هل بقي شيء من “اتفاق العقبة” بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ لم يتبرّع أحد في واشنطن والقاهرة وعمان بالإجابة، لأن الحوادث على الأرض، وبخاصة الهجوم الهمجي للمستوطنين على بلدة حوارة وسبع قرى مجاورة لها، صدمت الجميع وتجاوزت ما سُمي “تفاهمات خفض التصعيد” في الضفة الغربية، كما أن الدعوات إلى “محو حوارة” سبقت المبادرة الأميركية – العربية بأشواط وأفقدتها كل فاعلية. يتطلّب الوضع الفلسطيني إزاء حكومة المتطرّفين الإسرائيلية أكثر من مجرّد “هدنة” أو “تهدئة” موقتة.
وفي الأساس، لم يكن متوقّعاً أن تحترم إسرائيل أي التزامات، بل إن مصادرها استبقت اجتماع العقبة بالقول إن ما توافقت عليه حكومة بنيامين نتنياهو لن يصمد بضع ساعات، ما دام المتطرّفون يجلسون في مقعد قيادتها، في الأمن كما في الاستيطان، ويتولّون “إدارة التوحّش” بعقلية “ما بعد داعشية”.
لأسباب مختلفة، لم يكن الإسرائيليون ولا الفلسطينيون يريدون هذا الاجتماع. لكن الضغط الأميركي اضطرّهم للحضور. قالت السلطة في رام الله إن ثمة “مصلحة فلسطينية”، ولم تشرْ إسرائيل إلى أي “مصلحة”، بل كان واضحاً أنها تسعى فقط إلى تمرير شكلي لـ”تفاهمات” ألحّ عليها أنطوني بلينكن، مقابل انتزاع موافقة فلسطينية – عربية على سحب مشروع قرار في مجلس الأمن يدين الاستيطان ويطلب وقفه بالكامل. لعل السلطة الفلسطينية اعتبرت أنها لن تكسب شيئاً من قرار دولي آخر لن يُنفَّذ، لكنها قد تكسب من أي “تهدئة” يتولّى الأميركيون هندستها ويعطونها عنوان “تعزيز السلطة ووجودها في الضفة”. وذُكر أن إدارة جو بايدن كانت “محرجة” بإشهار “الفيتو” لإسقاط القرار الدولي، لكنها لم تشأ أن تحذو حذو إدارة باراك أوباما التي امتنعت عن التصويت (أواخر 2016) لتمرير القرار 2334 الذي يطالب أيضاً بوقف الاستيطان.
بعد يومين على اتفاق مبدئي على “تفاهمات” تضمّنت تقليص اقتحامات المدن الفلسطينية، أكّدت قوات الاحتلال أنها غير معنية بما يقيّد حركتها، فارتكبت “مجزرة نابلس” (11 قتيلاً غالبيتهم من المدنيين وأكثر من مئة جريح من المدنيين أيضاً). لكن واشنطن أصرّت على اجتماع العقبة وبرمجت لقاءً آخر في شرم الشيخ (منتصف آذار/ مارس) للمتابعة. عارضت الفصائل الفلسطينية، بما فيها تلك التي لا تموّلها إيران، الذهاب إلى العقبة، لأن الاجتماع يريد إلزام أجهزة السلطة بمطاردة المقاومين في نابلس وجنين وغيرهما والتضييق عليهم (عبر التنسيق الأمني مع إسرائيل)، بعدما كسروا الجمود بتضحياتهم وباتوا يحظون بتعاطف شعبي كبير. لم تبالغ الأصوات التي حذّرت من “فتنة داخلية” إذا انخرطت السلطة في تنفيذ خطة الجنرال الأميركي مايك فينزل للتهدئة في الضفة. فهذه الخطة تستهدف “صفر مقاومة” في الضفة، وليس واضحاً ما يمكن أن تحصّله السلطة في المقابل لتخفيف معاناة الفلسطينيين.
في البيان الصادر بعد “اجتماع العقبة”، ورد أن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي أكدا التزامهما العمل الفوري لوقف “الإجراءات الأحادية الجانب” لمدة ثلاثة أشهر، على أن يشمل ذلك التزاماً إسرائيلياً بـ”وقف مناقشة إقامة أي وحدات استيطانية جديدة لمدة أربعة أشهر، ووقف إقرار أي بؤر استيطانية جديدة لمدة ستة شهور”. لم يكن هناك أي نص معلن يتعلّق بالإجراءات الأمنية المطلوبة، خصوصاً من الجانب الإسرائيلي، باعتبار أن الاقتحامات العسكرية تحوّلت إلى حملات قتل وتدمير، وشحنت البيئات الاجتماعية بالاحتقان والغليان. لكن البيان تضمّن فقرتين: الأولى تطمح إلى طمأنة الأردن بالدعوة إلى الحفاظ على الوضع التاريخي والقانوني في القدس من دون تغيير، لكن من دون الإشارة إلى اقتحامات المستوطنين بحماية قوات الاحتلال وضرورة وقفها تجنّباً للاستفزازات. والثانية تلبي إلحاحاً مصرياً وأردنياً بنصّها على “تعهّد الطرفين إحياء الجهود للتوصّل إلى عملية سياسية أكثر شمولية تقود إلى تحقيق السلام العادل والدائم”، وهذا يعني أن تتخلّى إسرائيل عن سياسة تجاهل الشأن الفلسطيني التي درجت عليها حكوماتها منذ عقد ونيّف.
في أي حال، وخلال اجتماع العقبة، كان مسلّح فلسطيني قد هاجم مستوطنَين وقتلهما بالقرب من بلدة حوارة. وبعد انتهاء الاجتماع كان وزير الأمن إيتمار بن غفير يقرّر: “ما حصل في الأردن يبقى في الأردن”، كذلك زميله المشرف على الاستيطان بتسلئيل سموتريتش: “لن يكون هناك تجميد للبناء ولا لتوسيع المستوطنات، ولا ليوم واحد”.
وكان مثل هذا الكلام تحريضاً كافياً لإفلات المستوطنين ليفعلوا ما يشاؤون في حوارة. تصرّفوا كعصابة خارجة لتوّها من الغابة بمواكبة قوات الاحتلال. واشنطن قالت إن دعوة سموتريتش إلى “محو حوارة” تثير “الاشمئزاز”، ومع أنها باتت واعية جيداً الخطورة السياسية والأمنية التي يمثّلها وجود متطرفين في حكومة إسرائيل، إلا أنها لا تبدو مهتمّة بتحديد أي سياسة ستتّبعها إزاءهم. لم يتردّد الإعلام الغربي في التحذير: فـ”عنف المستوطنين دليل إلى ضرورة الحدّ من ممارسات حكومة المتطرّفين”، و”ما فعلوه في حوارة يشبه ما فعله النازيّون مع اليهود قبل الحرب العالمية الثانية” (الغارديان)، كما أن ساسة ومعلّقين إسرائيليين حذّروا من “تداعيات ما شبّهوه بأيام إبادة اليهود في ألمانيا النازيّة” (فايننشال تايمز).
لم يعد في إمكان الإدارة الأميركية أن تتجاهل واقع التطرّف الذي يقترب من “الحرب الأهلية” في إسرائيل، لكنه انعكس سريعاً على الفلسطينيين من خلال أجندات حزبي “القوة اليهودية” (بن غفير) و”الصهيونية الدينية” (سموتريتش) لجعل حياة الفلسطينيين لا تطاق ودفعهم إلى الرحيل “بالتنسيق مع الدول العربية وأوروبا”. ينكر سموتريتش وجود الشعب الفلسطيني ولديه خطط معلنة لهدم المسجد الأقصى وبناء “الهيكل الثالث” على أنقاضه “خلال سنوات” كما يقول، وهو يستند إلى التوراة في اعتبار أن “مستقبل إسرائيل والقدس لن يقف عند ضفة النهر بل سيمتدّ إلى الأردن ويتوسع إلى دمشق”. سموتريتش درس في مدرسة مركاز هراف الدينية التي تخرّج فيها قادة اليمين الاستيطاني وضباط كبار في الجيش والاستخبارات، وثمة العديد منهم في الحزبين، وبعض منهم أعضاء في الكنيست.
في الحوادث الأخيرة علت أصوات كثيرة تتهم نتنياهو بأنه “ضعيف أمام الإرهاب”، أي أن دعمه هجمات المستوطنين ليس كافياً. لكن بدا واضحاً أن واشنطن والحكومات الغربية متأخرة جداً في إدراك حقيقة التطرّف الإسرائيلي والاعتراف بخطورته على أي تسويات أو سلام أو حتى اتفاقات التطبيع. فبعدما تغاضت تلك الحكومات عن توسيع المستوطنات وهدم البيوت وتشريع العنصرية لقاء وظيفتها الإقليمية، لا تبدو قادرة الآن على ضبط إسرائيل المحكومة من المتطرّفين.
المصدر: النهار العربي