لا يحتاج المرء كثير عناء للجزم بأن اختيار روسيا ذكرى الثورة السورية موعداً لاستضافة بشار الأسد لم يكن من باب المصادفة. وصل رأس النظام السوري إلى موسكو مصحوباً بوفد رسمي، وأقيمت له التشريفات المتّبعة في استقبال رؤساء الدول، وهو نفسُه الذي أُحضِر إليها غير مرّة، على متن طائرة شحن عسكرية، بصورة مهينة، لا تقيم وزناً لأبسط قواعد اللياقة الدبلوماسية.
غير أنّ الابتعاد عن شكليات “زيارة الدولة” التي بدت في ظاهرها تكريماً روسيّاً للأسد، وقراءتها من زاوية حقيقة العلاقة بين الجانبين، يجعلان منها مؤشّراً إضافياً على ما انتهى إليه الديكتاتور الوريث، مجرّدَ تابع صغير يرعى مصالح داعميه الكبار، ويردّد ما يرغبون سماعه. لم يوفّر بشار الأسد جهداً في تأكيد هذه الحقيقة، من خلال تصريحاتٍ أدلى بها من موسكو، في اليوم التالي للقائه الرئيسَ الروسي، فلاديمير بوتين، أعرب فيها عن ترحيبه بوجود روسيا العسكري في سورية بصفة دائمة، واضعاً إياه في سياق “توازن القوى في العالم”، ومتوهّماً نفسه حليفاً لدولة عظمى، حيث “لا يمكن للدول العظمى اليوم أن تلعب دورها من داخل حدودها فقط، لا بد أن تلعب دورها من خارج الحدود، من خلال حلفاء موجودين في العالم”، وفق تعبيره. فأيّ عالم تافه هذا، حتى يكون نظام الأسد جزءاً من استقراره، وتوازن القوى فيه!
وروسيا، إذ تحتفي بالأسد في ذكرى الثورة ضدّه، تريد تأكيد انتصارها في سورية، على هامش تعثّرها في أوكرانيا، وإرسالَ إشارات إلى المعنيين في الإقليم والعالم بأنّها صاحبة الكلمة العليا في الملفّ السوري. لذلك، تحاول تقمّص دور الحكم الذي يضبط التوازنات ويدير صراع النفوذ والمصالح الإقليمية على الأرض السورية، مستفيدةً من تنسيقها المباشر والمستمرّ مع إسرائيل وتركيا وإيران، فتستضيف اجتماعات يشارك فيها ممثلون عن النظام وإيران وتركيا، وتتيح للأسد فرصة إعلان شروطه على تركيا للقاء الرئيس أردوغان، طالباً منها الخروج الكامل من سورية، وفي الوقت نفسه، الترحيب بتعزيز الوجود العسكري الروسي فيها.
من الصعب على روسيا تحقيق هذا الدور لأسباب عديدة، يأتي في صدارتها تعذّر التفاهم مع واشنطن والدول الأوروبية بشأن سورية في الوقت الراهن، فضلاً عن الشروط الواقعية على الأرض، سواء من حيث المعطيات الميدانية وتداخل مناطق النفوذ والسيطرة، أو نتيجة تناقض المصالح بين موسكو وشركائها، وما يترتّب عليه من ضعف الثقة بين الشركاء الاضطراريين. فالتحدّيات الداخلية التي تواجههم (الاحتجاجات داخل إيران، واستحقاقات الانتخابات التركية)، وتعمل روسيا على استغلالها لتحصيل اختراقاتٍ في الملف السوري على حسابهم، لا تبدو عاملاً كافياً أو حاسماً لدفعهم إلى التراجع عن أهدافهم لمصلحتها، أو تقديم تنازلاتٍ عن “مكتسباتٍ” راكموها على مدى سنوات انخراطهم المباشر في الحرب السورية.
أمام هذا الاستعراض الروسي المستفزّ، لا بأس من التذكير بأنّ القوى التي ادّعت قبل سنوات دعم الثورة ضدّ الأسد تحمل قسطاً وافراً من المسؤولية عن بقائه. لقد ارتضت سحب مسألة “مصير الأسد” من التداول نهائياً منذ عام 2015 على أقلّ تقدير، حين أصبحت أولويتها “محاربة الإرهاب” واستعادة “الاستقرار”، وهما من الكلمات السحرية الأثيرة في قاموس الحكومات عموماً، والمستبدّة منها على نحو خاص. ومعلومٌ أنّ تحقيق “الاستقرار” أو الحفاظ عليه، كثيراً ما يكون غطاءً للتعمية على الانتهاكات والجرائم المرتكبة، وذريعةً لتمرير صفقات وعقد شراكات قذرة مع أعتى الطغاة والمجرمين، إلى درجة تجعل من العدوّ صديقاً والصديق عدوّاً والسفّاح “صِمام أمان”.
جاء التدخّل العسكري الروسي المباشر في سورية، نهايةَ سبتمبر/ أيلول 2015، ضمن تلك الرؤية، بموافقة ضمنية، إن لم تكن صريحة، من واشنطن، وفق تأكيد الرئيس الإيراني (وقتذاك) حسن روحاني، في مقابلة مع شبكة سي إن إن، في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2015، حيث نقل عن بوتين أنه “تحدّث حتى إلى السيد أوباما عن هذا الموضوع، وأنّه يودّ أن يجدّد التزامه قتال داعش وهزيمتها. والسيد أوباما رحّب بتحليله وبخطّته. ولذا فحتى مسبقاً، أُخطرت الولايات المتحدة”. إذن، لم تقم روسيا بخطواتها في سورية منفردة، والترتيبات اللاحقة بشأن تنسيق العمليات الجوية، ما بين طيرانها وطيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، لم تكن سوى نقاشات في التفاصيل، بعد الاتفاق على الجوهر، تحت عنوان “الحرب على الإرهاب”، ومنع “انهيار الدولة” تجنّباً للفوضى.
أثبتت الوقائع أنّ بقاء الأسد كان الوصفة المثالية للفوضى وانهيار الدولة وليس العكس، واستمرار نظامه لا يعني مفاقمة مأساة الشعب السوري فحسب، بل ازدهار الجريمة المنظّمة في المنطقة، والسير نحو عالمٍ أقلّ أمناً وأكثر إرهاباً، واتّجاراً بالمخدرات.
المصدر: العربي الجديد