لا شك أن هناك الكثير من التداعيات المحتملة والآثار المتوقعة للزلزال الضخم الذي هز جنوب تركيا وشمال سورية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والديمغرافي والسياسي والإنساني والنفسي، ولا شك أن الكثير من أقلام المثقفين والمحللين والاختصاصيين وصناع الاستراتيجيا ستركز على هذه التداعيات بالبحث والتحليل والاستقراء من أجل احتواء الكارثة والسيطرة على آثارها، أو من أجل الاستفادة منها والتسلق عليها كما هي عادة الانتهازيين على مستوى السياسة والاقتصاد والديموغرافيا وحتى الثقافة. ولأنني أعتقد جازمًا أن الكلام عن هذه الجوانب وتناولها على مستوى التحليل والدراسة سيكون مستفيضًا حد التخمة من أهل الاختصاص، فإنني سأترك الحديث عن هذه المسائل وأحاول الإضاءة على جانب آخر من آثار الكارثة يمثل بقعة الضوء في الصورة القاتمة للزلزال. فكما أذهل الزلزال بشدته العالم وأرعب البشر والمراقبين من قدرته التدميرية، أبهر سكان المنطقة العالم بصبرهم وتعاونهم وتقبلهم للكارثة ولفتوا نظر المراقبين عن مخزونهم العميق من الإيمان والقيم وأثرها العجيب في احتواء الكارثة وامتصاص الصدمة والتعامل معها بقبول ورضا إيجابي لا يدفعهم إلى الاستسلام واليأس والكسل وإنما على العكس نحو التكافل والتراحم والتعاون لتجاوز نتائج الزلزال المخيفة. ففي هذه الأزمة ضعف كثيرًا صوت العنصرية والعصبية القومية والمناطقية وارتفع عاليًا صوت الإيمان والتراحم والتعاون والإنسانية بين مختلف مكونات المنطقة عربًا وكردًا وأتراك في مشهد من التكافل أحيا في النفوس الأمل بقدرة سكان المنطقة على تجاوز الصراعات والخلافات التي بذرتها بينهم عوامل خارجية وذاتية لا مجال لبحثها في هذا المقام.
كثيرة هي المشاهد التي أظهرت عمق الإيمان وتمكن القيم الإسلامية والإنسانية لدى شعوب المنطقة المنكوبة، وفي الشدائد تظهر معادن الناس وأفكارهم الحقيقية، فهذا فقد بيته وأسرته بالكامل يرفع يديه إلى السماء: إلهي لك الحمد حتى ترضى ولا اعتراض على قضائك، وذاك تحت الأنقاض يطلب سجادة الصلاة، وتلك ترفض الخروج من براثن الموت المتربص بها دون حجاب( هذا المشهد لوحده من امرأة تركية كان الحجاب في بلدها منذ فترة قصيرة ممنوعًا بقوة القانون يحتاج إلى دراسة عميقة من قبل علماء النفس والاجتماع)، وهناك طفل فقد عائلته يلقن العالم بأجمعه معنى الإيمان بالقضاء والرضى بالقدر الذي لا يمكن دفعه، المناطق الكردية ترسل معونات للعرب، وفرق الإنقاذ التركية تخرج السوريين من تحت الأنقاض، والمتطوعون السوريون يخرجون عوائل تركية من تحت الركام، السعودي والكويتي والقطري والمصري يهرعون إلى شمال سورية لمساعدة المنكوبين بما يستطيعون من مواد إغاثة ورعاية طبية، العشائر السورية العربية تفزع لأهلها في الشمال السوري بكل ما تمتلك من إمكانات رغم الفاقة والفقر، متطوعون يعملون دون كلل، تبرعات سخية من أناس تفصلهم آلاف الأميال عن الحدث، أطباء وصلوا الليل بالنهار لإجراء عمليات عاجلة لمن تضرر بالزلزال. وهكذا. صور كثيرة من الإيثار والتراحم والتكافل والرضا بالقدر، ومشاهد غريبة عن الواقع الذي نعيشه، يشعر من يراها وكأنها مفبركة أو من زمان آخر لا ينتمي لزماننا الذي أغرقته الثقافة الغربية المسيطرة في وحل المادية والعدمية والفردانية والأنانية.
لقد أظهرت هذه الأزمة أن كل الخطط والمؤامرات التي حيكت على مدى عقود من قبل أعداء الإسلام وأعداء القيم الذين يحاولون أن يستبدلوا النموذج الثقافي والاجتماعي الإسلامي بالنموذج الغربي لم تنجح في تغيير الوجدان العام والعمق الثقافي والأخلاق الاجتماعية لشعوب هذه المنطقة رغم ضخامة الأدوات وعظم الإمكانات المرصودة لخدمة هذا المشروع.( إعلام ودراما وقرارات سياسية وتغيير مناهج وعنف واعتقالات وحتى تحريك جيوش عند الحاجة).
إن المشروع الإسلامي بما يتضمنه من نموذج أخلاقي قيمي هو مشروع مصمم لكي ينسجم ويتفاعل مع فطرة البشر وحاجاتهم النفسية والعاطفية والوجدانية والمادية، وهو يشكل مشروع إنقاذ للأفراد والمجتمعات وقت المحن والكوارث والملمات، لذلك ومهما حاول أعداؤه أو خصومه إقصاءه أو إبعاده عن المشهد أو التضييق عليه سيبقى كامنًا في وجدان الشعوب كمنبع للطاقة المحفزة ومصدر للأمان الداخلي يظهر للعلن في الأوقات الصعبة فيتجاوز العصبيات والقوميات ويستبعد الفردانية والأنانية ويخرس الأصوات العنصرية ويفسح المجال من جديد للقيم الإنسانية الصافية والإيمان النقي العميق كي يعيد الأمل لليائسين ويضمد جراح المكلومين ويمهد الطريق للسائرين على طريق الحق والحقيقة.
لا أدعي أن مجتمعنا مثاليًا فهذا غير حقيقي وغير ممكن، هناك لصوص ومتسلقون وتجار أزمة وعديمي أخلاق وانتهازيين وقد ظهر منهم ما يدل على ثقافتهم، وهناك بشر أرعبهم المشهد وخلع قلوبهم الزلزال وربما هز ثقتهم وإيمانهم وهذا أمر مفهوم وله ما يبرره، لكنني أدعي أن المخزون القيمي والأخلاقي في مجتمعاتنا – والمستمد بشكل أساسي من الإسلام – كبير لدرجة تجعله يسيطر على المشهد العام ويمتص الصدمات ويغمر الظواهر الشاذة أوقات الشدة والكوارث والأزمات.
نحن أمة قال نبيها صلى الله عليه وسلم: ” إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها “. فلا يأس مع الكوارث التي تهتز لها قلوب البشر ولا هروب من المسؤولية ولا استسلام أمام الواقع الصعب والنوائب المتراكمة والحصار الخانق. نحن أمة مطلوب منها أن تتحرك في أصعب الظروف وتبحث في عمق الظلام عن ثغرة تسمح للنور بالتسلل إلى القاعة المظلمة. وثوقنا بالله يقوينا، ويقيننا بالآخرة يعزينا، وإيماننا بقيمنا يحمينا.
إن الصور الكثيرة التي رأيناها بعد الزلزال والتي تؤكد أن قيمنا ما زالت حية في ضمير الشعوب يحيي في داخلنا الأمل بأن هذه الأمة لا يمكن أن تندثر تحت أنقاض زلازل البشر أو زلازل القدر، ويسمح لنا بالتفاؤل بمستقبل أفضل تولد فيه الأمة أقوى من رحم المحن والشدائد.
لقد بدأ الشعب السوري ثورته منذ 12 سنة ولما خذله العالم رغم عظيم مصابه وتضحياته أطلق صرخته الشهيرة ” يا الله مالنا غيرك يا الله “، ومضت السنون وتراكمت على هذا الشعب مصائب الدنيا من قتل وتهجير وعنصرية وغرق وتشريد ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ثم جاء الزلزال ليكمل مسلسل المحن والامتحان، وليضيف على مصابهم مأساة من نوع آخر فتعاملوا معها بالصبر والرضا ومزيد من الإيمان بوعد الله ونصره وفرجه واستمر صوتهم عاليًا يخترق جدار الزمان ويواجه عواصف القدر بذات الجملة: ” يا الله ما لنا غيرك يا الله ” في مشهد إيماني نادر يصعب تصوره في هذا الزمان.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : ” ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام “.
المصدر: اشراق