لم تكن الحرب في أي مكان أو زمان نزهة، حتى في الحالات التي تصور فيها البعض أن الحرب ستكون نزهة، ثبت لاحقاً أن النتيجة ضحايا وخسائر، وآلام تصيب من كانوا في مسرح الحرب وفي الجوار القريب وفي الأبعد منه.
والحرب في سوريا التي بدأت عام 2011، واحدة من حروب ما تزال تواصل فصولها وتداعياتها، وتترك بصماتها في سجل أسود، يسجل أرقام ضحايا وخسائر، تتجاوز حدود التصور، وهذا ما يفسر توقف كثير من متابعي إحصائيات الحرب عن رصد أرقامها ونتائجها منذ سنوات طويلة، والأمر في هذا ينطبق على سلوك دول ومنظمات بينها الأمم المتحدة ومنظمات دولية وإقليمية غيرها، تتابع وتهتم بشؤون اللاجئين وحقوق الإنسان والهجرة. بل إن جهات أخرى تتابع رصد وقائع ونتائج الحرب السورية، تؤكد أن الأرقام والنتائج ليست نهائية، بل هي عرضة للتغيير، ليس فقط بما ظل غائباً وغير معروف من وقائع وأحداث الحرب، التي قد ينكشف كثير منها، إنما أيضاً لأن الحرب لم تتوقف بعد، ما يعني أن أعداد الضحايا والخسائر سوف تزداد، والمعاناة يمكن أن تزداد.
لقد جعلت فصول الحرب وتطوراتها اغلب السوريين، إن لم نقل كلهم، ضحايا بصورة مباشرة أو غير مباشرة. حيث خسر كثير من الأشخاص أرواحهم، أو جرحوا، أو أصيبوا بعاهات دائمة، ربما كان الموت أرحم منها، وكثيرون غابوا في السجون والمعتقلات، وآخرون ذهبوا في الاختفاء القسري أو فقدت آثارهم.
ولم تكن المعاناة اللاحقة أخف وطأة مما سبق، فأغلب الناجين من الأخيرة دخلوا مسار عذابات لاحقة نتيجة تدمير ممتلكاتهم ومصادر عيشهم وقدراتهم الشخصية والعائلية والاجتماعية، وأخذتهم فصول الحرب وسيطرة قوى الأمر الواقع، وتركت آثارها عليهم في نزوح داخلي غالباً متكرر تحت وطأة السلاح وعقول وآيديولوجيات وممارسات أصحابه، وتضاعف مع عمليات النزوح، خراب سبل العيش والفقر والبطالة، والتعرض لانتهاكات الحقوق والكرامات بشكل تجاوز كل ما عرفه السوريون في تاريخهم عبر القرن الماضي، وما شهدته بلادهم من نكبات وحروب وانقلابات.
ووسط النسق السابق من معاناة السكان من ضحايا الحرب السورية، اضطر جزء منهم للخروج نحو بلدان الجوار، وبعضهم ذهب إلى الأبعد منها عبر هجرة ونزوح باحثاً عن أمان مفقود، وسبل عيش لم تعد متوفرة في بلده، متجاوزاً الخسارات الأولى في دروب هجرة ولجوء، ابتلعت فيها الطرق الصعبة والبحار البعض، وقتل حراس الحدود والعصابات الإجرامية وتجار البشر آخرين، لتبلغ المحصلة مئات آلاف الضحايا.
ولئن حصل بعض المهاجرين واللاجئين على ظروف أفضل للعيش وأقل معاناة في مستقراتهم الأوروبية، فاندمجوا في بنيتها، وذهب أكثرهم في مسارات التعليم والعمل، فإن الأحوال في بعضها ساءت وسط تزايد النزعات العنصرية، وفي ظل أزمات اقتصادية، ترافقت مع صعود لقوى اليمين إلى سدة السلطة، وكل ذلك عزز خطاباً شعبوياً ضد اللاجئين، وتصاعدت مطالب تدعو إلى إجراءات إعادة البعض إلى بلدهم مع شيوع ادعاءات عن تحسن الحالة الأمنية في بعض المناطق السورية.
الحال الأسوأ للمهاجرين في مراكز الانتظار الأوروبي حاضر في مثال اليونان، حيث ينتظر الضحايا ما يمكن أن تقرره الدول الأوروبية في مصيرهم، والبعض منهم ينتظر المصير منذ سنوات في ظل ظروف غير إنسانية، والأسوأ حالاً من هؤلاء، يظهر عملياً في واقع السوريين في تركيا ولبنان، وفيهما على وفق التقديرات العدد الأكبر من السوريين في الخارج، منهم قرابة أربعة ملايين في تركيا ونحو مليون في لبنان، الذي تقول مصادر فيه، «من باب تضخيم المعاناة اللبنانية»، إن عدد السوريين يزيد على مليونين ونصف المليون نسمة.
الأسباب المشتركة لسوء أوضاع السوريين في البلدين الأكثر تميزاً في علاقتهما بسوريا والسوريين، تكمن في ثلاثة، أولها إدخال ملف المقيمين السوريين في السياسات والصراعات الداخلية، والثاني تحميل اللاجئين السوريين مسؤولية الأزمات المتنامية في البلدين ولا سيما الأزمتين الاقتصادية والمعاشية، والسبب الثالث تنامي النزعات العنصرية ضد السوريين في البلدين، وكانت هذه الأساس الذي بنيت عليه خطابات عنصرية اضطهادية ضد اللاجئين كانت أشد وأكثر اتساعاً في لبنان بحكم وجود «حزب الله» فيه، وتدخله المسلح في سوريا ومشاركته في المقتلة السورية.
لقد حولت العنصرية وسوء الأوضاع في البلدين اللاجئين إلى ضحايا، وخاصة في الأعوام الأخيرة، إضافة إلى الحملات العنصرية والهجمات والجرائم ضد السوريين، فقد تزايدت الدعوات لترحيل السوريين إلى بلادهم، الأمر الذي عبرت عنه خطة تركية لإعادة مليون ونصف المليون «بصورة طوعية» إلى الشمال السوري، فيما توالت وتصاعدت في لبنان دعوات مختلفة لإعادة كل السوريين إلى سوريا، وهذا بعض فارق سياسة البلدين في موضوع اللاجئين، ومضمون إعادتهم إلى بلادهم.
الفرق الأهم في سياسة البلدين، هو اتساع سياسة العداء اللبناني لوجود اللاجئين السوريين. إذ هو الموقف الرسمي للحكومة وأجهزتها الرسمية ولا سيما الجيش والأمن، وهو موقف غالبية الأحزاب والجماعات السياسية في لبنان ولا سيما «حزب الله»، وهو موقف غالبية البلديات، وقد انضم مؤخراً إلى موجة معاداة اللاجئين اتحاد نقابات العمال اللبنانيين في مبادرة تطالب بترحيل السوريين إلى بلدهم وسط تزايد الاتهامات والادعاءات التبريرية، وفي خلاصة الحملات ووسط عدم وجود حل للقضية السورية يعيد اللاجئين إلى بلدهم، فقد تراجع مستوى دعم أوساط لبنانية ومساندتها اللاجئين السوريين، وتزايدت معاناتهم، ليس بفعل موجة العداء وحدها، التي منعت اللاجئين من العمل والتنقل والسكن والحصول على الخدمات الصحية، ومنعت أولادهم من التعليم، بل بفعل تراجع حجم ونوع المساعدات الأممية الذي كانت المنظمات الدولية تقدمه في السنوات الماضية بحجة نقص التبرعات.
أما السياسة التركية في ملف اللاجئين، فكانت أكثر هدوءاً في التعامل مع الملف من خلال تأكيد سياسة إيجابية حيال السوريين، والسعي إلى وقف النزعات العنصرية والحد منها، دون أن يمنع الأمر إعلان خطة «طوعية» يعود بموجبها مليون ونصف المليون لاجئ إلى سوريا، وتأكيد أن الإعادة غير الطوعية تتم فقط بحق مخالفي القانون التركي حصراً.
إن الخلاصة في واقع الضحايا السوريين، يمكن اختصارها في قول، إن ما أصابهم كان كثيراً وشديداً، وهو مستمر منذ بداية الحرب، وسوف يتواصل ما دامت الحرب قائمة وتداعياتها حاضرة، وأنها ترافقهم في بلدهم وحيث ارتحلوا أو استقروا، وأن السياسات العنصرية وحالات التنمر والاضطهاد والعداء مستمرة، وكلها أمور باتت تتطلب مساعي دولية وأممية للحد منها، والأهم من ذلك السعي نحو حل للقضية في سوريا، والذي يشكل بوابة حقيقية لنهاية السياسات والأفعال ضد اللاجئين السوريين وغيرهم أيضاً.
المصدر: الشرق الأوسط