ستيفان ونتر باحث كندي اهتم في الوضع السوري بعد أحداث الثورة السورية المنطلقة في ٢٠١١م، له متابعات سابقة للوضع السوري، سلط الضوء على العلويين منذ النشأة حتى مطلع القرن العشرين، كتابه حديث أصدره في عام ٢٠١٥م.
أولا: المنهجية المتبعة في الكتاب.
اعتمد الكاتب في بحثه المطول عن العلويين الممتد على مدى ألف عام تقريبا، منذ القرن العاشر الميلادي حتى بدايات القرن العشرين، في كتاب كبير يصل الى ٥٠٠ ص، اعتمد على ما توفر له من وثائق مرجعية سواء لما يتعلق في الجانب الفكري والعقائد والتاريخ وتطور وضع العلويين عبر هذه الفترة الزمنية الطويلة، زار دمشق وبيروت وحلب واسطنبول وغيرهم من المدن والبلاد وعاد الى أرشيفهم السابق للحصول على المعلومات من مصادرها، وأعاد التأسيس على ضوئها، لتوضيح حقائق العلويين على كل المستويات، دون مواقف مسبقة معممة مع أو ضد، من داخلها أو خارجها كطائفة وواقع اجتماعي وحياتي، خاصة في أجواء صدامية مؤلمة حيث الحدث السوري، المصنّف عند الكثيرين بأنه اضطهاد وظلم من العلويين بحق اغلب الشعب السوري المسلم السني، بغض النظر عن صحة هذا التوصيف. الكتاب أقرب لحقائق التاريخ من مصادرها. وهذا نقطة امتياز تسجل للكاتب والكتاب.
ثانيا: النصيريون في سورية، القرون الوسطى.
عاد الباحث في استقراء التاريخ الى المراحل الاولى لتشكيل الفرق الاسلامية، وتبلور مواقفها حول من يكون له الحق بخلافة رسول الله محمد ص، دينيا وزمنيا. وتبلور فرقتين اساسيتين، الاولى قبلت بخلافة أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وأن الصراع بين علي ومعاوية ونهايته بمقتل علي ونشوء الحكم الوراثي القائم على الغلبة بدء من معاوية بن أبي سفيان وما تلاه، سمي القابلين به اهل السنة والجماعة، على ماحصل فيما بينهم من اختلاف وتعدد وتنوع وتفرع مع الزمن. وتشكل أيضا فرع سمي أشياع علي بن أبي طالب، يرون أنه الأحق بالخلافة وعقبه من بعده، والبعض اعتبرها حقا دينيا وسياسيا. وسرعان ما تفرق الشيعة واختلفوا مع الزمن ومع الأئمة المعتمدين، حيث اتفقوا على احد عشر إماما تبدأ بعلي وتنتهي بالحسن العسكري وان ابنه الثاني عشر محمد الصغير اختفى وأن المسلمين الشيعة الاثنى عشرية او الجعفرية ما زالوا ينتظرون عودته، وهناك من اختلف على الإمام السابع، حيث قرر فريق من الشيعة أتباع الإمام السابع إسماعيل بديلا ان ابن اخيه الموصى له واستمرت الامامية بعقبه من بعده، وسمي هؤلاء بالاسماعلية او السبعية. ويتركز بحث الكاتب بعد ذلك حول الإمام الحادي عشر العسكري ومن ادعى انه بابه أي المتلقي العلم الديني والدنيوي منه، وقد كان هناك ابن نصير احد هؤلاء المدّعين انهم باب الامام وناقل رسالته من بعده، وسميت الفرقة الاسلامية هذه على اسمه، كما كان هناك ابن إسحاق يطرح ذات الرؤية بشكل مختلف، وغيرهم. تميزت دعوة ابن نصير وبعده الخصيبي بمزيد من التبجيل والتأليه لعلي بن أبي طالب، وبالتالي اعادة قراءة واقع الدعوة الإسلامية نفسها من خلال الظاهر محمد الرسول والباطن علي الاله والباب سلمان الفارسي، كل ذلك تم من خلال تلاقح فكري غنوصي مسيحي مع الإسلام. كانت الاسحاقية ايضا مغالية برؤياها الدينية مثل النصيرية، حيث بدأت الدعوتان منذ مطلع القرن العاشر تنتشران من بغداد الى بلاد الشام بدء من حلب الى جبال الساحل السوري. عاشت الدعوة النصيرية صراعا فكريا لتثبيت وجودها بين الناس في بلاد الشام مع الاسحاقية المتفقة معها بالجوهر والمختلفة عنها ببعض الفروع، وكذلك اصطدمت بالاسماعيلية، واصطدمت بالدعوى الدرزية التي انشقت عن الإسماعيلية إبان الحكم الفاطمي في المغرب العربي ومصر حيث اعتقد الدروز بألوهية الحاكم بأمر الله الفاطمي. كان للحكم الحمداني في حلب وما حولها دور في رعاية النصيرية وانتشارها في عهدها الأول. كما كان هناك دور للتغلغل الصليبي الذي استمر لقرنين من الزمان، حيث كان النصيريين (العلويين لاحقا) متعاونين هم والموارنة مع الصليبيين في مواجهة المماليك، الذين كانوا في صراع دائم مع الصليبيين بحملاتهم المتتالية إلى أن تم إجلاء الصليبيين عن المنطقة العربية منذ الأيوبيين وما بعدهم. سيكون في تلك الحقبة دور للداعية الديني النصيري المكزون السنجاري الذي أسس لتحويل الدعوة النصيرية من دعوة شبه صوفية حلولية لذات الله في علي، إلى دعوى دينية متبلورة لها منظومتها الفكرية والعقدية وكتاباتها المرجعية. لقد أسس المكزون السنجاري للنصيريين حضورهم كفرقة دينية لها خصوصيتها وعقائدها.
ثالثا: ما وراء الملاذ الجبلي:العلوية و الدولة السنية.
يغوص الباحث تفصيليا حول واقع النصيريين العلويين عند استقرارهم في بلاد الشام في حلب والساحل السوري، وأنهم بدؤوا في عمليات تفاعل وصراع فكري فيما بينهم، ادى لهيمنة النصيرية وهزيمة الدعوى الاسحاقية. ومن ثم الصراع والتفاعل بين فكر الحلول الصوفي وبين دعوى اخرى سميت الثامنة. جنحت الدعوة العلوية مع المكزون السنجاري لمزيد من التقنين والترسيخ. أكد الباحث في بحثه أن السلطات التي تعاقبت على المنطقة بدء من الحمدانيين والصليبيين وبعدها المماليك كانت تتعامل معهم بصفتهم مكون اجتماعي، وكيفية الاستفادة منهم سواء للعمل، او ريع مالي ضرائب، او جزء من البنية العسكرية للحكم القائم في صراعاته مع الغير. حيث كانوا على صراع مع حكامهم في كثير من الاحيان، رفضا للضريبة او اعمال السخرة او الانخراط في عسكر الحاكم ايا كان، كما اوضح الباحث أن العلويين لم يكونوا على التواؤم مع مجاوريهم في المكان والمختلفين عنهم عقائديا مثل الاسماعيليين، حيث حصلت بينهم صراعات كثيرة، ولم تكن الغلبة لطرف واحد على طول الخط. أظهر الباحث أنه لم يكن ينظر للعلويين على انهم فرقة اسلامية مارقة كما اشيع بفتاوى ابن تيمية، التي لم يكن لها أي تأثير على طبيعة العلاقة بين الحكام في كل العهود وبين العلويين، كانوا ينظرون لهم كل الوقت كفئة يجب استثمارها لصالح الحكام ومشاريعهم العسكرية أو جني الضرائب منهم، ككل رعايا الدولة وفئاتها. توقف الباحث عند واقعة تاريخية حصلت ١٣١٨م حيث حوكم بعض العلويين وأعدم بعضهم وسماها البعض انتفاضة العلويين، ودليلا على مظلوميتهم كعلويين، أوضح الباحث أن ما حصل هو انتفاضة مظلومين علويين في مواجهة ظلم الحاكم وضرائبه، وتمت محاكمتهم لهذا السبب وليس لأنهم علويين حصريا ولا علاقة لخصوصيتهم الاعتقادية بذلك، مؤكدا أن ذلك كان يحصل من الحكام بحقهم وحق غيرهم أيضا. توسع الباحث عبر تتبع واقع العلويين تحت حكم المماليك وقبلهم الصليبيين، أنهم كانوا في كل الوقت فئة اجتماعية على علاقة تفاهم او صراع مع من يحكمهم لكونهم كانوا كل الوقت يطلبوا ليكونوا عسكرا يقاتلوا لمصلحة الحاكم، أو يجنى منهم الضرائب لصالح ذات الحاكم. وهم يرون ذلك ظلما بحقهم وكانوا جاهزين دوما للتمرد والانتقام، بشكل فردي أو كعصابات مسلحة تحت قيادة علوي غالبا ما يكون من العوائل المالكة للأراضي. اكد الباحث ايضا على التفاوت في القوة الاقتصادية بين العلويين، اغلبهم فقراء باراضيهم الوعرة ولا يملكون إلا جهدهم، بينما القلائل منهم مالكين إقطاعيين وأراضي واسعة، واكد ان اغلب المالكين كانوا على علاقات ايجابية وتفاهم مع الحكام انّا كانوا، وانهم كانوا في أغلب الأحيان ممثلي الحاكم الفعلي على مقاطعتهم، كما اكد الباحث على البنية العشائرية للعلويين حيث تختص كل عشيرة بالسكن والعيش في مقاطعة محددة. كل ذلك أورده الباحث ليؤكد أن الحاكم سواء كان من الصليبيين المسيحيين الغربيين، او من المماليك الذين كانوا مسلمين سنة، قامت دولتهم على أنقاض الفاطمية الإسماعيلية، لم يكونوا يتعاملوا مع العلويين من منظور ديني اعتقادي، وانهم فرقة مارقة او مهرطقة في الاسلام، بل بخلفية المصالح وجني الضرائب واستثمارهم عسكريا.
رابعا: المرحلة العثمانية.
كان لدخول العثمانيين الى بلاد الشام منذ عام ١٥١٦م بداية لمعاملة مختلفة مع العلويين فيها، فعلى الرغم من كون العقيدة الرسمية للعثمانيين هي الإسلام السني، فإن معاملة العثمانيين للعلويين لم تكن تمييزية على قاعدة عقائدهم الخاصة، يؤكد الباحث ان المجازر المدعاة في حلب بحق العلويين هي دعوى غير حقيقية لا داعم تاريخي لها، وأن العلويين منتشرين في جبال الساحل والمناطق الوعرة منذ قرون سلفت، وان العثمانيين تعاملوا مع العلويين وفق منطق الدولة التي تعمل لتقنين الالتزام بالضرائب ومواجهة الفوضى أو التعديات او السطو، وكذلك بالتجنيد ضمن الجيش العثماني احيانا. حدد على كل علوي ضريبة سنوية تدفع للدولة العثمانية سميت ضريبة درهم الرجال، وأكد أن من كان يقوم بجمع الضرائب وتسليمها للدولة هم قيادات علوية من الملّاك والزعامات العشائرية، وكانت تلتزم مع الدولة العثمانية كعقد سنوي تؤديه لها حسب إحصاءات لهذا الغرض، كان درهم الرجال لا يشمل إلا الرجال القادرين على العمل والإنتاج، لذلك لم تفرض على الاطفال او النساء او كبيري السن، وهذا يؤكد ان خلفية الضريبة اقتصادية وليست لكونهم علويين. أكد الباحث ان العلويين لم يكونوا موحدين متوافقين تجاه الدولة العثمانية، فبعض زعاماتهم كان متصرفا وحاكما على من تحت سلطته لصالح الدولة التركية، والبعض تزعم عصابات نهب وسطو واعمال عنف بحق غيرهم وبحق الدولة العثمانية، وكانت الدولة العثمانية تواجه حالات العصيان هذه عبر سنوات طويلة، واستطاعت مع تقدم الزمن أن تحول العلويين من متمردين الى رعية ملتزمة تجاه الدولة ولو تحت الإجبار.
خامسا:عهد السيادة العلوية الذاتية.
استطاعت الدولة العثمانية بمضي السنين أن تؤطر علاقتها مع العلويين في مناطقهم، فقد تبلورت عشائر وطبقة رجال أعيان وملّاك، كانوا هم الوسيط المنفذ للارادة العثمانية من ضرائب والتزامات أخرى، تتالى الكثير من الرجال والعائلات على هذا الالتزام ومنهم كنماذج آل شمسين، وبيت الشلف، ومنهم كرجال صقر بن محفوظ، كان ذلك على طول الشريط الساحلي والجبلي السوري مثل صافيتا وجبلة وبانياس وطرطوس واللاذقية والقرداحة والشيخ بدر وغيرها كثير، والعشائر منها الكلبية و القراحلة والمتاورة وغيرها . كانت هذه الفترة في القرن السادس عشر والسابع عشر، مستقرة نسبيا وحصلت زيادة في أعداد العلويين مما دفع بعضهم للهجرة الى أنطاكية وكيليكية وديار بكر، كانت عائلات بركات ورسلان وغيرها من هذه العائلات المهاجرة والمستقرة في هذا المناطق الجديدة. وهكذا عاش العلويين في مناطق توزعهم المتنوعة هذه على تنوع اقتصادي في مصادر معيشتهم، ولم تتخلل هذه الفترة إلا القليل من حالات التمرد على الضرائب او اللجوء لتشكيل عصابات مسلحة تعتمد السطو و السبي والقتل، وسرعان ما تدعم الدولة العثمانية مسؤوليها العلويين في المنطقة للسيطرة على هذه التمردات واعادة الحياة الى دورتها الطبيعية. كما لم تخلو هذه الفترة من صراع علوي اسماعيلي يضر بالطرفين ولم تكن الغلبة لصالح طرف واحد على طول الخط، وكانت أغلب هذه الصراعات قائمة على مصالح متنافسة، رغم عمق الصراع العقائدي الموغل في القدم بينهم، لكن سرعان ما تتدخل الدولة العثمانية وتنهي الصراع وتعيد كل طرف الى حجمه وموقعه ضمن سيطرة الدولة العثمانية.