بداية يمكن التحفظ على هذا العنوان، لسبب بسيط، مفاده في الإجابة عن سؤال من الذي عاد إلى من؟ الواقع أن النظام السوري لم يطلب هذه العودة، ولم يعمل لأجلها، ولم يتحرّك من مكانه، أو لم، ولن، يقدّم شيئا مما تأمله التصريحات العربية منه، بمعنى أن النظام العربي، عبر منظمته جامعة الدول العربية، هي التي عادت إليه، أو هي التي طبّعت معه. ويمكن القول هي التي اكتشفت خطأ قرارها تجاهه بتجميد عضويته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، على أساس مراعاتها حقوق الشعب السوري، التي على ما يبدو لم تعد تعنيها. على ذلك ليس ثمّة مفاجأة في ما حصل، إذ هذا هو الوضع الطبيعي لتحالف، أو توافق، الأنظمة مع بعضها، بغض النظر عن علاقاتها مع مجتمعاتها.
ما حصل خطوة مقابلة ومعاكسة لخطواتٍ تتخذها الدول المعنية بحقوق الإنسان، وحريات مواطنيها، كما حدث في وحدة الموقف الأوروبي لمناصرة الشعب الأوكراني ضد الغزو الروسي أراضيه. ورغم أن التحالف العربي في جامعته لا يمكن مقارنته على كل المستويات مع الاتحاد الأوروبي في قدراته وفاعليته، وأدواره في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية، سواء قبل 2011 أو بعدها، إلا أن رمزية المقاطعة التي لا تنتج فعلا حقيقياً كان يمكن أن تقدّم فقط صورة إعلامية عن تضامن مؤسّسة عربية مع حق الشعوب العربية في التحرّر من استبداد أنظمتها وقمعها.
القطيعة أو العودة عنها بتساويهما هي فضيحة للنظام العربي، بكل معنى الكلمة، إذ إن تلك القطيعة لم تقدّم للسوريين شيئا، والتراجع عنها لن يؤثر في ميزان القوى شيئا، ثم إن النظام العربي هو ذاته الذي اتهم النظام بما فعله في سورية، وأخذ قراره بتعليق عضويته، على أساس أخلاقي، فأين ذهب ذلك كله؟ وبمعنى آخر، فإن هذه “العودة” هي بمثابة كشف حسابٍ سياسيٍّ وأخلاقي للنظام العربي أمام مواطنيه، إذ، وبغض النظر عما حصل من قطيعةٍ جاءت ردّة فعل على قتل النظام السوري بداية الثورة مئات من السوريين السلميين، ورفضه تنفيذ المبادرة العربية، فهل هذه العودة هي مكافأة لنظام شرّد ملايين من شعبه، وقتل وغيّب مئات الألوف من مواطنيه، وهل هذه رسالة الجامعة إلى العالم، عن النظام العربي، وحقيقة علاقته بحقوق المواطنين العرب.
لم يتغير شيء من النظام، أو لن يقدّم شيئا، لمن يبرّر التطبيع معه، هذا لن يحصل مع إصرار النظام على التموضع الإقليمي كحليف لإيران في المنطقة، وهذه نقطة حسّاسة، ولها مدلولاتها السياسية والأمنية والاجتماعية، على الصعيد الداخلي في سورية، وعلى الصعيد الإقليمي ـ العربي، كما على الصعيد الدولي.
على الصعيد الداخلي، سيجد النظام السوري في مراجعة النظام العربي سياساته إزاءه فرصة لتشديد قبضته على السوريين، بما فيه تعزيز سياساته لإيجاد ما يسمّيها سورية المتجانسة، الأمر الذي يعني الاستمرار بسياسته الحالية والسابقة من الاعتقالات إلى تغيير المعالم الديمغرافية في سورية. وعلى الصعيد العربي وما يتعلق بملف الكبتاغون، أيضا، وهو مصدر قلق أطرافٍ عديدة في النظام العربي، لا يبدو أن النظام سيعمل أي شيءٍ للتخفف منه، أو لتخفيف مخاوف الدول العربية من تبعاته الخطيرة. وعلى الصعيد الإقليمي، سيبقى النظام السوري كجسر بين إيران ولبنان، في سياساته لتعزيز هيمنة ايران عليه، من خلال مليشياته الطائفية المتمثلة بحزب الله، ما يعني الحفاظ على ما تسمّى “وحدة الساحات” من طهران إلى لبنان عبر سورية والعراق (بالإضافة إلى اليمن وغزّة).
في هذا الإطار، ستبىقى مشكلة اللاجئين السوريين مفتوحة، ففي الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية الراهنة، ثمّة صعوباتٌ عديدةٌ تحول دون تمكين اللاجئين السوريين من العودة إلى بلدهم وممتلكاتهم، والنظام لا يبدو مستعدّا للتسهيل في هذا الأمر، وكل ما يريده في هذا الأمر العودة إلى حلب الدول العربية النفطية لاستجلاب الأموال منها، وهي سياسةٌ نجح النظام السوري فيها منذ عقود.
فوق كل ما تقدّم، هذا التحول، أو العود، الطبيعي، من النظام العربي، والذي راجع فيه سياسة غير طبيعية له (القطيعة) انتهجها سابقا، إزاء النظام، ستُحدث له توترا إضافيا مع النظام الدولي، في حال لم يكن في هذه المراجعة حاصل حقيقي لتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، بكل تفاصيله، لتتمكن سورية من النهوض سياسياً واقتصاديا، والأهم لتستعيد قدرتها على لمّ شمل السوريين في وطنهم. إضافة إلى ذلك كله، تبقى المسألة الأساسية معلقة، أيضا، وهي استلاب السيادة السورية، لصالح روسيا وإيران من جهة، ومخترقة من دول أخرى، وتسرح جيوشها في الأراضي السورية من إيران إلى روسيا والولايات المتحدة إلى تركيا (إضافة إلى إسرائيل).
ليست المسألة هنا عودة النظام السوري إلى حظيرة الأنظمة العربية، أو عودة الدول العربية إلى النظام، فهذا تحصيل حاصل لحال الانفصام بين النظام العربي والشعوب العربية، ولحال التوافق بين الأنظمة العربية، بمعنى أن ما حصل لن يقدّم ولن يؤخّر شيئا، في أحوال سورية والسوريين، وبالنسبة لمكانة سورية عربيا، أو مكانة النظام العربي دوليا، فأنظمتنا في أسفل قائمة الدول، من كل النواحي. وعليه، يمكن القول إن عودة الأمور إلى طبيعتها بين الأنظمة ربما أسلم للشعب السوري، وللمجتمعات العربية، لأن اختلافات هذه الأنظمة من الطابع السطحي والشخصي، بينما التوافق هو الحقيقي والعميق، وهذا ما تؤكّده الحالة السورية.
المصدر: العربي الجديد