عندما تتعمد السلطة في دولة ما أن تنحّي جانباً صفة “المواطن” عن أفرادها، وتزجُّ بهم في تصنيفات أخرى، تتعارض مع/ أو تلغي “المواطنة”، فإنّها تؤسس بشكل طبيعي لمجتمع هش قابل للتفتت والانقسام، وغالباً ما تلجأ الديكتاتوريات على اختلافها إلى هذا الأسلوب، في خلق بنية اجتماعية هشة، كي تتمكن من السيطرة على مجتمعاتها، وكي تتمكن من إفشال أي محاولات لمواجهة سلطتها.
تتطلب السيطرة المستدامة للديكتاتوريات على شعوبها أن تعزز أو تخلق تصنيفات جديدة، وأن تفرض هذه التصنيفات، وفق سرديات أو عصبيات ما، تعيق انصهار المجتمع وتجانسه، وبالتالي فإن هذه التصنيفات التي تُفرض على المجتمع، تمنع أولاً خلق الفرد/ المواطن، وتضع ثانياً تصنيفات المجتمع في مواجهة دائمة فيما بينها، ومع ازدياد قدرة السلطة الطاغية على التحكم بالمجتمع، فإنها تذهب إلى ترسيخ تصنيفاتها وتفرضها على الأفراد، سواء قبلوا بها أم لا، ولأن هذه التصنيفات تبنى أساساً لصياغة العلاقة مع الآخر، أو بمواجهته، فإن السائد هو أن يتم تنميط الآخر مسبقاً، أي تنميط التصانيف الأخرى، وفق سردية ما مستمدة من التاريخ القديم، أو الحديث أو من الإيديولوجيا أو ..أو.. وللأسف فإن السردية الطاغية في مجتمعاتنا، هي سردية الآخر الكافر، المعادي، الضامر للشر.. الخ. الأمر الذي يوصل في الأزمات الاجتماعية الكبيرة إلى حد قتل الآخر، (القتل على الهوية) كما حدث في لبنان والعراق وسوريا.
عندما تعجز الدولة الفاشلة (بغض النظر عن أسباب فشلها)، عن تأمين حاجات المجتمع الأساسية، وتعجز عن القيام بدورها الوظيفي، فإن السلطة القائمة تلجأ لفرض سيطرتها عبر تفتيت المجتمع، وعبر استعمال العنف، وتتباين المجتمعات كثيراً في طرق مواجهتها للعنف الذي تمارسه السلطة عبر مؤسسات الدولة، وهذا التباين يعكس إلى حد كبير بنية المجتمع، ومدى انسجامه وتماسكه، أو مدى هشاشته وضعفه.
رفعت الثورة السورية التي انطلقت في 2011م، الغطاء عن حجم الخراب الذي أصاب المجتمع السوري، ومدى الهشاشة التي وصل إليها، بعد عقود من حكم عائلة الأسد، هذا الخراب، وهذه الهشاشة لم تكن بالتأكيد نتاج حكم عائلة الأسد فقط، بل كان لها امتداداتها لمراحل طويلة سابقة، فالمجتمع السوري الذي كان قد بدأ بترسيخ بعض الخطى باتجاه ولادة (الأفراد/المواطنين)، استطاع حكم عائلة الأسد أن يحطم كل الخطوات على قلتها، وأن يعيد إنتاج (الأفراد/الرعايا)، ثم أن ينتج الفرد التابع الخائف، غير القادر على إنتاج العلاقة السوية سواء بينه وبين الدولة، أو بينه وبين الفرد الآخر في المجتمع.
استغل النظام السوري جيداً، وساعدته في ذلك أطراف داخلية وخارجية، الهشاشةَ التي رسّخها بعمق، وبخطوات ممنهجة عبر عقود من الزمن، في معركته مع الشعب السوري بعد الثورة السورية، وتركّز الوجه الأهم في استغلاله المذكور على الصدع الطائفي، واختياره لهذا التصنيف كان مردّه الأساسي إلى بنية المجتمع السوري من جهة، وإلى ما زرعه النظام بنفسه ورعاه داخل هذا المجتمع لتعزيز الهويات الطائفية، وجعلها هويات راسخة، ومتماسكة بحيث استطاعت أن تتفوق وتحطم بسرعة الهوية السورية الهشة.
اليوم يمكن القول: إن النظام السوري الذي دفع المجتمع السوري متعمّداً إلى حالة التخندق الطائفي، والذي توهم أن هذا الدفع سيمكنه من تحقيق انتصار سريع وساحق على الثورة السورية، يقف عاجزاً عن إنقاذ نفسه أولاً، وعاجزاً عن وقف هذا التهتك الذي يعصف بالنسيج السوري ثانياً، وهو يدرك تماماً أن انقسام المجتمع السوري إلى حد كبير، سيشكل العائق الأكبر أمام استعادة سيطرته على سوريا، لأن الذي يحدث غالباً في المجتمعات الهشة التي تواجَه بالعنف الذي تمارسه المؤسسات الأمنية في الدولة الفاشلة هو انقسام هذه المجتمعات، وفي حال استمر العنف وآلياته طويلاً فإن الأفراد والجماعات يلجؤون إلى اختراع آليات دفاع خاصة بهم، سواء كانت هذه الآليات فردية أو جماعية، وقد تلجأ بعض فئات المجتمع للوقوف مع النظام في وجه فئات أخرى، وإلى تحقيق مصالحها على حساب فئات أخرى من المجتمع، فتقوم بتقديم خدماتها له مجاناً، فقط كي تتجنب عنفه أولاً، وكي تحمي وجودها الذي أصبح مهدداً – وفق رؤيتها- من الفئات الأخرى، لكن هذا لا يعني أنها ستكون إلى جانب هذا النظام دائماً، لكنه يعني أن شرخاً عميقاً قد أصاب بنية المجتمع، شرخ عزّزه النظام، وعمل طويلاً لترسيخه، كي يستثمره في إضعاف كل فئات المجتمع.
في كل احتمالات هذا الصراع هناك مشترك أساسي، وهو أن العنف المنفجر والمتمدّد خارجا سببه الرئيسي، سيتحول من صيغته الأساس التي تسببت بانفجاره (سلطة في مواجهة شعب)، إلى صيغ متعددة أخرى، أخطرها هو (احتراب فئة من الشعب ضد فئة أخرى منه)، وبالتالي إضعاف المجتمع ككل، مع بقاء النظام ببنيته القمعية.
في احتراب فئات المجتمع فيما بينها، تزداد إمكانية إجهاض الاحتمالات التي يولدها العنف، والتي قد تدفع لنقلة تاريخية في هذا المجتمع باعتباره – أي العنف- قاطرة التاريخ ومولّده ومهندسه الأعظم كما تقول “الماركسية”، أو كما تتحدث آراء كثيرة حول ضرورة الحرب في لحظات ما من تاريخ المجتمعات كمقدمة لقيام الدولة، فالحروب الدينية في أوروبا كانت العامل الأهم في نشوء الدولة بمفهومها الحديث، لأن الدولة أصبحت ضرورة لترسيخ السلم الأهلي، لكننا في منطقتنا العربية، ومنها سوريا، فإن فشل الدولة وأنظمة الاستبداد، هي التي أوصلت المجتمع إلى الحروب الدينية أو الطائفية.
إن انقسام المجتمع السوري لن ينقذ النظام السوري ويعيد سيطرته، لكنه قد يؤدي في حال استنقاعه زمناً طويلاً إلى دفع هذا المجتمع إلى مرحلة اللاعودة إلى صيغته الأولى، وبالتالي دفع سوريا إلى انهيار في صيغتها السياسية والجغرافية، لا سيما أن أطرافا كثيرة داخلية وخارجية تستثمر في الانقسام.
اليوم، وفي سباق اللحظات الصعبة جداً من عمر سوريا، لا بد من وعي خطورة بقاء النظام على وجودها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا