ثالثا: نماذج الدول العربية المدروسة:
١- لبنان:
تحدث د.ساري عن واقع الحالة الدينية للمذهب السني في لبنان بشكل مباشر، وأنها تعتمد الثوابت التقليدية في العلاقة مع الشرع الإسلامي سواء لهيمنة النظرة التقليدية وتغليب التعبدي على الاجتماعي والعودة إلى مراجع دينية معتمدة من عقود وقرون. كما درس التعليم الديني في جامعة بيروت الإسلامية و كلية الدعوة الإسلامية وكلية الإمام الأوزاعي وجامعة طرابلس وجمعية الإرشاد والإصلاح. وكانت سماتها الاساسية انها تفصل بين العلم الشرعي والعلم الاجتماعي بما يعني أن أغلب طلاب الشريعة يعيشون في تناقض بين ما يتلقونه من علوم دينية وبين ما يجب أن يعرفوه من علوم اجتماعية يؤدي لأن يعيشوا عصرهم وزمانهم، وليس أن يكونوا نسخا مكررة عن أسلافهم من رجالات الدين ويبدون وكأنهم منفصلين عن الواقع ويعيدون إنتاج هذا الانفصال وتعميمه على من يتتلمذ على أيديهم. كما أن هناك مشكلة لبنان الذي يعتمد وفق القانون التقسيم الديني والطائفي، فهناك مشكلة الربط التعسفي بين المفاهيم الدينية السنية في مواجهة المفاهيم الدينية الشيعية، ضمن معادلة تأزيم وتقية متبادلة، في بلد لم يعرف فترات راحة سياسية واجتماعية في تاريخه، إلا في زمن قليل جداً.
٢ – سورية:
درس د.ساري الحالة السورية من واقع المشيخيّة السورية، وكونها تقليدية فقهيا، مترابطة علمائها، موضوعة تحت رقابة ووصاية السلطة السورية على كل المستويات؛ بدء من تعيين الخطباء الى مضمون خطبهم دائما. كما تحدث عن مناهج كلية الشريعة، وأن الإنسان منقسم بين القوانين المدنية والفقه، وأن مواصفات التدريس الديني الشرعي تقريظي وتقليدي، مع ندرة الاجتهاد، كما أنهم يحملوا الاسلام اكثر مما يحتمل في قراءتهم وتفسيراتهم وآرائهم. كما أن تصدر محمد سعيد رمضان البوطي بارتباطه المطلق مع السلطة بكل ما تصرفت عبر عقود بحق الشعب السوري. وكذلك وهبة الزحيلي الذي نظّر كثيرا وكتب في كل شيء، لكنهم وغيرهم من مدرسة كفتارو الآخرين، استعدوا الفقه المقاصدي وغيبوه، ليجعلوا المسلم اسير ما يلقنه إياه شيخه أو أستاذه، دون اي مراجعة او مساءلة، مع تسليمية تصل الى درجة التبعية المطلقة للشيخ والاستاذ مع غياب الجدل والنقاش والبحث والتساؤل والتقصي، كأدوات معرفية مهمة.
٣- الاردن:
عندما انتقل د. ساري للتحدث عن الأردن كان اكثر توسعاً في تناول الحقل الاجتماعي الديني بمستوياته المتعددة، فهناك تواجد للمدرسة الدينية التقليدية المذهبية، وهناك تواجد للاتجاه السلفي الوهابي، إضافة لوجود حركة الإخوان المسلمين بشكل شرعي مسكوت عنه من الحكومة الأردنية. الحالة الدينية في الأردن متوزعة بين الاتجاهات هذه، وكلها تقع تحت نظر السلطة، فمثلا ممنوع تواجد حزب التحرير الاسلامي في الاردن، وعناصره تعتقل وتسجن، اما السلفيين فمنهم منظرون كان لهم دور في التجييش لكثير من الشباب الاردني والعربي للالتحاق بالقاعدة وداعش، ما قبل الربيع العربي وبعده، منهم أبو محمد المقدسي والزرقاوي وغيرهم، وكان لهم تحرك في الأردن استطاعت السلطة الأردنية أن تحتويهم، لكن أغلب السلفيين الجهاديين تواجد في سورية والعراق بشكل أساسي وكانوا في بنية القاعدة وداعش والنصرة. كما تم دراسة المؤسسات الرسمية التي تقع تحت سيطرة الاتجاه العلمائي التقليدي، ودرس خطب الجمعة التي تحدثت في الدين واطلّت على السياسة حسب مواقف الخطباء واغلب الخطب تكون معتمدة من الجهات الدينية للدولة. كما تم الاطلالة على كليات الشريعة ودراسة مناهجها التدريسية، وظهر غياب التواصل بين الدراسات الدينية والعلوم الانسانية الا ما ندر. وظهر هيمنة التقليدية على هذه الاطروحات، وافتقار المناهج للمواد العلمية والاجتماعية، وضعف المقاربات والمقارنات التعددية. وظهر أن مجال التجديد شبه غائب إلا ضمن سياق إعادة إنتاج المتوارث، وأن الدور الاجتماعي والسياسي للحركة الإخوانية كان متكيفا مع الواقع المعاش ضمن أجواء انفتاح نسبي على الاخوان. قياسا بغياب التلاقح بين البعد الديني والعلوم الاجتماعية بشكل نسبي.
٤ – الكويت:
ثم انتقل د.ساري لدراسة الكويت كنموذج خليجي. وابتدأ بدراسة الحقل الديني الكويتي. لم يتوقف كثيرا عند كون الكويت تحوي نسبة لابأس بها من المنتسبين للمذهب الشيعي الذي له حضوره الاجتماعي وحتى السياسي، وأن الشيعة العرب وقعوا تحت تأثير المد الشيعي الإيراني بعد استلام السلطة في إيران من الخميني و تحول إيران لدولة تحكم وفق المذهب الشيعي الإثني عشري، وحولت نفسها لنموذج للشيعة في العالم، واعتمدت على التمدد في كل مكان يتواجد به الشيعة، فكان لهم حضور ودور في لبنان والعراق، كذلك في سورية عبر تحالف مع النظام السوري. وكذلك في دول الخليج جميعها، حيث فيها الشيعة بنسب مختلفة. لكن الكويت تحديدا استطاعت ان تحتوي هذا التعدد المذهبي من خلال ديمقراطيتها النسبية واعتمادها الدستور وأن حكمها يعود نسبيا الى مجلس الأمة المنتخب والمعبر عن مجموع الشعب.
في هذا الجو العام نجد غلبة المنهج السلفي في المسلمين السنة في الكويت، متأثرين من امتداد التيار الوهابي الوارد من السعودية، عبر دعاتها. وكذلك تواجد الإخوان المسلمين بمدرستهم الفكرية وتأثيرهم. كما اطلّ على الدراسات الجامعية التي تدور أغلبها في فلك التقليدية ومغرقة في إسلاميتها مع شبه غياب للتلاقح الفكري مع العلوم الاجتماعية.
٥ – المغرب:
ينتقل د.ساري للتحدث عن المغرب العربي، الذي يختلف نوعيا وجذريا عن بلاد المشرق العربي، يعتمد أهل المغرب أغلبهم المذهب المالكي، مع هيمنة نهج مقاصد الشريعة، مع ما يعني الاستعداد للتجديد واعتماد الرأي والعقل والاجتهاد بشأن المتغيرات الحياتية. يضاف الى ذلك شكل من التوازن المجتمعي بين مؤسسة الحكم وعلى رأسها الملك وبقية فعاليات المجتمع التي تتنوع بكل العقائد والتوجهات، بحيث انتجت دستورا متوازنا وتوافقات مجتمعية تجعلها تقترب من ديمقراطية مقبولة قياسا بتجارب البلاد العربية الأخرى الواقعة ضحية الاستبداد والصراعات البينية. وأشار الى التشكيلات الحزبية التي أخذت بالرؤى الاسلامية ونموذجها حزب العدالة والتنمية، الذي تحدث عن التعددية والديمقراطية ومارسها، كان منفتحا على العلم والتغيرات المعاصرة. كما تحدث عن الإنتاج المعرفي المقاصدي عبر رموز كثيرين منهم أحمد الريسوني ونظريته في المقاصد، اضافة الى ثلّة من المدرسين الاخرين الذين ينحون ذات الاتجاه. كذلك نوّه بدار الحديث الحسنية التي تقوم بذات الدور المعرفي المقاصدي الرائد، وتوقف عند نماذج من الإنتاج المعرفي الديني مثل: الحوار الديني وقضايا الاجتهاد والتجديد في الثقافة الإسلامية.
بهذا الشكل نرى أن المغرب قد خطى خطوات في طريق التلاقح بين الدراسات الدينية والدراسات العلمية والاجتماعية وحققت ضمنا هذا التزاوج المطلوب لخدمة الدين والإنسان والمجتمع.
٦ – الجزائر:
ينتقل د.ساري بعد ذلك للتحدث عن الجزائر ودراسة حقلها الديني وسماتها الأساسية، ليؤكد على تعدد المدارس الدينية فيها، فهي مالكية المذهب والمدرسة المقاصدية فيها حاضرة، لكن وجودها تحت حكم المستعمر الفرنسي لسنوات طويلة، ودور المعلمين القادمين إليها من المشرق العربي جعلها عرضة لفاعلين فكريين متنوعين، حيث وصلها أيضا المذهب السلفي الوهابي، واصبحت تمور بهذا التعدد الذي كان حاضرا في جامعة الجزائر وغيرها من الجامعات. وكان لتدخل السلطة في إيقاف المسار الديمقراطي في تسعينيات القرن الماضي، بحيث أوقف التفاعل والتكامل بين هذه التيارات داخل الواقع، مما اعطى للتيار السلفي المبرر السياسي لينتقل للعمل العنفي وتدخل البلاد في دوامة الدم المستباح لفترة طويلة. ثم يطل على تجربة جامعة الأمير عبد القادر التي تشبه دور الدار الحسنية في المغرب، من حيث تعزيز المنهج المقاصدي والتفاعلي التكاملي مع التخصصات العلمية والإنسانية والاجتماعية الأخرى. وهذا هو المسار المطلوب معرفيا ودوره الايجابي مستقبليا في اعادة التلاقح بين الاسلام والعلم والعصر.
٧ – جامعة حمد بن خليفة في قطر .
ركز د.ساري على دراسة دور هذه الجامعة واعادة الجانب الاخلاقي المغيب والغير مدروس بمافيه الكفاية في الدراسات الاسلامية. كما ركزت على الاسلام والشؤون الدولية، كذلك الأخلاق التطبيقية الاسلامية، وحول العمارة والفن الإسلامي وكذلك التمويل الإسلامي قياسا على الأنماط الرأسمالية السائدة، واسهام المسلمين في الحضارة. كل ذلك في اختصاصات الماجستير والدكتوراة، يشرف عليها خيرة المدرسين باختصاصات متعددة، محققين في ذاتهم هذا التزاوج بين الإسلام والعلوم الاجتماعية والسياسية والإنسانية المعاصرة. كما اشار الى مركز القرضاوي للوسطية الإسلامية ودوره الرائد في تعميم صورة اسلام متصالح مع العصر وحقوق الانسان وقيم الخير والحق والعدل والعلم وصالح الانسان. وبهذا الشكل تكون هذه الجامعة تدنموذجا مطلوبا ورائدا وتقدم الخريجين الذين سيكون لهم دور في اعادة الوعي الديني والعلمي التنويري المطلوب.
٨ – الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا.
ينتقل د.ساري بعد ذلك للتحدث عن نموذج علمي إسلامي في ماليزيا، نموذجا يعتمد على مقولة أسلمة المعرفة، حيث كان يرأسها لفترة طويلة اساتذة متميزين مثل عبد الحميد ابو سليمان اسماعيل الفاروقي وغيرهم. وكان لديهم اختصاصات متنوعة مثل المنهج التكاملي مقابل المنهج التقليدي، ودراسات في الاقتصاد من منظور إسلامي كذلك في علم النفس وحول المنهج المقاصدي المفتوح على التجديد والاجتهاد وأسلمة المعرفة وتعميم قيم التعددية وأسلمة علم الاجتماع وعلم الإنسان. كل ذلك متاحا عبر مناهج دراسية للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه، ومن خلال مدرسين متميزين، وتخريج اعدادا كبيرة يكون لهم دور في صناعة حضور للإسلام مختلف نوعي ايجابي وتفاعلي وناهض في المجتمع، هذا ما حصل في ماليزيا، حيث عممت تجربتها عبر الكثير من الخريجين الدارسين فيها من جنسيات أخرى ليعودوا و ينشروا معارفهم في بلادهم وحيث يتواجدوا.