الطرفان لا يريدان الحرب… هذا ما أعلنته قوات حفظ السلام في جنوب لبنان (يونيفيل) بعد تواصلها معهما لدعوتهما إلى “ضبط النفس”. وهذه الصواريخ والقذائف المتطايرة بين الجنوب اللبناني وشمال إسرائيل ماذا تسمّى؟ مجرّد “معركة بين الحروب”، مثل التبادلات النارية من قطاع غزة وإليه، والضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية في سوريا. أما الطرفان المعنيّان بالنسبة إلى لبنان فهما: إيران (عبر وكيلها “حزب الله”)، وإسرائيل التي أصبحت في مواجهة مع وكلاء ذلك الوكيل – الفصائل الفلسطينية المسيطرة على قطاع غزّة والمخترقة الضفة الغربية. أي أن “حزب إيران” بات يخوض بدوره “حرباً بالوكالة” لا تكلّفه أكثر من تزويد حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” بعض الصواريخ التقليدية، وتحديد ثغرة جغرافية يمكنهما التحرّك فيها لإطلاق “رسائله إلى العدو”.
اللافت أن هذا العدو ارتضى اللعبة والتزمها ولا يحاول الإخلال بقواعدها، بل إنه يبعث برسائل إلى “حزب إيران”، عبر قنوات الأمم المتحدة، ومنها إلى الحكومة اللبنانية، تبلغه فيها أنها ستضرب وكلاءه وعليه أن يبقى خارج الصورة كما لو أن الأمر لا يعنيه. وإذ توعّد الأمين العام لـ”الحزب” بالردّ “قطعاً وسريعاً” على أي اعتداء، فإن الجانب الإسرائيلي يعرف مسبقاً أن ردّه سيكون على “أماكن مفتوحة” لا أهداف فيها. وهكذا يكون الطرفان متفقين ضمناً على حدود أي تصعيد. وفيما يعرّف “محور الممانعة/ المقاومة” هذا الوضع بأنه “معادلة ردع” استطاع إقامتها وأجبر العدو على عدم تخطّيها مهما استُفزّ، فإن إسرائيل تلتزم “عدم الانجرار إلى مواجهة إقليمية” فيما هي تبحث عن استكمال التطبيع مع الحكومات العربية. وإذ يرفض المتطرّفون في حكومتها هذه المعادلة، فإنهم لا يصرّون آنياً على تجاوزها ويفضّلون متابعة أولويات تمكينهم من السلطة. لكن هذه الأجندة الداخلية، تحديداً، باتت تشكّل حافزاً لـ”محور الممانعة/ المقاومة”.
ففي التركيز على المسجد الأقصى، خصوصاً في شهر رمضان، ينخرط الطرفان في سباق مغالبة دينية يخوضه “المحور”، مستغلاً رمزية الظرف الرمضاني واندفاع الإسرائيليين إلى العنف المفرط والتنكيل بالمصلّين والمعتكفين. ومع أن الممارسات الإسرائيلية تتسم بغباء مشهود، إلا أنها تحقق بعض الغايات، وأهمها تكرار الاقتحامات والاعتداءات والإساءات والاستفزازات، اليومية والمتعمّدة، لتفرض بقوّة الاحتلال والسلاح على الفلسطينيين، وعلى الرأي العام الدولي أيضاً، بما فيه العربي والإسلامي، قبول “السيادة الإسرائيلية” على كل الأماكن المقدّسة في القدس وغيرها، كذلك قبول “أحقّية” يهودية في المسجد الأقصى كـ”جزء من جبل الهيكل” المزعوم، وبالتالي فرض تقاسم المسجد مكانياً وزمانياً بين اليهود والمسلمين. لكن “منظمة التعاون الإسلامي” رفضت في اجتماعها الطارئ المسّ بالهوية العربية والإسلامية للقدس الشرقية، مؤكدة أن الاحتلال الإسرائيلي “ليست له أي سيادة على أي جزء من المسجد الأقصى”.
في أي حال، ليس بهذه الممارسات تستطيع إسرائيل إثبات أي حقّ لها في الأقصى أو في أي أماكن مقدّسة أخرى، بل إن مشهد جنودها وهم يقتحمون المسجد بالقنابل المسيلة للدموع ويكسرون صلاة المصلّين، يؤكّد العكس تماماً، وهو عدم أهلية إسرائيل لممارسة أي “شرعية” أو “سيادة” على ذلك المكان. في المقابل، ليس بالدفع نحو “حرب دينية” يمكن إيران أن تحقق أي هيمنة على العرب والمسلمين، إذ إنها، على العكس أيضاً، وعن قصد أو غير قصد، تستخدم القدس والأقصى في معركة نفوذها، وتقدم لإسرائيل الذرائع التي تحتاج إليها لمواصلة نهجها الوحشي. لكن أمرين ساهما في منح إسرائيل وإيران هذا الاستفراد بالصراع على فلسطين: الأول، أن “وساطة” الولايات المتحدة فشلت بعدما افتقدت كل نزاهة في إدارة الصراع ودفعت بمشروع السلام إلى التيه. والآخر، أن العرب انكفأوا فعلياً عما يسمونه قضيتهم “المركزية”، ولم يعودوا يملكون خيار الحرب ولا التأثير في خيار السلام.
القدس والأقصى أصبحا واقعياً محور صراع إسرائيلي – إيراني. كلا الطرفين يبلغ ما يريده بطريقتين متماهيتين. كلاهما يعوّل على الانقسام الفلسطيني، الذي ساهمت فيه إسرائيل واعتبرته مصلحة استراتيجية لها، إذ إنه سلّحها بحجة عدم وجود طرف/ “شريك” فلسطيني يمكن التفاوض معه على “تسوية” ما، وبالتالي فإن “الحلّ” الوحيد الذي يعتقد الإسرائيليون أنه متاحٌ هو بضمّ الضفة الغربية (صياغة جديدة للاحتلال والسعي إلى “شرعنته” استناداً إلى فتوى بتسلئيل سموتريتش الواهمة بعدم وجود “شعب فلسطيني”) وإبقاء قطاع غزّة معزولاً ومحاصراً (منطقة خارج أي نظام إقليمي أو دولي مصيرها أن يعاد احتلالها إسرائيلياً أو توضع تحت وصاية عربية).
ومن جانبها، كانت لإيران مساهمتها أيضاً في الانقسام الفلسطيني، وقد أمعنت في تعميقه متسلّحة بحجة أن “السلام” كان مجرّد “خدعة” إسرائيلية – أميركية لإدامة الاحتلال، وهو ما أثبتته الوقائع طوال عقدَين ونيّف، وبالتالي فإن “الحلّ البديل” يكون باستنهاض “المقاومة”، وبعدما افتقدت المقاومة الدعم العربي بالسلاح، انبرت إيران لتعويض هذا النقص بكل وسيلة متاحة، وأصبحت صاحبة القرار في سوريا ولبنان وغزة، كما زرعت بنى مسلّحة تتحدّى بها إسرائيل وتشاركها في إضعاف السلطة الفلسطينية في الضفة.
لم يعد في إمكان إسرائيل أن تتجاهل ما يدّعيه “محور الممانعة/ المقاومة”، إذ كانت قد أخرجت المقاومة الفلسطينية من حساباتها، واستخدمت “خدعة السلام” لتكريس الاحتلال والتحكّم بالشعب الفلسطيني وأراضيه، ووظّفت الانقسام الفلسطيني لشطب القضية الفلسطينية من برامج حكوماتها، لكنها لم تحصل على التأييد الدولي (غير الأميركي) لإلغاء هذه القضية واستبدال “قضية” أخرى بها ضد امتلاك إيران السلاح النووي. غير أن الواقع على الأرض يشهد بأن إيران نجحت في إقامة “ساحات” عدة لإشغال إسرائيل وتفعيل الصراع معها، بدليل صواريخ غزة وجنوب لبنان والكتائب المسلّحة في الضفة والسيطرة المباشرة على جبهة الجولان والعمل على بناء منظومة دفاع جوي مضاد للضربات الإسرائيلية في سوريا.
على رغم التشكيك المشروع في أن هذه التحرّكات تهدف إلى تعزيز هيمنة “المشروع الإيراني” في نهاية المطاف، وليس إلى نصرة فلسطين وشعبها، أو أي شعب آخر، إلا أن حصيلة عمل أربعة عقود أتاحت لـ”المحور” القول أخيراً إنه حقّق أمرين: “وحدة الساحات” و”توازن الردع”. ما يؤكّد ذلك ليس خطاب التحدّي لجماعة “الممانعة”، بل النقاش الدائر على المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل، انطلاقاً من أن قوة السلاح متوفّرة ولم تفقد شيئاً من تفوّقها لكن خيار الحرب أصبح أكثر صعوبة، أما الأهم فهو ما يردّده ساسة إسرائيل عن “ضرورة استعادة الردع”، ولعل الشيء الوحيد الذي لا يفكّرون فيه هو ما قيل لهم سابقاً عن أن “السلام وحده يضمن أمن إسرائيل”.
المصدر: النهار العربي