها” ولن تطبّع مع بلد “يحتل أراضيها”، لافتًا إلى أن وفد النظام خلال اللقاء الرباعي بموسكو، في 10 من أيار، شطب كل ما يشير إلى التطبيع، على اعتباره لا يمكن أن يكون إلا نتيجة الانسحاب التركي من سوريا، على حد قوله.
وفي 19 من أيار أيضًا، يوم انعقاد القمة العربية التي تخللها تأكيد على رفض الوجود العسكري “غير الشرعي” في سوريا، أكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في مقابلة مع شبكة “CNN” الأمريكية، عدم وجود نية للانسحاب من شمالي سوريا، معتبرًا أن الخطر لا يزال مستمرًا على الحدود، وهناك “تهديد إرهابي” مستمر يستدعي الوجود العسكري.
صوت أعلى من دمشق
لم تشكّل مطالب النظام وربطه المتواصل علاقة سياسية مع أنقرة بالانسحاب التركي مانعًا من مواصلة اللقاءات ضمن مسار التقارب، وتطوير هذه اللقاءات وتوسيع حلقتها أيضًا، والوصف المتكرر لأجوائها بـ”الإيجابية”.
وكان لقاء وزراء خارجية “الرباعية” (تركيا وروسيا وإيران والنظام)، في 10 من أيار الحالي، مسبوقًا باشتراط الانسحاب التركي أيضًا، لكن ما نتج عنه علنيًا، يتلخص بالاتفاق على إعداد خارطة طريق للتطبيع بالتنسيق مع وزارات الدفاع للأطراف ذاتها، بناء على اقتراح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في كلمته الافتتاحية للقاء الوزاري الذي استضافته موسكو، ككل اللقاءات السابقة في هذا المسار.
كما أشار الوزراء إلى “أجواء إيجابية وبنّاءة”، مع الاتفاق على مواصلة الاتصالات رفيعة المستوى والمحادثات الفنية بالشكل الرباعي خلال الفترة المقبلة.
ورغم أن تنشيطًا في عجلة التقارب بدا واضحًا من خلال تسريع اللقاءات، حين انعقد لقاء وزراء الخارجية بعد نحو أسبوعين من لقاء وزراء الدفاع، في 25 من نيسان الماضي، حول طاولة مستديرة، وقدّم أول صورة جماعية في تاريخ المسار، بعد رفض سابق للنظام التقاط صور مع الجانب التركي، فإن تمسك النظام بالشروط ذاتها، وتصعيده اللهجة مجددًا ضد تركيا، جاء متأثرًا بحالة “الانفتاح العربي” على دمشق، وفق ما يراه محللون تحدثت إليهم عنب بلدي.
الباحث في العلاقات الدولية بلال السلايمة، أوضح لعنب بلدي أن عودة النظام إلى الجامعة العربية، والاستقبال الذي حظي به الأسد، والحديث عن إمكانية تقديم مساعدات للنظام، كل هذه الخطوات تعزز من موقف الأسد التفاوضي مع تركيا، ولا سيما أنه متردد في التطبيع مع أنقرة في ظل الحكومة الحالية على الأقل، ويتحرك في هذا المسار تحت ضغط أو دفع روسي مباشر.
“التطبيع مع المحيط العربي رفع صوت الأسد أمام أنقرة، والجانب التركي معني أكثر من النظام السوري بعملية التطبيع، أو إرسال رسائل عن رغبته بالتطبيع، وتحديدًا في ظل الانتخابات التركية وحساسية ملف اللاجئين”، أضاف الباحث.
كما لفت السلايمة إلى اتجاه الأنظار نحو موقف تركيا التفاوضي مع النظام بعد الانتخابات (في 28 من أيار الحالي)، وما إذا كانت أنقرة ستتابع هذا المسار بنفس النشاط، أم ستتخذ لغة أكثر برودة، ولا سيما في ظل عدم تفاعل الأخير.
وحول تمسك النظام السوري بشرط الانسحاب التركي، يرى الباحث بلال السلايمة أن موقف النظام ثابت حيال هذه المسألة، تمامًا كالرفض التركي المبني على مخاوف من تدفق اللاجئين، ومن تمدد تنظيمات تعتبرها إرهابية.
في الوقت نفسه، فسّر الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش تصريحات النظام الأخيرة كمحاولة للتأكيد على أن موقفه لن يتغير بعد الانتخابات التركية، لأن هناك شعورًا بأن الرئيس أردوغان سيفوز بالانتخابات، وقبلها كانت لدى النظام آمال بفوز المعارضة والتوصل إلى تغير سياسي يؤدي إلى تحول في الموقف التركي حيال سوريا.
واعتبر علوش أن تمسك النظام بالانسحاب التركي من سوريا نوع من رفع سقف التفاوض للوصول إلى أفضل النتائج، فالكل يعلم أن التوصل إلى تسوية حول الوجود العسكري التركي في سوريا، لا يمكن تحقيقه دون تسوية شاملة بين أنقرة ودمشق، وهذا ما تعمل عليه روسيا، وفق الباحث.
وسبق أن شكك وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بمستوى التأثير الذي يمكن أن يحققه اللقاء السياسي بين الأسد وأردوغان، وقال، “لقاء الأسد قبل أو بعد الانتخابات لن يكون ميزة لنا، ربما سيكون عائقًا”.
ويرى علوش أيضًا أن الأسد كان مجبرًا على المفاوضات بضغط روسي، وبعد زيارته إلى موسكو، منتصف آذار الماضي، تراجع عن رفضه للقاءات مع تركيا، ما أفضى إلى لقاء نواب وزراء الخارجية.
“هناك حسابات روسية في العلاقة مع تركيا تتجاوز الملف السوري، وموسكو حريصة على إصلاح علاقات حليفيها، وقد تلعب دورًا مستقبليًا مهمًا في دفع مسارات التفاوض بين الجانبين”، وفق علوش.
وفي مقابلة مع قناة “روسيا اليوم” في زيارته الخامسة منذ انطلاق الثورة السورية إلى موسكو، ربط الأسد أي تطور في العلاقات مع أنقرة بالانتخابات التركية، معتبرًا أن “الزلزال الوحيد الذي يغير من السياسات التركية ويدفع باتجاه التقارب حاليًا، هو الانتخابات الرئاسية في تركيا”.
المصدر: عنب بلدي