في تاريخ الصراع الدولي حتى إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية كان معيار القوة العسكرية لأي طرف من أطراف الصراع وقدراتها وتطور أدواتها وتفوقها على الخصوم هو العامل الحاسم في فرض شروط الإذعان لمن يملك القوة في مواجهة الطرف الٱخر في الميدان العسكري …
ونظرا لامتلاك العديد من الدول السلاح النووي كقوة ردع يستحيل استخدامه لامتلاكه القدرة على التدمير الشامل لأطراف الصراع الدولي اتجهت الدول الى الاعتماد على وكلائها في صراعاتها ضمن سقف الأسلحة التقليدية دون النووية ..
كما أن تطور الصراع الدولي منذ القرن الثامن عشر وإلى اليوم مر بثلاثة أشكال من التعددية القطبية الى الثنائية القطبية الى الأحادية القطبية ، وفي كل شكل من هذه الأشكال كان الصراع يأخذ شكلا مختلفا عن الأشكال الأخرى .. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي بدأ يطل على العالم نظام القطبية الاحادية وتصاعد الحديث عن ” نظام عالمي جديد ” و ” ونهاية التاريخ ” و ” وصدام الحضارات ” …..
وبالتدريج بدأت تتصاعد أهمية الاقتصاد والقوة الاقتصادية وتزاحم الدول في استخدام العامل الاقتصادي في الصراع الدولي الى جانب استخدام التطور التكنولوجي في تطوير إنتاج السلاح العسكري في هذا الصراع …
ولا بد من الاشارة هنا الى أن جميع حروب الولايات المتحدة الامريكية منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم لم تكن حروب ” ضرورة ” نتيجة تهديد مباشر لأمنها القومي او للدفاع عن حدودها ، وإنما كانت حروب ” اختيارية ” لتشكيل البيئة الدولية أو الحفاظ على الوضع الدولي الراهن .
من هذا المنطلق ، فإن الخيارات الاستراتيجية لأمريكا باعتبارها دولة محاطة بالبحار قد فرض عليها العمل على إحكام سيطرتها على المنافذ البحرية الاستراتيجية المؤدية الى الامتداد جغرافيا الى دول اليابسة والقيام بتوسيع قواعدها العسكرية والصاروخية لحماية هذا التمركز و تدعيما لاستمرار هيمنتها ، إضافة إلى استغلال هذه المنافذ للسيطرة على الطاقة الحيوية للعالم من الغاز والنفط .. وأهميتها في الصناعة والزراعة والنقل .. للدفع بالتطور التكنولوجي المتصاعد .. والتحكم في طرق الضخ والنقل للأسواق العالمية ، ومن هنا عمدت منذ الحرب الباردة الى العمل على عزل روسيا ومنعها من الوصول الى المنافذ الاستراتيجية للدول المطلة على البحار .
وفي العقدين الأخيرين وخاصة بعد تولي “أوباما ” الرئاسة الأمريكية ، وبعد اكتشاف القرارات الخاطئة للتدخل المباشر في العراق وأفغانستان .. ، وما استتبع القيام بعملية مراجعة للسياسة الأمريكية الدولية وإحداث انعطافة في أولوياتها ، واعتبار الصين وشرق ٱسيا ومن ثم روسيا الاتحادية أولوية أولى على سلم الأولويات لديها ونزوعها لتطويقهم ومحاصرتهم .
في ظل هذا التغيير في السياسة الامريكية ، وابتعادها قدر الإمكان عن مناطق التوتر الحاصلة في الدول ، انكفأت أمريكا عن ” الإدارة المباشرة ” او التدخل في صراعات مناطق التوتر الى المراقبة عن بعد مع محاولة ضبط ايقاعها للحيلولة دون امتدادها أو انفجارها بما يشكل ازمة دولية تؤثر على سياساتها العامة ، وبذات الوقت غضت الطرف عن الدخول الروسي الى بعض مناطق التوتر كما في سورية والعراق وليبيا ودول أخرى كجزء من استراتيجيتها لإغراقها واستنزافها في مستنقع هذه الصراعات .
بالمقابل هناك تصور ٱخر يعتبر أنه مع استشعار روسيا للأزمات الداخلية في أمريكا وانحسار الثقة بمصداقيتها دوليا، وأزماتها مع أوربا وغيرها من دول العالم ، واستغلالا لانكفائها عن الصراعات الدولية ، ثم مع تغير الميزان الدولي بنهوض الصين وشرق ٱسيا ودول ” البركس ” ما أعطى مؤشرات لدى روسيا ببدء العد العكسي لانتهاء حقبة تحكم القطب الواحد دوليا ، وهذا ما أغراها للامتداد الى شرق ٱسيا وغربها وإلى أفريقيا وأمريكا الجنوبية لإعادة اعتبارها بعد المهانة التي لحقت بها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي خاصة مع حلم الرئيس ” بوتين ” بإعادة أمجاد روسيا كدولة عظمى أو امبراطورية عظمى ..
وكما يبدو فإن الرئيس بوتين استشعر سلبية ردة الفعل الامريكية تجاه جورجيا عام ٢٠٠٨ ، واقتصار مواقفها على التنديد عند ضم شبه جزيرة القرم ٢٠١٤ ، ثم الصمت أو القبول بالعمليات العسكرية في سورية ، ودعمها لأحد أطراف الصراع في ليبيا ….
ضمن هذه الاعتبارات كانت المغامرة الروسية بإعلان الحرب والقيام بالعملية العسكرية في اوكرانيا ، لتتحول مع الزمن من عملية ” خاطفة ” إلى حرب طويلة الأمد كما تبدو حتى اليوم .
ويبدو أن حساب السوق لدى روسيا لم يتطابق مع الصندوق في حساباتها السياسية باتخاذها قرار الحرب في أوكرانيا ..
صحيح استطاعت من عمليتها العسكرية الخاطفة في المرحلة الأولى من الاستيلاء على مناطق استراتيجية في أوكرانيا ( لوغانسك ، دونيتسك ، دونباس .. ) لكن الحرب لا زالت مستمرة ولا زال الدعم الأمريكي الغربي العسكري والاستخباراتي متصاعدا وهناك خسائر ضخمة في القوات الروسية وانسحابات بعضها جزئي وبعضها مهم في بعض المناطق التي تمت السيطرة عليها . وصحيح أنها أشهرت سلاح النفط والغاز بمواجهة أوربا ودول العالم ، وأوقعت الغرب والعالم في أزمات اقتصادية لا زالت ٱثارها بادية للعيان ، لكنها في حربها بدل ان تؤدي الى انقسام أوربا فإنها قد وحدت الموقف السياسي الأوربي في مواجهتها وأصبحت أوروبا عقب الحرب أكثر انطواءا تحت العباءة الأمريكية ، وأوقعت روسيا تحت عقوبات غير مسبوقة في تاريخ العقوبات الدولية ، كما لم تؤدي الحرب الاوكرانية الى تدخل صيني فعلي – وإن تبدى دعما ضئيلا غير مباشر من الصين – لم يرتقي الى مستوى التدخل المباشر المؤثر في سير الحرب ومٱلاتها المحتملة ..
ومن هنا فإن الكثير من المحللين يرون أن الصين تعتبر المستفيد الأول من هذا النظام العالمي الحالي ، إذ أنها في ظل هذا النظام أحدثت تقدما متعاظما ونهضة على جميع الأصعدة ، وباتت القوة الاقتصادية الأكبر ، والدولة الأهم في الإقراض المالي العالمي ، ومركزا من المراكز المهمة في الابتكار العالمي ، وأصبح اقتصادها وقوتها الاقتصادية تقترب نسبيا من حجم الاقتصاد الأمريكي .
ومن هذا المنطلق لا مصلحة للصين في إقحام نفسها بصراع القطبين المتصارعين باوكرانيا ، كما لا مصلحة لها في تغيير النظام العالمي حاليا ، وإنما تعمل على تغييره من خلال تطوير وتمكين منظومة اقتصادها في مواجهة الاقتصاد الأمريكي الغربي ، وهذا ما أكده وزير خارجية الصين في آذار ٢٠٢٢ بقوله إن ” الصين تحافظ على النظام العالمي وتعمل على التنمية المستدامة والتعاون والسلام وتعزيز الثقة وحل النزاعات بالحوار وتحرص على الانفتاح في الاقتصاد العالمي بدون مواجهات بين الكتل في العالم ” .
وفي إطار الصراع والتنافس الدولي المتصاعد ، لا مصلحة أمريكية أيضا في حصول اتفاق استراتيجي عميق بين الصين وروسيا ، وعملت ولا زالت تعمل على وضع العصي في عجلات أي تقارب روسي صيني ، وتحركت على خلفية الحرب الأوكرانية في إعادة ترتيب التحالفات الدولية عبر الضغط باتجاه تحييد الصين في الحرب الاوكرانية ، والعمل على عسكرة اليابان في مواجهة الصين ورفع الحظر عن المانيا في مجال الصناعات الحربية ، وعقد العقود والصفقات التجارية مع الهند لفك عرى تعاونها مع روسيا .
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه : هل العالم على أعتاب تحول حدي في موازين القوى الدولية والانتقال من حالة القطب الواحد الى عالم متعدد الاقطاب ؟؟
لا شك أن التاريخ الانساني لم يستقر لفترة طويلة على تحكم قوة واحدة عظمى بدون منافس لها من قوى دولية أخرى .. ولكن العالم اليوم في ظل الظروف والاعتبارات المركبة والمعقدة لم يعد يتحرك وفق الٱليات التبسيطية القديمة في تحول الصراعات الدولية وتغيير القوى المسيطرة على العالم استنادا الى القوة فقط ، بل إن عمق الصراعات وتعقيدها اليوم لم تعد تترك عملية التغيير مفتوحه على مصراعيها في تغيير موازين القوى ، أذ أن هذا التغيير بات يتطلب عقود وعقود لإحداث انعطاف في مواقع القوى الدولية الحالية ، وعقود عديدة لتغيير طبيعة النظام العالمي والانتقال من عالم القطب الواحد الى عالم متعدد الأقطاب .