منذ أن بدأت المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية برعاية أمريكية عام 1991، أي قبل ربع قرن، توالت جولاتها وتتابع فشل كل جولة من هذه الجولات. وفي كل مرة يخرج علينا المحللون وأصحاب نظرية «الحياة مفاوضات» بتفسيرات شتى للفشل: سواء لجهة التوقيت، انعدام الثقة بين الطرفين، الانقسام الفلسطيني، إشراك القوى الإقليمية في التسوية، فضلاً عن الأخطاء التي ارتكبتها الأطراف الإسرائيلية والأمريكية والقيادات الفلسطينية.
هذه القفزة نحو المجهول باعتماد سياسات التبرير والاحتواء، جعل من حل النزاع التاريخي يمتد ويتم تعويمه بأزمات وحسابات إقليمية ودولية وعربية غير مسبوقة، تم فيها تطييف القضية الفلسطينية وخلق عدو جديد، بل أعداء جدد يحرفون الأنظار عن القضية الأساسية وهي المسألة الفلسطينية، بكفاحها ونضالها ومقاومتها بهدف الدفاع عن وجودها وكيانها وهويتها الفلسطينية. هذه الإخفاقات التاريخية وتهميش مسألة أن ما يعانيه الشعب الفلسطيني من عملية تهويد وتطهير عرقي وإبادة، يتم من خلالها اقتلاع شعب بأسره من أرضه وأملاكه، ويتم تهجيره بهدف تحقيق مشاريع استعمارية إمبريالية وقومية على حساب الشعب الفلسطيني.
شهدت القضية الفلسطينية العديد من المفاوضات ولا تزال، وكلها أصبحت في مهب الريح، بفعل غياب وحدة موقف القيادات الفلسطينية، وتدويل القضية، ما أسهم بضياعها بحسابات إقليمية وعربية وإسلامية، وأبعدها عن جوهرها، وهو أن الشعب الفلسطيني يواجه كيانا استعماريا يحتل أرضا وشعبا، بهدف دمج هذا الكيان في المنطقة كجسم طبيعي، وإدارة منطقة الشرق الأوسط وفق الرؤية الصهيونية، من خلال خلق عدو جديد، وهو إيران وتسعير المواجهات والتأهب عبر تشكيل حلف عربي ـ إسرائيلي جديد يسهم بتطبيق وتفعيل سياسة التطبيع في المنطقة.
هذه السياسات التي تشهدها المنطقة على امتداد الجغرافيا العربية والإسلامية منذ 11 سبتمبر 2001، والغزو الأمريكي لأفغانستان، ومن ثم للعراق 2003 إلى موجة الربيع العربي 2010 وصولاً إلى مخطط الدولة الإسلامية، الذي كان يهدف إلى إضعاف التطرف الإسلامي السني، واستهدافه مقابل تقوية التطرف الشيعي وإعادة إحياء الصراع السني ـ الشيعي، بهدف إيصال المنطقة إلى ما هي عليه من انقسامات وخلافات واستعداءات لا نهاية لها، وخلق عدو شيعي متمثل بالجمهورية الايرانية التي ساهمت بتهديد استقرار وأمن منطقة الخليج العربي، على خلفية احتلال أربع عواصم عربية، وافتعال المشاكل والاضطرابات الجيوسياسية وتهديد الأنظمة العربية، والملاحة والطاقة عبر الاعتداء على المقدسات، والحروب التي ساهمت فيها بشكل فعال وهددت من خلالها الأمن القومي العربي والخليجي، ما دفع دولا مثل الإمارات والبحرين والمغرب إلى التطبيع، بهدف مواجهة النفوذ والهيمنة الفارسية القومية في المنطقة، الذي تجسد في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين وافريقيا والقوقاز وأرمينيا، من أجل إعادة هيمنة الإمبراطورية الفارسية من جديد. صحيح إن المقاومة الفلسطينية أثبتت أنها لا تقهر، غير أنه تم استغلالها وتطييفها بفعل الخروقات والأزمات التي تعتري النظام العربي، والتحديات التي يواجهها من حصار اقتصادي وحروب عبثية وعملية تجويع وإفقار، فتآكلت القضية العربية ليس فقط من الداخل، من خلال فشل المفاوضات التي عقدت وأبرزها، مفاوضات كامب ديفيد 1978، ومشروع فهد الأول والثاني 1982، ومؤتمر مدريد 1991 ومن ثم اتفاقية أوسلو 1993 ووادي عربة 1994 ومبادرة السلام العربية عام 2002، التي طرحها العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وأقرتها قمة الجامعة العربية في بيروت، وتشمل بنودها إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليا على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، بالإضافة إلى انسحاب الكيان الإسرائيلي من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967 والانسحاب من لبنان والجولان السوري، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين مقابل أن تعترف الدولة العربية بإسرائيل وتطبع العلاقات معها، كما تمت دعوة المجتمع الدولي إلى دعم هذه المبادرة. غير أن هذا الكيان لم يحترم كل المواثيق واستفحل في عملية التهويد، وتوسيع المستوطنات والتطهير العرقي وممارسة نظام عنصري قاتل على الشعب الفلسطيني. ومع قدوم اليمين المتطرف، ما سيؤدي لتسعير المواجهات بين الشعب الفلسطيني والكيان الإسرائيلي، والتأكيد على فكرة المقاومة، كما حدث أثناء انتفاضة سيف القدس وغيرها، التي أعادت إحياء القضية الفلسطينية وكسبها شعبية كبيرة في الخارج، لكن كل تلك الجهود لا تزال خجولة أمام هذا الكم من الاستغلال واستبعاد دور مصر العروبي، مقابل إعطاء قوة دفع لقوى إقليمية مثل إيران وتركيا اللتين أثبتتا تاريخيا أنهما عدوتان للعرب، وتعملان على ركوب القضية المركزية المتمثلة في فلسطين من أجل تحقيق أهداف استراتيجية وقومية، وبناء عرش امبراطورياتهما على أنقاض العرب، كما في السابق أيام الدولة العثمانية والصفوية. وفي سياق متصل، أجد أن الطريق الوحيد لحل القضية الفلسطينية يكمن في وحدة الصف الفلسطيني في الداخل وفي الشتات، والتأكيد على الهوية الوطنية الفلسطينية والمواطنة الفلسطينية وفق مشروع وطني فلسطيني يتم التأكيد عليه في صناديق الاقتراع، وتشكيل مجلس وطني يضم جميع الفصائل الفلسطينية تحت عناوين الوحدة والموقف الواحد لمواجهة الكيان الصهيوني، بهدف الضغط على مجلس الأمن بالشكل القانوني والموقف الصلب بعيداً عن المتاهات والانحرافات التي سيتم تشغيلها خدمة لأجندات إقليمية ودولية لا تخدم الموقف الفلسطيني.
والحق أن تفكيك آليات السيطرة الإسرائيلية هو الشرط اللازم كي يكون إنهاء الاحتلال فعلياً لا شعاراً. فالضغط الذي مارسته الولايات المتحدة في إدارة عملية المفاوضات ومارسه المتطرفون في الطرفين الأمريكي والإسرائيلي، حال دون تحقيق تفاهم حقيقي وواضح بشأن النزاع، كما ان القيادات الفلسطينية لم تكن تبتغي حل النزاع بقدر إبقاء الوضع كما هو واحتوائه، من أجل تحقيق مكاسب سياسية ومادية وزعاماتية. إن الشعب الفلسطيني قاوم وقدم تنازلات عديدة وتضحيات، لكن لم تكن تلك التضحيات وذلك الكفاح العنيد مصحوباً بدعم قيادي ومشروع وطني حقيقي ودولي، كما هو الحال مع أوكرانيا، بل تم إضعاف الموقف الفلسطيني بفعل الممارسات السياسية الفاشلة، والانقسامات الداخلية، وعدم استغلال المستجدات والتطورات الدولية في خدمة القضية، بل كانت القضية الفلسطينية مجرد أداة وظيفية تخدم المنتفعين والوكلاء والحلفاء لتحقيق مكاسب ونفوذ. لقد استطاعت اسرائيل أن تتعايش مع وصمة الاحتلال وتبرر لنفسها صكا إلهيا «بالارض الموعودة»، مع العلم أن هذا الوعد قد أبطل بحسب الرواية التوراتية، وتعرض اليهود للعقاب الإلهي منذ السبي البابلي إلى السبي الروماني بفعل ثقافة وعقيدة الاستعلاء والاستكبار والعلو، التي حذر منها الله في الكتاب المقدس. هذا النهج المعتمد من قبل الكيان الصهيوني مصيره الزوال الحتمي، وعلى الشعب الفلسطيني أن يحسن توظيف واقعه واستغلال المستجدات العالمية، في ضوء الحرب الأوكرانية ـ الروسية لدعم مساعيه، والضغط على مجلس الأمن والأمم المتحدة بهدف تفعيل القانون الدولي اتجاه ما يتعرض له الشعب من تطهير عرقي عنصري، واحتلال، وتوسيع للمستوطنات وعمليات تقوم على انتهاك المقدسات في القدس، وسرقة الأدلة وتزوير الوثائق بدعم من اللوبي الصهيوني واليمين المسيحي والدعم الأمريكي، الذي يحرص في كل مناسبة على تأكيد هذه الشراكة والعلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية، سواء حين تم نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أو زيارة الوفد الأمريكي على خلفية الانتهاكات في المسجد الأقصى والقدس والضفة، وطرد السفير الأردني من المسجد الأقصى.
ختاما، ليست فلسطين وحدها في عين العاصفة، بل العالم بأسره أمام خطر داهم، إذا لم تتوحد الجهود لمواجهة هذا الاستعلاء الممأسس له منذ 1943 حتى يومنا هذا، والذي لم يتغير في أهدافه أي شيء سوى الاستراتيجيات، وخلق أعداء جدد أسهموا في تمكين الاستعمار، وتأكيد هذا الاستكبار والفاشية والإرهاب الفكري والهمجية اكثر فأكثر من خلال ثقافة التصنيف بين شعب همجي وآخر متحضر يستحق الحياة، وسياسات الحصار والعقوبات الاقتصادية والتجويع، وشن الحروب الاستنزافية والعبثية في كل مكان، بهدف إضعاف كل صوت يعلو فوق صوت إسرائيل وأمريكا. المطلوب اليوم توحيد الصف العربي وبناء خطاب وطني جديد يراعي المستجدات الدولية والتغييرات الداخلية والخارجية، والتعبير عن هذه الأصوات المقاومة في صناديق الاقتراع، والتأكيد على أن الهولوكوست اليهودي، العرب ليسوا مسؤولين عنه بل، أوروبا النازية، وأن تحقيق المصير بات مسألة عالمية لا تعني فقط الشعب الفلسطيني، بل شعوب العالم التي تئن وسط غلاء المعيشة والليبرالية المتوحشة وارتفاع نسبة الفوائد والضرائب والحروب العبثية والحصار الاقتصادي والأزمات الاقتصادية، التي يمارسها هذا الكيان الصهيوني يومياً على العالم وفق سياسات وأفكار جهنمية وقاتلة غير مسبوقة بحجة التحضر والتمدن وتأكيد العرق المتفوق.
*باحثة لبنانية متخصصة في العلاقات الدولية والدراسات الاستشراقية
المصدر: القدس العربي