يعكف حزب الله بلا كلل على تطوير شبكة “القرض الحسن” الميليشياوية التابعة له والتي تنخرط في عمليات مالية ونقدية غير مشروعة بالكامل، بينما يتلذّذ بعض القضاة “المتحمسين” بالتهجّم على المؤسسات المصرفية القانونية في البلاد.
هذه هي سياسة الكيل بمكيالين بعينها! وبهذه الكلمات تختصر مواقف بعض القضاة إزاء القطاع المصرفي اللبناني. ووراء ذلك سبب وجيه! إذ لا يتوانى هؤلاء القضاة “المتحمسون” عن ملاحقة مؤسسات مصرفية لبنانية كبرى، بينما لا يوفّر حزب الله، بالتوازي، أيّ جهد في بعض المناطق على وجه الخصوص، لضمان حسن سير العمليات في مصرف “القرض الحسن” التابع له والمتفلّت من أيّ سيطرة قانونية لمصرف لبنان أو أي سلطة تابعة للدولة. هذا يعني ببساطة أن مصرف الحزب يقوم بعمليات مالية ونقدية غير قانونية تمامًا.
ويحرص حزب الله حالياً، إلى جانب تشغيله لمؤسساته السياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والتعليمية والطبية المترامية الأطراف ضمن دويلته داخل الدولة اللبنانية، على تطوير أنشطة القرض الحسن وهيكله المالي الخارج عن الدولة والذي يعتبر بحكم الواقع مصرفاً غير قانوني، بما يمتلكه من شبكة لأجهزة الصراف الآلي وفروع في كافة المناطق وسياسة خاصة بمنح القروض الشخصية بمنأى عن أي رقابة رسمية وبعيداً عن الشبكة المالية المحلية والدولية.
والأسوأ من ذلك، أن هذا “المصرف” يعمل كغطاء للأنشطة الاقتصادية للحزب والتي تحوم حولها شكوك لا يستهان بها، ومع ذلك نرى القضاة منهمكين بمضايقة المصارف القانونية دون أي محاولة للسيطرة عليه! فكيف وفي أي ظروف وعلى أي أساس أبصر هذا الهيكل المالي النور؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد من العودة إلى بدايات ظهور التنظيم الموالي لإيران، بعيد الغزو الإسرائيلي في العام 1982. فقد عكفت الميليشيا التي أُنشئت تحت إشراف نظام الملالي، على توسيع نفوذها بشكل تدريجي وبخطوات متأنية في الوسط الشيعي، فأسست طهران منذ البداية في العام 1982، أول أداة تسمح لها بالاستيلاء على السلطة في المستقبل، “القرض الحسن”. وسيسمح هذا الهيكل المالي مع مرور الوقت، لما سيعرف لاحقاً باسم حزب الله، بتكوين كيان اقتصادي مستقل ومكتفٍ ذاتيًا.
ومع كل ما يتميز به من جوانب المصرف العادي، فقد سُجّل القرض الحسن منذ العام 1987، لدى وزارة الداخلية بموجب علم وخبر 217/أ.د، على أنّه جمعية اجتماعية. وهو يمثل اليوم “امتداداً لحركة المقاومة” (أي حزب الله)، وفقاً لمديره العام عادل منصور، في مقابلة مع موقع ” Ici Beyrouth”، واليوم يستفيد أكثر من مليون وتسعمائة ألف شخص من خدمات القرض الحسن الذي قدم منذ إنشائه قروضاً تزيد قيمتها عن 4 مليارات دولار.
التسلل إلى اقتصاد تثقله الأزمة
وفقاً لبعض الخبراء، يرتكز عمل القرض الحسن على مبدأ أن إعادة بناء اقتصاد بلد ما تتطلب أوّلاً تعزيز اقتصاد المجتمعات الصغيرة التي تشكّله. ورغم أنّ لبنان يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية غير مسبوقة منذ العام 2019، يبدو أن القرض الحسن لم يجنِ إلا الثمار. يكفي القول أنّ عملاء القرض الحسن لم يتأثروا بالأزمة الحالية، كما قامت “الجمعية” بتركيب أجهزة صراف آلي (ATM) ، في تطوّر أثار الكثير من الانتقادات.
يشرح المحامي علي زبيب في هذا السياق، “أنّ قانون النقد والتسليف وتعاميم مصرف لبنان وقانون العقوبات والقانون التجاري، لا يحظر على المؤسّسات مهما كانت طبيعتها، امتلاك أجهزة صراف آلي”. ويوضح الخبير أنّ هذه العدادات هي “روبوتات” تحلّ مكان الصراف المسؤول عن تنفيذ العمليات الأكثر شيوعًا. ومع ذلك، أشار بعض المراقبين إلى ضرورة حصول “القرض الحسن” على ترخيص من مصرف لبنان يسمح له بتقديم هذه الخدمة. ووفقًا لزبيب، لهذه الحجة ما يبرّرها حين تعود ماكينة الصرف الآلي لجزء من كيان مرتبط بمصرف لبنان، وهذا ما لا ينطبق على القرض الحسن.
أما في ما يتعلق بطبيعته القانونية، يقول بعض المحامين أنّ “القرض الحسن” يعمل بالفعل كشركة ائتمان صغيرة، على الرغم من أن القانون يحظر ذلك، حسب المحامي كريم ضاهر، “فقانون العملة والتسليف يفرض تسجيل الجمعية لدى مصرف لبنان من أجل القيام بهذه الأنشطة، وهذا ما يستحيل فعله نظراً لأنّ مؤسسة القرض الحسن خاضعة للعقوبات”. وعلى أي حال، لا تنوي الجمعية القيام بذلك على الإطلاق، ويتابع ضاهر: “عدا عن ذلك، لا يمكن اعتبار القرض الحسن مصرفاً إسلاميًا لأنه يحتاج لترخيص لهذا الغرض أيضاً”.
فهل يعتبر القرض الحسن غير قانوني؟ يجيب ضاهر بالإيجاب. فالجمعية هي كيان لا يدر أرباحاً ولا يجمع الودائع ولا يمنح القروض الصغرى… فعلى العكس تماماً، يقوم القرض الحسن بفروعه الـ 31 الموزعة على النحو التالي: 15 في بيروت و10 في الجنوب و6 في البقاع، بكل ذلك، بجهود ما لا يقل عن 500 موظف.
التفاصيل القضائية
تقدّم المحاميان مجد حرب وإيلي كيرلس، في 22 نيسان 2021، بإخبار أمام النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان، غادة عون، لفتح تحقيق قضائي والطعن في نشاطات القرض الحسن. وأوضحا، في الأسباب المقدمة، أن الجمعية تنتهك أحكام قانون النقد والتسليف. واستندا في ذلك إلى المادتين 200 و 206 من النص المذكور للمطالبة “بوجوب ملاحقة المخالفين أمام المحاكم الجزائية، (المادة 206)؛ و”إدانة من يتعاطى أعمال تسليف من دون أن يكون مسجّلاً لدى مصرف لبنان سنداً لأحكام المادة 655 من قانون العقوبات” (المادة 200).
أتى ذلك في اليوم الذي تلا إصدار مصرف لبنان التعميم رقم 93 الموجه إلى المصارف والمؤسّسات المالية. وينصّ التّعميم في مادته السابعة على منح فترة تنتهي في 31 تموز/يوليو 2019 لمؤسّسات التمويل من أجل تسوية أوضاعها، ولا سيّما لناحية بيع أو تصفية الاعتمادات الممنوحة مباشرة قبل 16 آب/أغسطس 2018. وإذا تعذر ذلك، يمكن للمؤسسات الرجوع إلى مصرف لبنان.
آلية العمل
كيف يعمل القرض الحسن؟ تقوم المؤسسة من ناحية بجمع الودائع غير المدفوعة، بينما تمنح من ناحية أخرى، القروض الصغيرة. وتمنح القروض بالعملتين (الدولار والليرة اللبنانية) بحد أقصى يبلغ 10،000 دولار. ويتم كل شيء وفقاً لمبادئ التمويل الإسلامي.
“يشمل مصطلح التمويل الإسلامي جميع المعاملات والمنتجات المالية وفقًا لمبادئ القانون القرآني، والتي تفترض مسبقًا تحريم الفائدة وعدم اليقين والمضاربة وحظر الاستثمار في القطاعات التي تعتبر غير مشروعة (الكحول والتبغ والمراهنة على الألعاب…)، وكذلك احترام مبدأ تقاسم الأرباح والخسائر”، كما أوضحت وزارة الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية في فرنسا. وبناءً على هذا المبدأ، تُمنح القروض ببرامج تعتمد بشكل وثيق على الضمانات، لا سيما على الذهب وعلى الأموال. وتقسم أنواع القروض إلى أربعة، الأكثر شيوعاً بينها هو القرض مقابل ضمانات الذهب. ومن أجل رهن الذهب، لا بد من أن تتجاوز قيمة الرهن قيمة القرض المطلوب، الذي لا يتجاوز بدوره مبلغه 5000 دولار، لمدة أقصاها 30 شهرًا.
وبغض النظر عن نوع القرض، يجب على المقترض الاكتتاب في الجمعية عن طريق دفع رسوم إدارية تبلغ 3 دولارات عن كل دفعة، مهما بلغت قيمة القرض. أما السداد فيتم بصورة شهرية وعلى التوالي ووفقًا لمبلغ محدد مسبقًا. كما تضاف إلى التكاليف الإدارية تلك المتعلقة بالخبرة والتخزين والذهب المرهون، الذي يقدّر حسب وزنه وحسب مدة التسليف.
من الواضح أن القرض الحسن لا يعتمد على هذه الرسوم والمعاملات لضمان الاستدامة. كما تلعب المساعدات الإيرانية دورًا حاسمًا في عمله، وإجابة منصور لدى سؤاله عن وجود حسابات إيرانية داخل الجمعية تقطع الشك باليقين إذ يقول: “نحن منفتحون على الجميع، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو الدين”. كما يذكر التبرعات الخيرية من الجالية الشيعية اللبنانية والشتات اللبناني والتبرعات الدينية والتبرعات من “لجان الأصدقاء وأنصار المقاومة” وبعض المساعدات من المنظمات الدولية.
العقوبات الأميركية
لا يبدو أن العقوبات الأميركية المفروضة منذ سنوات عديدة قد تركت أثراً كبيراً على القرض الحسن. وهذا ما يؤكده منصور على الأقل: “لطالما كانت العقوبات الأميركية مفروضة، لكن الجمعية لا تمتلك حسابات في البنوك اللبنانية أو غير اللبنانية ولا تستثمر في لبنان أو خارج البلاد”.
ومع ذلك، من المفيد التذكير في هذا الصدد بحادثة في العام 2011 عندما اكتشفت السلطات اللبنانية أنشطة حزب الله غير المشروعة عبر البنك اللبناني الكندي. حينها، وجهت لائحة اتهام إلى كبار قادة حزب الله، على غرار عبد الله صفي الدين، الأمر الذي لم يمنع الحزب الشيعي من المواظبة على “مهامه”. وفي العام 2019، كشف النقاب عن قضية “جمال ترست بنك” والذي اتهمته وزارة الخزانة الأميركية بتقديم خدمات مالية منذ العام 2000، إلى المجلس التنفيذي لحزب الله ومؤسسة الشهيد الخاصة به والقرض الحسن.
وفي العام 2007، اعتبرت وزارة الخزانة الأميركية للمرة الأولى أن المؤسسة واجهة لأنشطة حزب الله الاقتصادية. وفي 11 أيار/مايو 2021، استهدفت العقوبات بالإضافة إلى تلك التي فُرضت في العام 2016، أفرادًا مرتبطين بحزب الله وبالقرض الحسن. وأشارت الوزارة في بيان صحفي، إلى أن “المؤسسة تدعي خدمة الشعب اللبناني، لكنها تقوم عملياً بنقل الأموال بشكل غير قانوني من خلال حسابات مزورة، مما يعرض المؤسسات المالية اللبنانية لعقوبات محتملة”. وأضاف البيان أن “القرض الحسن يتولى ملف منظمة غير حكومية بموجب ترخيص ممنوح لها من وزارة الداخلية ويقدم خدمات مصرفية لحزب الله، مع عدم احترام القوانين المرعية”.
وبالتالي، من الناحية القانونية، يواجه أي شخص يتعامل مع القرض الحسن خطر التعرض لعقوبات والاستبعاد من الدائرة المصرفية التقليدية. الحقيقة هي أن حزب الله يواصل، من خلال فرضه وتطويره لجهازه المصرفي والمالي غير الشرعي، والتهرب بالكامل من مصرف لبنان ومن الأجهزة التي تفرض الدولة سيطرتها من خلالها، مشروعه في التقويض الممنهج للاقتصاد اللبناني والتخريب المستمر للقطاع المصرفي القانوني.. كل ذلك في ظل الإفلات من العقاب والإستفادة من الحماسة المشبوهة والتجارية بعض المسؤولين في الدولة.
المصدر: هنا لبنان
المخصدر: هنا لبنان