قراءة في رواية : الوشم

أحمد العربي

عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول صدرت رواية الوشم للكاتبة السورية المتميزة المنتمية للثورة منهل السراج. وكنت قد قرأت أغلب رواياتها وكتبت عنها: كما ينبغي لنهر و جورة حوى وعصي الدم و صراح…

الوشم رواية منهل السراج الأحدث تحكي قصة المعتقلة السورية لولا الآغا. كتبت الرواية بلغة المتكلم على لسان لولا الآغا بحيث ظهرت وكأنها سيرة ذاتية حيث تتحدث لولا عن نفسها وعائلتها ومدينتها حلب وماحصل معها، اعتقالها واعتقال زوجها… هكذا حتى خروجها من المعتقل ومن ثم هربها الى خارج سوريا واستقرارها في فرنسا بعد ذلك…

لولا الآغا فتاة حلبية من بيئة تقليدية حيث يعتقد الأهل أن المرأة ولدت للزواج وإنجاب الأولاد، عانت في مدرستها من التعامل السيء من مدرستها، تارة تتهمها بالغش في الامتحان وتارة على اسمها المختلف والمميز…

كانت آخر العنقود عند والدها الذي يعمل في سكة الحديد في حلب ، كان يدللها وعندما دخلت سن النضج بدأ الفصل العائلي بينها وبين اخوتها، حتى والدها غير معاملته لها… لقد أصبحت لولا مهيأة للزواج. وبعد مضي وقت جاء موظف جديد اسمه احمد للعمل في سكة الحديد، أعجب والدها به وعرض عليه بعد وقت تزويج ابنته له وهكذا وجدت لولا نفسها تتجهز للزواج وتتزوج من احمد. كانت تنتظر أن يكون لها زوج وبيت وحياة مستقلة، هي في سن السادسة عشر، يعني اقرب لأن تكون طفلة من ان تكون زوجة، ومع ذلك كانت حياتها مع زوجها هنيّة، لكن وجود امه واخوه الاكبر وحضورهم في حياته، جعلها تحس بالظلم من تدخلهم وتعاملهم معها ومع زوجها بدونية وإساءة. كانت أمه غنية نسبيا لكنها بخيلة عليهم كثيرا. سرعان ما أنجبت لولا ابنها الأول محمد ، فرحت به واحست بأمومتها بمجيئه، اختلفت مع ام زوجها، لامها زوجها، وطلقها بعد ذلك بناء على طلب امه، غادرت البيت ومنعت من أخذ ولدها. عادت في اليوم الثاني وقد قررت ان تقبل ذل زوجها وامه واخوه لأجل ولدها، لأن اهلها لم يدعموا موقفها ويحاسبون زوجها وعائلته على إساءاتهم لابنتهم فقد استسلمت لقدرها هذا… وأنجبت بعد ذلك ابنها سعد ثم نور وكانت هاجر آخر العنقود…

في هذه الاثناء كانت قد دخلت سوريا في ثورتها التي حصلت في ربيع ٢٠١١م. تأخرت شرارة الثورة حتى وصلت الى حلب، لكنها وصلت، كانت لولا قد انتمت نفسيا للثورة، وخرجت للتظاهر في المرحلة السلمية لأكثر من مرة، وشاركت في بعض نشاطات إعداد التظاهر، علم زوجها بمشاركتها، لم يمنعها ولم يشاركها، علمت والدته وأخوه بذلك و استاؤوا من تصرفها. وهي كفت عن المشاركة عندما بدأ النظام يستشرس بحق المتظاهرين والأحياء الثائرة، اضافة لانتقال الثوار الى المرحلة العسكرية في مواجهة النظام…

عادت لولا الى حياتها الاسرية العادية تتابع الشأن العام للثورة وأفعال النظام دون أي دور. لكنّ متغيرا حصل في حياتها قلبها رأسا على عقب… لقد طلب اخو زوجها وبمساعدة والدته أن يأخذ ابنتها الصغيرة هاجر كتبني لها، واعتبارها ابنته ، لأنه ورغم مضي سنوات على زواجه لم تنجب زوجته وبذلك تكون هاجر ابنتهم…

لم تقبل لولا ولا زوجها بذلك، وواجه والدته وأخاه لأول مرة بالرفض المطلق. هدده أخاه الذي تبين انه مخبر عند الاجهزة الامنية بأن يقدم معلومات للأمن عن مشاركة زوجته بالمظاهرات. وبالفعل وبعد أيام جاءت دورية مخابرات الى بيت لولا ليلا ودخلت بيتها وكان الوقت ظهرا واعتقلتها…

دخلت لولا منذ لحظة اعتقالها الاولى هذه في دوامة الاعتقال والسجن الذي امتد لسنوات. فقد احضرت الى أحد فروع الأمن في حلب وهم كثر، فرع المخابرات السياسية والعسكرية والجوية التي ستستدعى لولا إليهم تباعا عبر هذه السنوات…

في المعتقل أدركت لولا الامتهان الإنساني وهدر الكرامة واستباحة جسد المعتقل الى درجة القتل دون محاسبة. وضعوها في زنزانات احادية او جماعية ومع أخريات. عايشت ظروف لا انسانية بكل المعاني، شاهدت التعذيب إلى درجة القتل، عايشت النساء المعذبات، شاهدت الجثث، تعذبت بكل الوسائل، نعم عذبوها كثيرا ووجهوا إليها اتهامات بمساعدة الجماعات المسلحة الارهابية… اعترفت لهم بكونها خرجت في المظاهرات لأكثر من مرة وغير ذلك لم تقم بشيء… لم يقبل المحققين بذلك كانوا قد جهزوا اعترافات مسبقة لها ، عليها ان تقبلها وان تبصم عليها فقط. وصلت إلى مرحلة مزرية. توقف التحقيق معها وحولت الى المحكمة لأول مرة وتم إخلاء سبيلها. عادت لبيتها فوجدته خاليا والاولاد عند عمهم، لقد حصل على مايريد، واخذ طفلتها هاجر. سألت عن زوجها وعلمت أنه معتقل مع موظفين آخرين على يد كتائب البعث التابعة للنظام… علمت أن وراء اعتقاله أخيه ليتمكن من أخذ الطفلة هاجر واستعباد بقية أولاد أخيه ودفعهم للعمل ليؤمنوا لقمة عيشهم. وحرمهم من الدراسة ومتابعة تعليمهم…

سرعان ما اعتقلت لولا من الفرع الأمني الذي كان قد اعتقل زوجها. وكان قد اعترف على نفسه بكل التهم الموجهة اليه من شدة التعذيب. لقد اعترف انه يتعامل مع الإرهابيين ويساعدهم وان زوجته تعلم وتساعده كذلك، وهذا سبب اعتقالها الثاني. وعندما واجهها المحقق بقول زوجها أنكرت كل شيء، مما شجّع الزوج بوجودها وأنكر اعترافاته التي قدمها تحت التعذيب. لم يرق ذلك للمحقق الذي استمر بتعذيب الزوج حتى الموت، لكنه وقبل موته قام المحقق وبمساعدة عناصره باغتصاب لولا أمامه بحيث مات على مشهد اغتصاب زوجته. عاشت لولا أسوأ أيام حياتها حيث اغتصبت امام زوجها. ..

لم تقبل أي تهمة وجهت لها ومع ذلك بصّموها على أوراق بيضاء، لقد دونوا اعترافات لها تدينها و زوجها كما شاؤوا…

حولت بعد ذلك لأكثر من فرع أمني ونقلت بين سجون ومعتقلات من حلب الى حماة الى حمص الى دمشق وفروعها الأمنية… وهناك ثبتت اقوالها انها خرجت بالمظاهرات فقط وزوجها الذي قتل أمامها ليس له علاقة بأي نشاط معارض للنظام. حولت الى محاكمة في دمشق. هناك أنكرت التهم الموجهة إليها. اوقفتها القاضية، وحولت بعد ذلك الى سجن عدرا للنساء، وهناك بدأت حياة جديدة أمام لولا لا بد لها أن تعمل لتعيش، لا أحد يقدم المساعدة مجانا لأحد. عملت في أشغال الخرز وبدأت تؤمن مصاريف معيشتها. في سجن عدرا بين سياسيات وغير سياسيات بعض السجينات متهمات بالدعارة والبعض قتل وغير ذلك. حيّدت لولا حالها واهتمت بتأمين لقمة عيشها. والتفكير بما حصل معها. كان فقدان أولادها وعدم سماع أي خبر عنهم. وقتل زوجها واغتصابها أسوأ ما عاشته…

تعرفت لولا في المعتقلات الكثيرة التي اوقفت بها وكذلك السجون على الكثيرات من النساء الناشطات وبعضهنّ اعطانها رقمهنّ ليقدمنّ المساعدة لها أن احتاجت مستقبلا بعد تحررها من معتقلها…

في عدرا وبعد سنوات قدمت لولا ورقة اخلاء سبيل كلفتها إعادتها لأحد الفروع الأمنية ومزيد من التعذيب والتنكيل. ثم أرسلوها إلى المحاكمة التي تابعتها بعد إخلاء سبيلها من سجن عدرا وبعد اعتقال دام لثلاث سنوات ومن هناك تواصلت مع صديقات السجن، فليس لها غيرهنّ خاصة بعد أن اتصلت بأهلها واخبروها انهم لا يقبلون أولادها معها ، فلهم اهلهم. توجهت الى بيت ام زوجها وطلبت رؤية أولادها، قررت إظهار الخنوع والتذلل حتى التقت بهم . وجدتهم في اسوأ حال لا مدارس ولا تعليم، عمل مضني و إساءات دائمة ، يأكلون مما يجمعون من القمامة، مازال العم مصرا على الاحتفاظ بالصغيرة هاجر. كبر محمد اصبح مراهقا وكذلك سعد على أبواب المراهقة نور منكسرة القلب والخاطر حلقت لها جدتها شعرها كاملا لأنها مصابة بالقمل… حياة الاولاد جحيم… دبرت سكنا لها ولهم في فندق في حلب وقررت الهروب بأولادها الى الشام وهناك تبحث عن مخرج آخر. ذهبت الى دمشق بولديها محمد وسعد وهناك حضرت محاكمتها التي تغيب عنها محاميها وحكمت بالسجن خمسة عشر عاما ، ومعها شهر للاستئناف. ذهلت مما حصل واستشارت شبكة صديقاتها واقترحوا عليها الهرب إلى إدلب المحررة. لكنها تحت سيطرة جبهة النصرة. ساعدتها الصديقات بتأمين مبلغ الانتقال الى ادلب. صورتها صديقتها وبعثت الصورة للمنظمات اللواتي توثّقن خروج المعتقلين والمعتقلات للحرية على قلتهم. وصلت الى ادلب مع ابنيها محمد وسعد وابنتها نور. لم تستطع أخذ هاجر من بيت جدتها…

في إدلب عاشت ظروفا سيئة من تشدد جبهة النصرة واستبدادها وتنكيلها بالناس. كادوا يعتقلون ابنها لأنه يحمل سيجارة، ممنوع التدخين تحت عقوبة الجلد. قرر ابنها العودة الى حلب الى بيت جدته، وعاد، لكنه لم يستطع تحمل العيش معهم وعندهم وعاد ثانية إلى أمه وإخوته وعاش معهم. فكرت لولا أن الحل هو الانتقال إلى تركيا للعيش هناك وعدم البقاء في سوريا. مرة اخرى وجدت من يساعدها لتأمين مال للمهرب وخاضت مع اولادها مغامرة قاسية لعبور الحدود السورية التركية، ووصلت الى الريحانية. وهناك بدأت تبحث عن عمل، حصلت على عمل لكنه لم يستمر، لقد تركت محل العمل للمشاركة في مظاهرة تضامن مع اهل ادلب لوقت محدد ، بسبب ذلك طردها صاحب المحل من العمل بعدما شكت له عن تصرف صديقه، ودفع مؤجر بيتها لطرده منه. وهكذا وجدت نفسها مرة اخرى في الشارع.  اخبرت صديقاتها بما حصل معها وعّدنها بطلب لجوء إلى فرنسا لعل الحياة هناك تكون أفضل لها ولاولادها…

في تركيا وبعد أن تعممت قصة لولا في وسائط التواصل الاجتماعي وقررت أن تحكي كل ما حصل معها بما فيها اغتصابها من قبل المحقق في أحد الفروع الأمنية، ظهرت في تلفزيون يتابع الشأن السوري وله ملايين المتابعين وتحدثت عن فظاعات المعتقلات السورية وصرحت باغتصابها وهي من القلائل الذين صرحوا بما حصل معهم لاعتبارات اجتماعية وعائلية اغلبها متخلف وضد إنسانية المرأة، كان لظهورها التلفزيوني وقعا قويا. تواصل معها الكثيرين مشجعين ومتضامنين. كما تواصل معها احد شبيحة النظام مهددا ومتوعدا، مما جعلها تعود للعيش في أهوال الاعتقال وما حصل به. سكنها الخوف على أولادها ونفسها. وقررت الانتحار. شربت علبة حب كاملة انقذها ابنها.

وعندها وعدتها صديقة لها أن تسعى لها باللجوء إلى فرنسا…

كانت قد مرت على المخيمات في الحدود السورية التركية وهناك عاينت الجحيم الذي يعيشه السوريين. وصلت اخيرا الى منظمات تهتم بالشؤون الانسانية للاجئين السوريين في تركيا وبدأت تعمل معهم. هناك تعرفت على وائل الشاب السوري الذي تعرفت عليه في محل جوالات كان يعمل به،  احبته واحبها. وبعد وقت قصير قررا الزواج. استشارت أولادها الذين أحبوا وائل ، قبلوا جميعا بزواج امهم…

لم تستطع لولا بعد تجربة الاعتقال والاغتصاب أن تقارب موضوع الجنس دون تبعات تذكّرها بما حصل معها. كان وائل صبورا عليها و متفهما لها. اعتمد على التدرج والتطمين وخلق اجواء حب وحنان وأمان نفسي. تتوج في عيد الحب لتلك السنة و أن يتم تواصل جسدي بينهم تتوج بعد ذلك بحمل أنجبت على إثرها ابنها الجديد صلاح…

عاشت لولا وأولادها مع وائل حياة مقبولة فيها من الأمان والتفاهم والتواد ما جعلها تعويض عن سنوات الم وعذاب وضنك.

جاء جواب من الفرنسيين بقبول لجوء لولا واولادها الى فرنسا أمّا وائل فلم يقبلوا، لقد اتفقت لولا ووائل أن ترسل له طلب لم الشمل بعد قبول لجوئهم وعندها يلتحق بهم نظاميا…

ذهبوا إلى فرنسا وهناك أنجبت ابنها صلاح. تواصلت بشكل دائم مع زوجها وحبيبها وائل. زاد اشتياقه لهم وعند فحص اضبارة اللجوء وبعد تحقيق شكلي قامت به قاضية فرنسية رفض طلب اللجوء الى فرنسا. وعادت لولا وعائلتها الى عيش الخوف وعدم الامان. يحق لها تقديم طلب اللجوء بعد سنتين. هذا يعني أن ينتظر زوجها سنتين ليستطيع المجيء لفرنسا بشكل نظامي ان قبل لجوئهم وقتها…

لم يحتمل وائل بُعده عن زوجته وابنه الصغير الذي لم يره ويمسكه بيده بعد… قرر بيع كليته ليؤمن مبلغ التهريب له إلى فرنسا. وهكذا حصل…

تنتهي الرواية والحال هكذا لولا وأولادها في فرنسا يبدؤون رحلة حياة جديدة وزوجها وائل يهيئ نفسه للذهاب إليهم بشكل غير قانوني…

تنهي الرواية بجملة :

انا صغيرة مشردة وحيدة ودون أمل…

في التعقيب على الرواية اقول:

سلطت الرواية النظر على واقع الخراب الاجتماعي العام ، ضمن العائلة وفي العلاقات الاجتماعية وصل إلى درجة الزج بالإخوة والأقرباء في مصائب تصل الى درجة اعتقال وقتل المُختلف معه، نموذج الوشاية للأمن، وتغلغل النظام في المجتمع عبر المخبرين المشاركين مع النظام القاتل للناس ظلما وعدوانا. كذلك التعامل الخاطئ مع المرأة عموما، عدم التعليم والتعامل معها بدونية، والزواج المبكر و تبعاته الكارثية على النساء حياتهم ومستقبلهم، طبعا دون اي مبرر شرعي أو اجتماعي بحيث تُقاد النساء الى حياة أقرب للجحيم…

ليس جديدا ما وثقته الكاتبة منهل السراج على لسان لولا الأغا عن واقع الظلم والقمع والقهر الذي يطول الانسان السوري وهدر كرامته ووجوده في سوريا عبر عقود سابقة تتوجت بما فعله النظام بالشعب السوري كله قتل تهجير تدمير، البلاد خراب والعباد مشردين في بلاد الدنيا….

الرواية تركز على واقع المعتقلين السوريين النموذج الأكثر وجعا في قصتنا السورية، هناك آلاف القصص الأخرى الموثقة، والكثير الذي يحتاج التوثيق، كل ذلك وبعد مضي أكثر من عقد على الثورة السورية. يندرج تحت عنوان: كي لا ننسى. ولكي نقدم للعالم دليل إعدام للنظام وإلغاء مشروعيته ومحاسبته ولكي لا يعاد تأهيله بعد مقتل حوالي المليون إنسان سوري ومثلهم مصابين ومعاقين واثنا عشر مليون انسان من المشردين داخل سوريا وخارجها…

لن اتحدث اكثر الرواية وصمة او وشم عار على جبين النظام…

شهادة ميلاد جديدة للثائرين والثائرات اللواتي والذين قدموا دماءهم وحياتهم وكل ما يملكون لأجل إسقاط الاستبداد الطائفي الظالم والعمل لبناء سوريا دولة الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل للشعب السوري العظيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى