استقبل السوريون المناهضون لسلطة بشار الأسد الذكرى الثانية عشرة لثورتهم التي انطلقت في أواسط آذار/مارس 2011، وهي الثورة التي ما زالت مستمرة بصيغ مختلفة تجسّدها مواقف وفعاليات السوريين في الداخل والخارج رغم كل أشكال المعاناة؛ وهم أكثر إصراراً على الرفض القاطع لأي شكل من أشكال تعويم لهذه السلطة الفاسدة المستبدة المفسدة، أو إعادة تدويرها مهما كانت الذرائع والتخريجات. فالسلطة المعنية مسؤولة عن قتل وتغييب أكثر من مليون سوري، وتشريد وتهجير أكثر من 12 مليونا، وتدمير اقتصاد البلد وعمرانه. كما أنها مسؤولة عن هتك نسيجه المجتمعي الوطني، ولن يكون في مقدورها أن تكون جزءاً من الحل الذي ينتظره السوريون من سائر المكونات السورية بغض النظر عن طبيعة ووظيفة سلطات أمر الواقع التي يخضعون لها.
ولكن في الجهة المقابلة لن تتمكن المعارضة أو المعارضات الرسمية في شكلها القائم وأدائها الراهن أن تقود السوريين إلى برّ الأمان، بعد أن فقدت ثقة السوريين الثائرين، وفقدت التأييد الدولي اللافت الذي حظيت به في وقت ما، سواء في مرحلة المجلس الوطني السوري، أم في بدايات تأسيس الائتلاف. فقد بلغ عدد الدول المشاركة في مجموعة أصدقاء الشعب السوري حينئذٍ، وهي المجموعة التي تشكلت باقتراح من الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي لتجاوز الفيتو الروسي في مجلس الأمن الذي كان، وما زال، يعطّل أي قرار أممي يدعو إلى إدانة جرائم بشار الأسد، ما يزيد على المئة دولة في مؤتمري باريس تموز/يوليو 2012 ومراكش كانون الأول/ديسمبر 2012. ولهذا التراجع في المستوى والأداء الذي تعاني منه مؤسسات المعارضة الرسمية أسبابه الموضوعية، إلى جانب الأسباب الذاتية التي لا تقل أهمية من ناحية التأثير عن الأسباب الموضوعية، إن لم تكن الأكثر تأثيراً من الناحية السلبية حتى وصلنا إلى ما نحن فيه راهناً؛ وهو وضع لا نُحسد عليه، ولا يرتقي أبداً إلى مستوى تضحيات وحاجات السوريين الرافضين لسلطة بشار الأسد وتطلعاتهم.
فمن بين الأسباب الموضوعية التي أثرت سلباً على الثورة السورية تباين المواقف بين الدول العربية حول كيفية التعامل مع ثورات الربيع العربي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا. هذا إلى جانب تباين المواقف الدولية حول الموضوع ذاته، خاصة من الجانب الأمريكي الذي كان من شأنه التأثير في الموقف الغربي العام، وكان في مقدوره الحدّ، أو عدم إتاحة الفرصة أمام الروس للتحكّم في الملف السوري، واتخاذ موقف صارم من التدخل الإيراني إلى جانب حزب الله والميليشيات العراقية والباكستانية والأفغانية التي شاركت في حرب السلطة على الشعب السوري، وارتكبت الفظائع بحق السوريين.
ويُضاف إلى ما تقدم، عدم الرغبة الإسرائيلية الواضحة في حدوث تغيير سياسي غير مضمون في سوريا، وذلك بعد عقود من الهدوء الذي كان وما زال مخيماً على الحدود بفعل التزام السلطة الأسدية في عهدي الأب والابن بالعهود والمواثيق والتفاهمات غير المعلنة.
من ناحية ثانية، كان لضعف الأحزاب التقليدية وتشرذمها واختلافاتها، وتأثير السلطة عليها، وترهّلها، والحساسيات بين شخصياتها، كان لكل ذلك دوره الكبير في صعوبة الوصول إلى تشكيل قيادة سياسية خبيرة لها قنوات الاتصال الفاعل مع الداخل السوري، عبر قواعدها وشبكة علاقاتها. وذلك من أجل تأمين المعلومات والتواصل مع مختلف الأوساط، وتقييم الأوضاع، وقطع الطريق أمام المتطرفين، وترسيخ أسس الخطاب الوطني الجامع الأمر الذي كان من شأنه قطع الطريق أمام المتطرفين وأصحاب المشاريع الوظيفية الذين دخلوا على الخط بالتنسيق مع السلطة ورعاتها، وبناء على تفاهمات وتوافقات تمركزت حول توزيع المهام والأدوار بهدف إفشال الثورة السورية؛ من خلال خلق وتسويق انطباع عام زائف مضلّل لدى المكوّنات السورية المجتمعية خارج نطاق المكوّن العربي السني بأن ما يجري إنما هو مؤامرة بدعم خارجي، تنفذها قوى إسلاموية متطرفة هدفها القضاء على «الحكم العلماني حامي الأقليات».
أما على صعيد العامل الذاتي فهو يتمثل في القراءة الخاطئة من جانب مختلف القوى السياسية السورية لطبيعة ما كان يجري، وما سيؤدي إليه. فقد كان الاعتقاد ضمن المجلس الوطني السوري الذي تشكل ليقود الثورة، ويكون عنواناً لها ولسان حالها، وكذلك ضمن قيادات الأحزاب والقوى العربية والكردية وغيرها، التي ظلت خارج المجلس، ومن قبل غالبية المعارضين السوريين المستقلين، كان الاعتقاد الذي يوجه السياسات والسلوكيات هو أن التغيير سيكون سريعاً على غرار ما حدث في كل من تونس ومصر وليبيا. وأن المجتمع الدولي، والغربي تحديداً، قد اتخذ قراراه بدعم إرادة الشعوب وتطلعاتها، وذلك في سياق سعيه لتعزيز الديمقراطية على المستوى العالمي في مواجهة أنظمة الطغيان التي وصلت إلى مرحلة شعرت عندها بإمكانية تعميم نموذجها في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الدول الغربية نفسها، من خلال دعم النزعات القومية، والقوى اليمينية الشعبوية المتطرفة التي تستغل ثغرات النظام الديمقراطي، وتعمل على التحكّم في المؤسسات الديمقراطية لتغدو أدوات تستخدمها لفرض أيديولوجياتها وسياساتها على المجتمع بأسره، الأمر الذي هدّد، ويهدد، النظام الديمقراطي من الداخل.
ونتيجة تلك القراءة الخاطئة كانت المنافسة شديدة بين القوى والشخصيات التي شكّلت المجلس الوطني السوري وتلك التي ظلت خارجه. ففي داخل المجلس كان هناك اعتقاد بأن الأمور ستحسم سريعا، وسيكون للمجلس شأنه، لذلك كان التسابق على كسب الأوراق وتعزيز المواقع، خاصة في مناخات اجتماعات مجموعة أصدقاء سوريا التي كانت تكرّس انطباعاً خادعاً مفاده أن مسألة بقاء بشار الأسد في الحكم مسألة وقت ليست إلا. وبناء على هذه التصورات والتحليلات غير الصحيحة برزت تحالفات مصلحية بين الأشخاص والتكتلات لإبعاد المنافسين المحتملين عن الواجهة. ولم تبذل الجهود الكافية للتواصل مع مختلف المكونات السورية (ويُشار هنا بصورة خاصة إلى العلويين والكرد والمسيحيين)، بغية كسب تأييدها عن طريق طمأنتها على مستقبلها على قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق وتبديد الهواجس.
كما لم تتم الاستفادة من الطاقات الكبيرة التي كانت تمتلكها الجاليات السورية في مختلف أنحاء العالم، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية؛ ولم يتم التواصل كما ينبغي مع الأهل في المخيمات والداخل، وكان الإنشغال بتعزيز المواقع الشخصية والحزبية. وقد أسهمت عوامل كثيرة في فتح المجال أمام الدول التي كانت تريد أصلاً تجاوز المجلس الذي ظل متمسكاً بثوابت الثورة السورية، وتمكن رغم كل الحملات التي كان يتعرض لها من تجاوز خلافاته عبر آلية داخلية؛ وكان في طريقه إلى أن يصبح أرضية جامعة لمختلف أطراف المعارضة السورية، بكل توجهاتها وانتماءاتها.
هذا ما كنا نعمل عليه عن قناعة، بينما كانت مجموعة من القوى والشخصيات التي ظلت خارج المجلس تشن حملة شعواء على الأخير عبر الإعلام وفي الاتصالات مع الدول؛ بل لا نذيع سراً ولا نبالغ إذا قلنا: إن بعضهم ما زال تحت وطأة عقدة المجلس، ولا يوفرون مناسبة إلا ويتهجمون عليه، ومارسوا، ويمارسون، «الأستذة» بطريقة استعلائية لوّامة، من دون تقديم مبادرات ملموسة منتجة، كان يمكن الاستفادة منها سابقاً، أو الاهتداء بها حاضراً. هذا مع علمهم، بل وتيقّنهم، وتيقّن السوريين المخلصين المتابعين لهذا الموضوع، بأن خطوة إزاحة المجلس كانت المقدمة للتداعيات والانهيارات التي كانت، حتى وصلت المعارضة إلى الوضع الهلامي الراهن.
المصدر: القدس العربي