استقبل كثيرون في المنطقة بحذر مشوب ببعض التفاؤل الإعلان المفاجئ من بكين في الصين عن اتفاق سعودي – إيراني لإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما منذ 2016، إذ سيجري تبادل السفراء في خلال الشهرين المقبلين كخطوة أولى لتطبيع الأوضاع.
جاء البيان المشترك السعودي – الايراني – الصيني عمومياً في لغته، إذ أشار إلى رغبة الطرفين في تطوير علاقات حسن الجوار و”حل الخلافات بينهما من خلال الحوار والدبلوماسية في إطار الروابط الأخوية التي تجمع بينهما، والتزاماً منهما بمبادئ ومقاصد ميثاقي الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، والمواثيق والأعراف الدولية”. تضمن البيان التأكيدَ الروتيني، المعتاد في هذه المناسبات، بخصوص ضرورة احترام سيادة الدول وعدم التدخل بشؤونها الداخلية.
أقصى التفاصيل التي احتواها البيان هي الإشارة إلى إعادة تفعيل اتفاقيتين سابقتين بينهما، هما الاتفاقية الأمنية الموقعة في 2001 المتعلقة بمكافحة مشتركة للإرهاب وغسيل الأموال والأنشطة الإجرامية، فضلاً عن اتفاقية تعاون عامة أشمل موقعة في عام 1998 تغطي مجالات اقتصادية وتجارية وثقافية ورياضية. عملياً بقيت هاتان الاتفاقيتان حبراً على ورق منذ توقيعهما، إلى أن دُفنتا تماماً على أثر القرار السعودي بقطع العلاقات بين البلدين في 2016 احتجاجاً على اقتحام إيرانيين غاضبين للسفارة السعودية في طهران وملحقيتها في مشهد وحرق وتدمير محتويات فيهما من دون تدخل رجال الأمن الإيرانيين لمنع المقتحمين. كان هذان الهجومان على المقرين الدبلوماسيين ردَّ فعل إيرانياً على تنفيذ السعودية حكماً قضائياً بإعدام رجل دين الشيعي نمر النمر، مع 46 آخرين بينهم رجال دين سنة بتهم مختلفة يتعلق بعضها بالإرهاب والتحريض، بحسب البيان السعودي في حينه.
من المبكر جداً معرفة إذا كان هذا الاتفاق حاسماً وسيقود إلى فتح صفحة جديدة بين البلدين الرئيسيين في الشرق الأوسط. لكن بين الاختبارات الأولى لمعرفة جدية الاتفاق وقدرته على الصمود هو تفعيل الاتفاقيتين السابقتين. الأهم من تفعيل هاتين الاتفاقيتين هو حسم ملف اليمن، ذي الأهمية البالغة للسعودية، عبر إيقاف الدعم العسكري الإيراني للحوثيين ومساعدة إيران للتوصل إلى اتفاق سلام هناك. يعني هذا إيقاف الهجمات الصاروخية والبرية الحوثية ضد السعودية التي كان بعضها يتم بدعم إيراني واضح.
ثمة مؤشرات إلى أن ملف اليمن ذاهب نحو مثل هذا الحسم، خصوصاً في ظل تفاوض سعودي – حوثي غير معلن في عُمان، ونجاح هدنة طويلة الأمد بين الأطراف المتحاربة صمدت لنحو عام. أيضاً، لا يشكل اليمن عنصراً مهماً في استراتيجية الأمن القومي الإيراني، فظهوره في هذه الاستراتيجية جاء متأخراً وعرضياً في إطار المواجهة السعودية – الإيرانية المتصاعدة في المنطقة، ورغبة إيران استخدام الحوثيين لاستنزاف السعودية في معركة مفتوحة جنوبها في منطقة ذات أهمية استراتيجية بالغة للأمن القومي السعودي. لكن اليمن الفقير ليس شريكاً اقتصادياً يمكن أن تستفيد منه إيران أو تستثمر فيه، فضلاً عن أنه لا يقدم لإيران فوائد جيوبولتيكية طويلة الأمد، بعكس العراق مثلاً ذي الأهمية الاقتصادية والجيوبولتيكية البالغة لإيران.
العراق هو أحد الاختبارات المهمة لهذا الاتفاق واحتمالات صموده. يتعلق هذا الاختبار بالفصائل المسلحة العراقية المتحالفة مع إيران. لهذه الفصائل، على إيقاع المواجهة السعودية – الإيرانية صعوداً ونزولاً، تاريخ موثق في الوقوف مع إيران عبر استخدام العراق كمنصة لاستهداف السعودية بهجمات صاروخية أو التهديد بمثل هذه الهجمات، أو التحريض ضدها، فضلاً عن إعاقة الانفتاح السياسي والاقتصادي السعودي على العراق. الرغبة السعودية هي بتفكيك هذه الفصائل، إلا أن مثل هذا الأمر مستبعدٌ جداً في ظل هذا الاتفاق، لكن في الحد الأدنى، سيطالب السعوديون بإيقاف نشاط هذه الفصائل الذي يستهدف السعودية، وعلى الأخص القصف الصاروخي، أي القبول بهدنة مفتوحة وطويلة. على المديين القصير والمتوسط، سيكون من مصلحة الفصائل تجنب الدخول في نزاع مع السعودية، فهي جزء أساسي من الحكومة الحالية بزعامة السيد محمد شياع السوداني المُستثمر بقوة لحد الآن في الانفتاح على العالم العربي، السياسة الصائبة التي دشنها بجدية رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، ووقفت الفصائل ضدها في ذلك الوقت. سيكون صعباً على الفصائل تكرار هذا السلوك الآن، ليس فقط لأن الرأي العام العراقي التواق للاستقرار عبر أوضاع طبيعية وعلاقات إيجابية مع الجيران وتحقيق المنافع الاقتصادية، سيقف ضد عودة هذا السلوك، بل أيضاً والأهم لأن هذا السلوك يقوّض الحكومة التي تراعي حالياً مصالح الفصائل وتحميها عبر السماح بتغلغلها مؤسساتياً في الدولة والاستفادة من مواردها الاقتصادية.
ثمة تفاؤل عراقي واسع بالاتفاق الإيراني – السعودي واعتباره انتصاراً للاعتبارات الواقعية والمصالح الوطنية على الروح الأيديولوجية، خصوصاً العابرة للحدود. صحيح أن العراق عانى من هيمنة مثل هذه الروح، العصبوية المذهبية الشيعية، العابرة للحدود والأوطان والتي تُعد الفصائل المسلحة تمثلها الأقوى في عراق اليوم، لكن أثر هذه الروح في تراجع منذ سنوات، حتى مع بقاء الفصائل المسلحة “حصناً أخيراً” لهذا النوع من الانتماء العصبوي. هذا التفاؤل العراقي بالاتفاق ونجاحه مبالغ به كثيراً، فحتى لو نجح الاتفاق وطُبق بالكامل فهو لن يساهم في حل مشكلات العراق الأساسية، وهي مشكلات داخلية تتعلق بالطبقة السياسية العراقية الحاكمة وليس بالصراع الإيراني – السعودي ومآلاته المحتملة تصعيداً أو انفراجاً أو حلاً نهائياً.
ترتبط هذه المشكلات بعوامل داخلية كالفساد المستشري في الدولة والمحمي سياسياً وميليشياوياً وبؤس الخدمات وانتشار البطالة، فضلاً عن سوء الإدارة والتخطيط وعجز الدولة عن احتكار السلاح وفرض القانون على الجميع بالتساوي. قد يخفف حل الصراع الإيراني – السعودي أحد أسباب التوتر في العراق، لكن هيمنة الأحزاب السياسية الحاكمة على مؤسسات الدولة ومواردها وإدارتها لها على نحو إقطاعي وفئوي يخدم مصالح الأحزاب لا مصالح المجتمع، لن تتغير ولن يؤثر عليها الصلح الإيراني – السعودي المحتمل. لن تبدل هذه الأحزاب الجائرة سلوكها الإقطاعي هذا من دون ضغط شعبي واسع وقوي ومتواصل.
حل المعضلة العراقية يكمن في العراق لا خارجه، لا في السعودية، ولا في إيران، سواء اتفقت هاتان الدولتان أو اختلفتا. كلتاهما تسعى لتحقيق مصالحها وهذا حق مشروع لكل منهما. على العراقيين أيضاً أن يسعوا لتحقيق مصالحهم، وجوهر هذه المصالح هو الإصلاح الجدي والعميق الذي يفرضه المجتمع فرضاً على السلطة عبر الوسائل السلمية والديموقراطية.
المصدر: النهار العربي