الحرب الروسية جعلت الرأي العام الأميركي يتراجع عن سياسة تقليص التزامات واشنطن تجاه الخارج وأدخلها على خط الأزمة.
قبل 24 فبراير (شباط) 2022، اتفق الأميركيون بمعظمهم على أن الولايات المتحدة ليست لديها مصالح حيوية على المحك في أوكرانيا. وقد قال الرئيس الأميركي باراك أوباما في مقابلة مع مجلة “ذا أتلانتيك” The Atlantic في عام 2016: “إذا كان هناك أحد ما في هذا البلد يعتقد أنه علينا النظر في خوض حرب مع روسيا بشأن شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، يجب أن يعبر عن ذلك”، لكن قليلين فعلوا آنذاك.
بيد أن هذا الإجماع تغير حينما غزت روسيا أوكرانيا. فجأة، أصبح مصير أوكرانيا مهماً بما يكفي لتبرير إنفاق مليارات الدولارات على الموارد وتحمل ارتفاع أسعار الوقود، وتوسيع الالتزامات الأمنية في أوروبا، بما في ذلك انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، وجعل الولايات المتحدة طرفاً فعلياً شريكاً في حرب ضد روسيا وهو قرار لم تظهر عواقبه بشكل جلي بعد. وحتى الآن، حظيت كل تلك الخطوات بدعم كبير من الأحزاب السياسية وبين عامة الشعب. وفي ذلك الإطار، أظهر استطلاع للرأي أجري في أغسطس (آب) من العام الماضي أن أربعة من بين كل عشرة أميركيين يؤيدون إرسال قوات أميركية للمساعدة في الدفاع عن أوكرانيا إذا لزم الأمر، على رغم أن إدارة بايدن تصر على أنها لا تنوي القيام بذلك.
إذاً، فقد غير الغزو الروسي نظرة الأميركيين، ليس بشأن أوكرانيا فحسب، بل أيضاً إلى العالم ككل ودور الولايات المتحدة فيه. طوال أكثر من 12 عاماً قبل الغزو الروسي وفي عهد رئيسين مختلفين، سعت الدولة الأميركية إلى تقليص التزاماتها الخارجية، بما في ذلك في أوروبا. ووفقاً لمركز بيو للبحوث، يعتقد غالبية الأميركيين أن الولايات المتحدة يجب أن “تهتم بشؤونها الخاصة على الصعيد الدولي وتدع الدول الأخرى تتدبر أمورها بأفضل ما يمكن بمفردها”. وكما قال خبير استطلاعات الرأي أندرو كوهوت، فإن الرأي العام الأميركي شعر “بقدر ضئيل من المسؤولية والميل إلى التعامل مع مشكلات دولية لا ينظر إليها على أنها تهدد المصالح الوطنية مباشرة”. ولكن حاضراً، يواجه الأميركيون نزاعين دوليين لا يشكلان خطراً مباشراً على “المصلحة الوطنية” بمعناها الشائع. لقد انضمت الولايات المتحدة إلى الحرب ضد قوة عظمى عدوانية في أوروبا ووعدت بالدفاع عن دولة ديمقراطية صغيرة أخرى ضد قوة عظمى استبدادية في شرق آسيا. في الواقع، إن التزامات الرئيس الأميركي جو بايدن بالدفاع عن تايوان إذا تعرضت للهجوم، في ما اعتبره “عملاً مشابهاً لما حدث في أوكرانيا”، قد أصبحت أكثر وضوحاً منذ الغزو الروسي. والآن، أصبح الأميركيون ينظرون إلى العالم على أنه مكان أكثر خطورة. واستجابة لذلك، ترتفع موازنات الدفاع (بشكل طفيف)، وتتزايد العقوبات الاقتصادية والقيود المفروضة على نقل التكنولوجيا؛ وتتم تقوية التحالفات وتوسيعها.
التاريخ يعيد نفسه
كشفت الحرب في أوكرانيا عن الفجوة بين طريقة تفكير الأميركيين وحديثهم عن مصالحهم الوطنية من جهة، وطريقة تصرفهم فعلياً في أوقات الأزمات الملحوظة من جهة أخرى. هذه ليست المرة الأولى التي تتغير فيها تصورات الأميركيين لمصالحهم كرد فعل على ما يجري. لأكثر من قرن من الزمان، تأرجحت البلاد بهذه الطريقة، بين فترات من ضبط النفس والتقوقع واللامبالاة والتحرر من الأوهام، وفترات من الانخراط والتدخل العالميين بشكل متسرع نوعاً ما. كان الأميركيون مصممين على البقاء خارج الأزمة الأوروبية بعد اندلاع الحرب في أغسطس 1914، ثم ما لبثوا أن أرسلوا ملايين القوات للقتال في الحرب العالمية الأولى بعد ثلاث سنوات. كانوا مصممين على البقاء خارج الأزمة الناشئة في أوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي، ولكن ما لبثوا أن أرسلوا ملايين عدة للقتال في الحرب العالمية التالية بعد ديسمبر (كانون الثاني) 1941.
في ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، لم يظهر رد فعل الأميركيين لأنهم واجهوا تهديداً مباشراً لأمنهم، بل من أجل الدفاع عن العالم الليبرالي خارج حدود بلادهم. في الحقيقة، لم يكن لدى الإمبراطورية الألمانية لا القدرة ولا النية لمهاجمة الولايات المتحدة. حتى أن تدخل الأميركيين في الحرب العالمية الثانية لم يكن رداً على تهديد مباشر للوطن. وفي أواخر الثلاثينيات، إلى أن حدث الهجوم الياباني على بيرل هاربور، اتفق الخبراء العسكريون، والمفكرون الاستراتيجيون، ومن يسمون أنفسهم بـ”الواقعيين”، بأن الولايات المتحدة كانت محصنة ضد الغزو الأجنبي، بغض النظر عما حدث في أوروبا وآسيا. وقبل انهيار فرنسا الصادم في يونيو (حزيران) 1940، لم يكن أحد يعتقد أن الجيش الألماني قادر على هزيمة الفرنسيين، ناهيك عن البريطانيين بقواتهم البحرية القوية، وكانت هزيمة كليهما ضرورية قبل أن يتصور أحد أي هجوم على الولايات المتحدة. وكما جادل عالم السياسة الواقعي نيكولاس سبيكمان، فمع وجود أوروبا “على بعد ثلاثة آلاف ميل”، والمحيط الأطلسي الفاصل “بشكل مطمئن”، كانت “حدود” الولايات المتحدة آمنة.
حاضراً، تتعرض تلك التقييمات للسخرية، بيد أن الأدلة التاريخية تشير إلى أن الألمان واليابانيين ما كانوا ينوون غزو الولايات المتحدة، ليس في عام 1941 ولا في أي وقت آخر على الأرجح. في الحقيقة، كان الهجوم الياباني على بيرل هاربور محاولة استباقية لمنع هجوم أميركي على اليابان أو تأخيره، لم يكن ذلك مقدمة لغزو الولايات المتحدة، فهو أمر لم يكن اليابانيون قادرين عليه. وعلى نحو مشابه، كان أدولف هتلر يحلم في مواجهة ألمانية في نهاية المطاف مع الولايات المتحدة، بيد أن تلك الأفكار وضعت جانباً بمجرد أن تورط في الحرب مع الاتحاد السوفياتي بعد يونيو 1941. وحتى لو انتصرت ألمانيا واليابان في نهاية المطاف، كل في منطقتها، فهناك سبب وجيه للتشكك، كما فعل مناهضو التدخل في ذلك الوقت، في أن أي منهما كان قادراً على إحكام سيطرته على فتوحات جديدة واسعة في أي وقت قريب، مما منح الأميركيين الوقت لبناء القوات والدفاعات اللازمة من أجل ردع غزو مستقبلي. حتى هنري لوس، أحد أهم مناصري التدخل، اعترف بأنه “في ما يتعلق بالمسألة الدفاعية البحتة، الدفاع عن وطننا”، فإن الولايات المتحدة “يمكن أن تجعل من نفسها عصية على الكسر بالتالي لن يتمتع جميع طغاة العالم بالجرأة لمهاجمتنا”.
لم تكن سياسات التدخل التي انتهجها الرئيس فرانكلين روزفلت منذ عام 1937 وما بعد تشكل استجابة لتهديد متزايد يحدق بالأمن الأميركي. في الواقع، ما أثار قلق روزفلت هو التدمير المحتمل للعالم الليبرالي الأوسع خارج حدود الشواطئ الأميركية. قبل وقت طويل من وصول الألمان أو اليابانيين إلى وضع يمكنهم فيه إلحاق الأذى بالولايات المتحدة، بدأ روزفلت في تسليح خصومهما وإعلان التضامن الأيديولوجي مع الديمقراطيات ضد “الدول العاصية”. كذلك، أعلن أن الولايات المتحدة هي “ترسانة الديمقراطية”. نشر قوات البحرية الأميركية ضد ألمانيا في المحيط الأطلسي وبطريقة موازية قطع تدريجاً وصول اليابان إلى النفط والضروريات العسكرية الأخرى في المحيط الهادئ.
في يناير (كانون الثاني) 1939، قبل أشهر من غزو ألمانيا لبولندا، نبه روزفلت الأميركيين إلى أن “هناك وقتاً يتحتم فيه على البشر أن يتجهزوا للدفاع، ليس عن بيوتهم فحسب، بل أيضاً عن مبادئ الإيمان والإنسانية التي تقوم عليها كنائسهم وحكوماتهم وحضارتهم”. وفي صيف عام 1940، لم يحذر من الغزو بل من أن تصبح الولايات المتحدة “جزيرة وحيدة” في عالم تهيمن عليه “فلسفة القوة”، “شعبها مسجون في زنزانة، مكبل اليدين، جائع، يمد يده عبر القضبان ليأخذ طعامه يوماً بعد يوم من سادة القارات الأخرى المحتقرين الذين لا يرحمون”. كانت هذه المخاوف، إلى جانب الرغبة في الدفاع عن عالم ليبرالي، هي التي دفعت الولايات المتحدة إلى مواجهة القوتين العظميين الاستبداديتين قبل وقت طويل من أن يشكل أي منهما تهديداً لما كان الأميركيون يتفقون عليه تقليدياً على أنه يمثل مصالحهم. باختصار، لم تكن الولايات المتحدة تهتم بشؤونها الخاصة فحسب عندما قررت اليابان مهاجمة أسطول المحيط الهادئ الأميركي وقرر هتلر إعلان الحرب في عام 1941. وكما قال هربرت هوفر في ذلك الوقت، إذا أصرت الولايات المتحدة على “وخز الأفاعي الجرسية بالأبر، فعليها أن تتوقع التعرض للسعاتها”.
الواجب ينادي
إن المفهوم التقليدي لما يشكل المصالح الوطنية الخاصة بأي بلد لا يمكن أن يفسر الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة في أربعينيات القرن الماضي أو ما تفعله اليوم في أوكرانيا. من المفترض أن تتمحور المصالح حول الأمن الإقليمي والسيادة، وليس الدفاع عن المعتقدات والأيديولوجيات. قد تعود جذور الخطاب الغربي الحديث عن المصالح إلى القرنين الـ16 والـ17 عندما بدأ مكيافيلي أولاً ثم مفكرو التنوير في القرن الـ17، بالنظر في استبعاد الدين والمعتقد من سير العلاقات الدولية، رداً على انتهاكات الباباوات القاسية وأهوال الصراع بين الأديان في حرب الـ30 عاماً. وفقاً لنظرياتهم، التي لا تزال تهيمن على تفكيرنا اليوم، تتشاطر جميع الدول مجموعة مشتركة من المصالح الأساسية المعنية بالبقاء والسيادة. ويتطلب السلام العادل والمستقر أن تتخلى الدول عن معتقداتها في إدارة [تسيير] العلاقات الدولية، وتحترم الاختلافات الدينية أو الأيديولوجية، وتتجنب التدخل في شؤون بعضها بعضاً الداخلية، وتقبل بتوازن القوى بين الدول التي يمكنها وحدها أن تضمن السلام الدولي. وغالباً ما يطلق على طريقة التفكير هذه حول الاهتمامات والمصالح اسم “الواقعية” أو “الواقعية الجديدة”، وهي تطغى على جميع المناقشات المتعلقة بالعلاقات الدولية.
خلال القرن الأول من عمر بلادهم، اتبع معظم الأميركيين إلى حد كبير طريقة التفكير هذه عن العالم. على رغم أنهم كانوا شعباً أيديولوجياً للغاية شكلت معتقداته أساس قوميته، إلا أنهم كانوا واقعيين في السياسة الخارجية خلال القرن الـ19 بمعظمه، ورأوا الخطر الكامن في التدخل في شؤون أوروبا. كانوا يغزون القارة ويوسعون تجارتهم، وبصفتهم قوة أضعف داخل عالم القوى الإمبريالية العظمى، ركزوا على أمن بلادهم. لم يكن بإمكان الأميركيين دعم الليبرالية في الخارج حتى لو أرادوا ذلك، علماً أن عددا كبيراً منهم لم يرغب في ذلك. فمن ناحية، لم يكن هناك عالم ليبرالي لدعمه قبل منتصف القرن الـ19. ومن ناحية أخرى، باعتبارهم مواطنين يعيشون في نظام نصف ديمقراطي ونصف ديكتاتوري استبدادي إلى أن نشبت الحرب الأهلية، لم يتمكن الأميركيون حتى من الاتفاق على أن الليبرالية كانت شيئاً جيداً في داخل بلادهم، ناهيك عن العالم بأسره.
بعد ذلك، في النصف الأخير من القرن الـ19، عندما أصبحت الولايات المتحدة موحدة كدولة ليبرالية أكثر تماسكاً وجمعت الثروة والنفوذ اللازمين للتأثير في العالم الأوسع، لم تكن هناك حاجة واضحة للقيام بذلك. ثم منذ منتصف القرن الـ19 فصاعداً، أصبحت أوروبا الغربية، وبخاصة فرنسا والمملكة المتحدة، ليبرالية بشكل متزايد، وساهم مزيج من الهيمنة البحرية البريطانية وتوازن القوى المستقر نسبياً في القارة في توفير سلام سياسي ليبرالي واقتصادي استفاد منه الأميركيون أكثر من أي أحد آخر. وعلى رغم ذلك، لم يتحملوا أياً من التكاليف أو المسؤوليات المترتبة على الحفاظ على هذا النظام. لقد كانت ظروفاً مثالية، وفيما اعتقد بعض “الأمميين” أن تنامي القوة لا بد من أن ترافقه المسؤولية المتزايدة، فضل معظم الأميركيين أن يظلوا منتفعين مجاناً من نظام الآخرين الليبرالي. قبل وقت طويل من دخول نظرية العلاقات الدولية الحديثة إلى المناقشة، كانت رؤية المصلحة الوطنية دفاعاً عن الوطن منطقية بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يريدون ولا يطلبون سوى أن يتركهم الجميع وشأنهم.
تغير كل شيء عندما أخذ النظام الليبرالي بقيادة بريطانيا في الانهيار في أوائل القرن الـ20. كشف اندلاع الحرب العالمية الأولى في أغسطس 1914 عن تحول جذري في التوزيع العالمي للقوة. لم تعد المملكة المتحدة قادرة على الحفاظ على هيمنتها البحرية ضد القوتين الصاعدتين اليابانية والأميركية، إضافة إلى خصميها الإمبرياليين التقليديين، فرنسا وروسيا. وانهار ميزان القوى في أوروبا مع صعود ألمانيا الموحدة، وبحلول نهاية عام 1915، أصبح من الواضح أنه حتى القوة المشتركة لفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة لن تكون كافية للتغلب على الآلة الألمانية الصناعية والعسكرية. وبدأ توازن القوى العالمية الذي أيد الليبرالية يتجه نحو القوى المناهضة لليبرالية.
وكانت النتيجة أن العالم الليبرالي الذي تمتع به الأميركيون فعلياً من دون كلفة قد يسقط ما لم تتدخل الولايات المتحدة لتغيير ميزان القوى لصالح الليبرالية. وفجأة وقع على عاتق الولايات المتحدة الدفاع عن النظام العالمي الليبرالي الذي لم تعد المملكة المتحدة قادرة على الحفاظ عليه. وكان الأمر بيد الرئيس وودرو ويلسون، الذي، بعد أن كافح من أجل البقاء خارج الحرب والحفاظ على الحياد بالطريقة التقليدية، استنتج أخيراً أن الولايات المتحدة ليس لديها خيار سوى الدخول في الحرب وإلا فستشاهد الليبرالية في أوروبا تسحق. لم يعد الانعزال الأميركي عن العالم “ممكناً” أو “مرغوباً فيه” حينما أصبح السلام العالمي على المحك والديمقراطيات مهددة من “الحكومات الاستبدادية المدعومة بقوة منظمة”، وفق ما قاله في خطاب إعلان الحرب الموجه إلى الكونغرس في عام 1917. وهكذا، وافق الأميركيون على الحرب ودعموها من أجل “جعل العالم آمناً للديمقراطية”، علماً أن ويلسون لم يكن يقصد بتلك العبارة نشر الديمقراطية في كل مكان، بل كان يعني الدفاع عن الليبرالية حيثما وجدت أصلاً.
تضارب المصالح
جاهد الأميركيون منذ ذلك الحين من أجل التوفيق بين هذين التفسيرين المتناقضين بشأن مصالحهم، فأحدهما يركز على أمن الوطن والآخر يركز على الدفاع عن العالم الليبرالي بعيداً من شواطئ الولايات المتحدة. الأول يتوافق مع تفضيل الأميركيين أن يتركوا وشأنهم وتجنب التكاليف والمسؤوليات والأعباء الأخلاقية الناجمة عن ممارسة السلطة في الخارج، فيما يعكس الثاني مخاوفهم كشعب ليبرالي من أن يصبحوا “جزيرة وحيدة” في بحر من الديكتاتوريات العسكرية. لقد أدى التذبذب بين هذين المنظورين إلى حدوث انتكاسات متكررة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال القرن الماضي.
أيهما أصح، وأكثر أخلاقية؟ أيهما يشكل أفضل وصف للعالم، أفضل دليل توجيهي للسياسة الأميركية؟ لقد هاجم الواقعيون ومعظم المنظرين الدوليين باستمرار التعريف الأكثر شمولاً للمصالح الأميركية على أنها تفتقر إلى القيود والانضباط، بالتالي من المحتمل أن تفوق قدرات الولايات المتحدة، وتخاطر في الوقت نفسه باندلاع نزاع مروع مع القوى العظمى المسلحة نووياً. هذه المخاوف لم تثبت ما يبررها قط، فمواصلة الأميركيين للحرب الباردة بجرأة لم تؤد إلى حرب نووية مع الاتحاد السوفياتي، وحتى الحروب في فيتنام والعراق لم تقوض القوة الأميركية تماماً. لكن من المفارقات أن جوهر نقد الواقعيين كان دائماً أخلاقياً وليس عملياً.
في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، لم يركز منتقدو التعريف الأوسع للمصالح على التكاليف التي تتكبدها الولايات المتحدة من حيث الأرواح والأموال فحسب بل أيضاً على ما اعتبروه الهيمنة والإمبريالية المتأصلتين في المشروع. ما الذي أعطى الأميركيين الحق في الإصرار على أمن العالم الليبرالي في الخارج ما دام أمنهم غير مهدد؟ لقد شكل ذلك فرضاً للتفضيلات الأميركية بالقوة. مهما بدت أفعال ألمانيا واليابان مرفوضة بالنسبة إلى القوى الليبرالية، فهما كانتا تحاولان، إلى جانب إيطاليا الخاضعة لحكم بينيتو موسوليني، تغيير النظام العالمي الأنجلو أميركي الذي جعلها دولاً “فقيرة لا تملك شيئاً”. في الواقع، إن التسوية التي تم التوصل إليها في فرساي بعد الحرب العالمية الأولى والمعاهدات الدولية التي تفاوضت عليها الولايات المتحدة في شرق آسيا حرمت ألمانيا واليابان من الإمبراطوريات وحتى مناطق النفوذ التي اعتادت أن تتمتع بها القوى المنتصرة. ربما كان الأميركيون والليبراليون الآخرون ينظرون إلى العدوان الألماني والياباني على أنه غير أخلاقي ومدمر “للنظام العالمي”، لكنه في النهاية كان نظاماً فرضته عليهما قوة متفوقة. فكيف كانتا لتغيرا ذلك النظام لولا امتلاك قوة خاصة بهما؟
وكما جادل المفكر الواقعي البريطاني “إي إتش كار” في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، فيما إذا كانت القوى غير الراضية مثل ألمانيا عازمة على تغيير نظام أضر بها، فإن “مسؤولية رؤية حدوث هذه التغييرات… بطريقة منظمة” تقع على مؤيدي النظام الحالي. في الحقيقة، ينبغي استيعاب القوة المتنامية التي تكتسبها الدول غير الراضية، عوضاً عن مقاومتها. وهذا يعني أنه يجب التضحية بسيادة بعض البلدان الصغيرة واستقلالها. في ذلك السياق، جادل كار بأن نمو القوة الألمانية جعل “من المحتم أن تفقد تشيكوسلوفاكيا جزءاً من أراضيها وفي النهاية استقلالها”. وافق جورج كينان، الذي كان يعمل آنذاك في منصب ديبلوماسي أميركي كبير في براغ، على أن تشيكوسلوفاكيا كانت “في النهاية، دولة أوروبية مركزية” وأن “ثرواتها يجب أن تكون على المدى الطويل مع، وليس ضد، القوى المهيمنة في هذه المنطقة”. في المقابل، حذر مناهضو التدخل من أن “الإمبريالية الألمانية” تم استبدالها ببساطة بـ “الإمبريالية الأنغلو أميركية”.
قدم المجادلون في الدعم الأميركي لأوكرانيا الحجج نفسها. أكد أوباما مراراً أن أوكرانيا أهم بالنسبة إلى روسيا منها إلى الولايات المتحدة، وبالطبع يمكن قول الشيء نفسه عن تايوان والصين. واتهم النقاد من اليسار واليمين الولايات المتحدة بالانخراط في الإمبريالية لأنها رفضت استبعاد احتمال انضمام أوكرانيا في المستقبل إلى الناتو وشجعت الأوكرانيين على رغبتهم في الانضمام إلى العالم الليبرالي.
في الواقع، هذه الاتهامات تنطوي على كثير من الصحة. سواء كانت تصرفات الولايات المتحدة تستحق أن تسمى “إمبريالية”، خلال الحرب العالمية الأولى ثم في العقود الثمانية منذ الحرب العالمية الثانية حتى اليوم، فقد استخدمت واشنطن قوتها ونفوذها من أجل الدفاع عن هيمنة الليبرالية ودعمها. فالدفاع عن أوكرانيا هو دفاع عن الهيمنة الليبرالية. عندما يقول السناتور الجمهوري ميتش مكونيل وآخرون إن لدى الولايات المتحدة مصلحة حيوية في أوكرانيا، فإنهم لا يعنون أن الولايات المتحدة ستتعرض لتهديد مباشر إذا سقطت أوكرانيا، بل أن النظام العالمي الليبرالي هو الذي سيتعرض للتهديد إذا سقطت أوكرانيا.
صانع القوانين
يركز الأميركيون على الفارق الأخلاقي المفترض بين “الحروب الضرورية” و”الحروب الاختيارية”. وفي عرضهم لتاريخهم، يتذكرون تعرض البلاد للهجوم في السابع من ديسمبر 1941، وإعلان هتلر الحرب بعد أربعة أيام، لكنهم ينسون السياسات الأميركية التي دفعت اليابانيين إلى مهاجمة بيرل هاربور وقادت هتلر إلى إعلان الحرب. وعلى نحو مماثل، في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، كان بإمكان الأميركيين رؤية عدوان الشيوعيين ومحاولات بلادهم الدفاع عن “العالم الحر”، لكنهم لم يدركوا أن إصرار حكومتهم على وقف الشيوعية في كل مكان كان شكلاً من أشكال الهيمنة. وفي مساواتهم بين الدفاع عن “العالم الحر” والدفاع عن أمنهم، اعتبر الأميركيون كل عمل يقومون به على أنه ضروري.
ولم يقرر الأميركيون بأثر رجعي أن تلك الحروب لم تكن ضرورية وأن الأمن الأميركي لم يكن في خطر مباشر، إلا عندما سارت الحروب بشكل سيئ، كما حصل في فيتنام والعراق، أو انتهت بشكل غير مرض، كما في الحرب العالمية الأولى. لقد نسوا الطريقة التي نظر بها العالم إليهم عندما دعموا تلك الحروب للمرة الأولى. في الواقع، 72 في المئة من الأميركيين الذين شملهم الاستطلاع في مارس 2003 وافقوا على قرار شن الحرب في العراق. لقد نسوا أيضاً المخاوف والإحساس بعدم الأمان الذي شعروا به في ذلك الوقت وخلصوا إلى أن بعض المؤامرات الشائنة قد ضللتهم.
والمفارقة في كل من حربي أفغانستان والعراق هي أنه على رغم تصويرهما في السنوات اللاحقة على أنهما مؤامرتين لتعزيز الديمقراطية، بالتالي خير مثال على مخاطر التعريف الأوسع للمصالح الأميركية، لم يكن الأميركيون في ذلك الوقت يفكرون في النظام العالمي الليبرالي على الإطلاق. بل كانوا يفكرون في الأمن فحسب. وفي أجواء الخوف والخطر التي عمت بعد 11 سبتمبر (أيلول)، اعتقد الأميركيون أن دولتي أفغانستان والعراق تشكلان تهديداً مباشراً للأمن الأميركي لأن حكومتيهما إما كانتا تؤويان إرهابيين أو تمتلكان أسلحة دمار شامل كان لينتهي بها المطاف ربما في أيدي الإرهابيين. صواباً أو خطأ، هذا هو السبب في أن الأميركيين أيدوا في البداية ما سخروا منه لاحقاً على أنه “حروب أبدية”. وكما حصل في حرب فيتنام، لم يستنتج الأميركيون أن حروب الضرورة المتصورة كانت في الواقع حروباً اختيارية إلا بعد أن طال القتال من دون أن يلوح أي نصر في الأفق.
إن كل حروب الولايات المتحدة، “الجيدة” منها و”السيئة”، الرابحة والخاسرة، كانت حروباً اختيارية. لم يكن أي منها ضرورياً للدفاع عن أمن الولايات المتحدة مباشرة، بل تمحورت جميعها بطريقة أو بأخرى حول تشكيل البيئة الدولية. كانت حرب الخليج في 1990-1991 والتدخلات في البلقان في تسعينيات القرن الماضي، وفي ليبيا عام 2011 تدور حول إدارة العالم الليبرالي والدفاع عنه وتطبيق قواعده.
وغالباً ما يتحدث القادة الأميركيون عن الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد، لكن الأميركيين لا يعترفون بالهيمنة المتأصلة في مثل هذه السياسة. إنهم لا يدركون، كما لاحظ رينهولد نيبور ذات مرة، أن القواعد نفسها هي شكل من أشكال الهيمنة. فهي ليست محايدة بل صممت من أجل الحفاظ على الوضع الدولي الراهن، الذي سيطر عليه العالم الليبرالي المدعوم من الولايات المتحدة لمدة ثمانية عقود. والنظام القائم على القواعد هو ملحق لتلك الهيمنة. إذا التزمت القوى العظمى غير الراضية مثل روسيا والصين بهذه القواعد طوال الفترة التي فعلت فيها ذلك، فالسبب ليس تحولها إلى الليبرالية أو لأنها كانت راضية عن العالم كما كان أو كان لديها احترام متأصل للقواعد، بل لأن الولايات المتحدة وحلفاءها كانوا يتمتعون بسلطة متفوقة تخدم رؤيتهم لنظام عالمي مرغوب فيه، ولم يكن لدى القوى المستاءة خيار آمن سوى الإذعان.
الحقيقة تتجلى
إن فترة السلام الطويلة بين القوى العظمى التي عمت بعد الحرب الباردة قدمت صورة مريحة بشكل مضلل للعالم. ففي أوقات السلم، يمكن للعالم أن يظهر كما يصفه المنظرون الدوليون. ويمكن التعامل مع قادة الصين وروسيا بشكل دبلوماسي في مؤتمرات بين الأنداد، الذين يستعان بهم من أجل الحفاظ على توازن سلمي بين القوى، لأنه وفقاً لنظرية المصالح السائدة، لا يمكن أن تختلف أهداف القوى العظمى الأخرى اختلافاً جوهرياً عن أهداف الولايات المتحدة. فهي جميعها تسعى إلى مضاعفة أمنها إلى أقصى الدرجات والحفاظ على سيادتها. وجميعها تقبل قواعد النظام الدولي المتصور. وجميعها ترفض أن تكون الأيديولوجية دليلاً توجيهياً للسياسة.
والافتراض الكامن وراء كل هذه الحجج هو أنه مهما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ غير مقبولين كحكام، فبصفتهما جهتين فاعلتين حكوميتين من الممكن توقع أن يتصرفا كما يزعم دائماً أن جميع القادة يتصرفون. لديهما شكاوى مشروعة بشأن الطريقة التي حدثت فيها تسوية السلام بعد الحرب الباردة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، تماماً كما كانت لألمانيا واليابان شكاوى مشروعة بشأن تسوية ما بعد الحرب في عام 1919. أما الافتراض الآخر فهو أن بذل جهود معقولة من أجل التعامل مع مطالبهما المشروعة من شأنه أن يؤدي إلى سلام أكثر استقراراً، تماماً كما ساعدت تسوية فرنسا بعد نابليون في الحفاظ على السلام في أوائل القرن الـ19. من وجهة النظر هذه، فإن البديل للهيمنة الليبرالية المدعومة من الولايات المتحدة ليس الحرب والاستبداد والفوضى، بل هو سلام أكثر حضارة وإنصافاً.
في كثير من الأحيان أقنع الأميركيون أنفسهم بأن الدول الأخرى سوف تتبع القواعد المفضلة لديهم طواعية، في عشرينيات القرن الماضي مثلاً عندما أشاد الأميركيون بميثاق كيلوغ – برياند الذي “يحظر” الحرب، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة حين كان كثيرون منهم يأملون بأن تتولى الأمم المتحدة عبء الحفاظ على السلام، ومرة أخرى في العقود التي أعقبت الحرب الباردة، عندما كان يفترض أن العالم يتحرك بشكل حتمي نحو التعاون السلمي وانتصار الليبرالية. وكانت الفائدة الإضافية، وربما حتى الدافع، لمثل هذه المعتقدات هي أنه في حال كانت صحيحة، يمكن للولايات المتحدة التوقف عن لعب دور الطرف الذي يفرض الليبرالية في العالم والتخلص من جميع التكاليف المادية والمعنوية التي ترتبت على ذلك.
وعلى رغم ذلك، فإن هذه الصورة المريحة للعالم انفجرت بشكل دوري بسبب الحقائق القاسية الموجودة عالمياً. تم التعامل مع بوتين كرجل دولة بارع وواقعي لا يسعى إلا إلى رفع الظلم الذي لحق بروسيا بسبب تسوية ما بعد الحرب الباردة، رجل يملك بعض الحجج المنطقية، بيد أن هذه النظرة تغيرت بعد غزو أوكرانيا، الذي أثبت رغبته في استخدام القوة ضد جار أضعف، لا بل حتى استخدام جميع الأساليب المتاحة له أثناء الحرب لإلحاق الدمار بالسكان المدنيين في أوكرانيا من دون أدنى تردد. وكما حدث في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، أجبرت الأحداث الأميركيين على رؤية العالم كما هو بصورته الحقيقية، عوضاً عن المكان الأنيق والعقلاني الذي افترضه المنظرون. في الحقيقة، لا تتصرف أي من القوى العظمى كما يفترض الواقعيون، مسترشدة بأحكام عقلانية حول تحقيق الحد الأقصى من الأمن. وعلى غرار القوى العظمى في الماضي، هي تتصرف من منطلق المعتقدات والعواطف والغضب والاستياء. لا توجد مصالح منفصلة خاصة بـ “الدولة”، بل هناك فحسب مصالح ومعتقدات الناس الذين يعيشون ويحكمون الدول.
فلنأخذ الصين على سبيل المثال. إن رغبة بكين الواضحة في المخاطرة بشن حرب من أجل تايوان لا معنى لها في ما يتعلق بالأمن. وليس هناك أي تقييم منطقي للوضع الدولي ينبغي أن يدفع قادة بكين إلى الاستنتاج أن استقلال تايوان من شأنه أن يشكل أي تهديد بالهجوم على البر الرئيس. وعوضاً عن تعزيز الأمن الصيني، فإن سياسات بكين تجاه تايوان تزيد من احتمال نشوب صراع كارثي مع الولايات المتحدة. إذا أعلنت الصين غداً أنها لم تعد تطالب بالتوحيد مع تايوان، سيتوقف التايوانيون وداعموهم الأميركيون عن محاولة تسليح الجزيرة بكثافة. وقد تنزع تايوان أسلحتها بشكل كبير، على غرار كندا التي لا تزال منزوعة السلاح على طول حدودها مع الولايات المتحدة. لكن مثل هذه الاعتبارات المادية والأمنية المباشرة ليست القوة الدافعة وراء السياسات الصينية. في الواقع، تعتبر مسائل الفخر والشرف والقومية إلى جانب هوس الاستبداد المبرر الذي يحاول الحفاظ على السلطة في عصر الهيمنة الليبرالية، هي محركات السياسات الصينية بشأن تايوان وعدد من القضايا الأخرى.
قليلة هي الدول التي استفادت أكثر من الصين من النظام الدولي المدعوم من الولايات المتحدة، الذي وفر أسواقاً للسلع الصينية، فضلاً عن التمويل والمعلومات التي سمحت للصين بالتعافي من الضعف والفقر من القرن الماضي. تمتعت الصين الحديثة بأمن ملحوظ خلال العقود القليلة الماضية، ولهذا السبب، قبل عقدين من الزمن، لم تنفق سوى قليل على الدفاع. وعلى رغم ذلك، تهدف الصين إلى تعديل هذا العالم.
وعلى نحو مماثل، فإن غزوات بوتين المتسلسلة للدول المجاورة لم تكن بدافع الرغبة في تعزيز أمن روسيا. لم يسبق أن تمتعت روسيا بأمن أكبر على حدودها الغربية من ذلك الذي كانت تتمتع به خلال العقود الثلاثة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة. تعرضت روسيا للغزو من الغرب ثلاث مرات في القرنين الـ19 والـ20، مرة من فرنسا ومرتين من ألمانيا، وكان عليها أن تستعد لاحتمال الغزو الغربي خلال الحرب الباردة. لكن منذ سقوط جدار برلين لم يكن أي شخص في موسكو يملك سبباً في أي وقت من الأوقات يدفعه للاعتقاد بأن روسيا كانت تواجه احتمال أن يشن الغرب هجوماً عليها.
وربما شكلت رغبة دول أوروبا الشرقية في السعي إلى تحقيق الأمن والازدهار من عضويتها في الغرب ضربة لفخر موسكو وإشارة إلى ضعف روسيا في فترة ما بعد الحرب الباردة. لكنها لم تزد الخطر على الأمن الروسي. لقد عارض بوتين توسع الناتو ليس لأنه كان يخشى هجوماً على روسيا بل لأن هذا التوسع سيصعب عليه أكثر فأكثر استعادة السيطرة الروسية في أوروبا الشرقية. وحاضراً، كما في الماضي، تعتبر الولايات المتحدة عقبة أمام الهيمنة الروسية والصينية، بيد أنها لا تشكل أي تهديد لوجود روسيا والصين.
وعوضاً عن تعزيز الأمن الروسي إلى أقصى حد، أضر بوتين به، وكان من الممكن أن يكون الوضع مماثلاً حتى لو نجح غزوه كما هو مخطط له. وهو لم يفعل ليس لأسباب تتعلق بالأمن أو الاقتصاد أو أي مكاسب مادية، بل من أجل التغلب على الإذلال الناتج من فقدان العظمة، وإشباع إحساسه بأن مكانته عظيمة في التاريخ الروسي، وربما الدفاع عن مجموعة معينة من المعتقدات. في الواقع، يحتقر بوتين الليبرالية بقدر ما احتقرها ستالين وألكسندر الأول ومعظم المستبدين عبر التاريخ، باعتبارها أيديولوجيا يرثى لها وضعيفة وحتى مريضة ليست مكرسة سوى للملذات الصغيرة للفرد، في وقت ينبغي فيه أن يكون مجد الدولة والأمة هو الذي يحظى بولاء الناس وتضحياتهم.
الخروج من الدوامة
فكرة أن الأميركيين بمعظمهم يعتبرون تلك الجهات الفاعلة بمثابة تهديد لليبرالية، تقدم تفسيراً واقعياً للوضع، تماماً كما كان من المنطقي أن نكون حذرين من هتلر حتى قبل أن يرتكب أي عمل عدواني أو يبدأ في إبادة اليهود. عندما تلجأ القوى العظمى صاحبة السجل الحافل بالمعاداة لليبرالية إلى القوة المسلحة لكي تحقق أهدافها، يستيقظ الأميركيون عموماً من سباتهم، ويتخلون عن تعريفاتهم الضيقة للمصالح، ويتبنون هذه النظرة الأوسع لما يستحق تضحياتهم.
هذه واقعية أكبر، تدفع إلى فهم الدوافع الإنسانية الأساسية عوضاً عن التعامل مع العالم على أنه مكون من دول مجهولة الهوية تعمل وفقاً لمنطقها الخاص. إنها تدرك أن لكل أمة مجموعة فريدة من الاهتمامات الخاصة بتاريخها وجغرافيتها وتجاربها ومعتقداتها، وأن المصالح ليست كلها راسخة ودائمة، فمصالح الأميركيين في عام 1822 لم تبق هي نفسها بعد قرنين من الزمان. ويجب أن يأتي اليوم الذي تصبح الولايات المتحدة فيه غير قادرة على احتواء منافسي النظام العالمي الليبرالي. وفي نهاية المطاف، قد تجعل التكنولوجيا المحيطات والمسافات غير مهمة. وحتى الولايات المتحدة نفسها يمكن أن تتغير وتتوقف عن كونها دولة ليبرالية.
لكن ذلك اليوم لم يحن بعد. على رغم التأكيدات المتكررة المناقضة لذلك، فإن الظروف التي جعلت الولايات المتحدة تلعب دور العامل الحاسم في الشؤون العالمية منذ قرن مضى لا تزال قائمة. ومثلما أكدت الحربان العالميتان والحرب الباردة أن القوى المهيمنة الاستبدادية المحتملة لا يمكنها تحقيق طموحاتها ما دامت الولايات المتحدة جهة فاعلة، كذلك اكتشف بوتين صعوبة تحقيق أهدافه طالما أن جيرانه الأضعف يمكنهم البحث عن دعم غير محدود تقريباً من الولايات المتحدة وحلفائها. وقد يكون هناك سبب للأمل في أن يشعر شي أيضاً أن الوقت ليس مناسباً لتحدي النظام الليبرالي بشكل مباشر وعسكري.
لكن السؤال الأكبر يتعلق بما يريده الأميركيون. اليوم، استيقظوا مرة أخرى للدفاع عن العالم الليبرالي. وكان من الأفضل لو تم إيقاظهم في وقت سابق. أمضى بوتين سنوات في التحقيق لمعرفة ما يمكن أن يتحمله الأميركيون، أولاً في جورجيا في عام 2008، ثم في شبه جزيرة القرم في عام 2014، وكان في الوقت نفسه يعمل على بناء قدرته العسكرية (ولكن ليس بشكل كاف بحسب ما اتضح). وقد ساهم رد الفعل الأميركي الحذر على كل من العمليات العسكرية، وكذلك على الأعمال العسكرية الروسية في سوريا، في إقناعه بالمضي قدماً. هل نحن أفضل حالاً اليوم لأننا لم نقم بالمخاطرة حينذاك؟
“اعرف نفسك”، هذه كانت النصيحة التي قدمها الفلاسفة القدماء. يشتكي بعض النقاد من أن الأميركيين لم يطرحوا ويناقشوا بجدية سياساتهم تجاه أوكرانيا أو تايوان، وأن الذعر والغضب قد طغى على الأصوات المعارضة. وأولئك النقاد على حق، إذ ينبغي على الأميركيين أن يجروا نقاشاً صريحاً ومفتوحاً في الدور الذي يريدون للولايات المتحدة أن تلعبه في العالم.
بيد أن الخطوة الأولى هي إدراك المخاطر. كان المسار الطبيعي للتاريخ في غياب القيادة الأميركية واضحاً تماماً: لم يتجه نحو سلام ليبرالي، أو توازن ثابت بين القوى، أو تطوير القوانين والمؤسسات الدولية. عوضاً عن ذلك، أدى إلى انتشار الديكتاتورية والصراع المستمر بين القوى العظمى. هذا هو المكان الذي كان يتجه إليه العالم في عامي 1917 و1941. وإذا قلصت الولايات المتحدة مشاركتها في العالم اليوم، فلن يكون من الصعب التنبؤ بالعواقب بالنسبة إلى أوروبا وآسيا. على مر التاريخ البشري، كان صراع القوى العظمى والدكتاتورية هما المعيارين المعتمدين، فيما لم يشكل السلام الليبرالي سوى حال استثنائية لوقت قصير. في الحقيقة، لا شيء قادر على إبقاء القوى الطبيعية عبر التاريخ تحت السيطرة إلا القوة الأميركية.
روبرت كاغان: زميل رفيع لـ”ستيفن وباربرا فريدمان” في معهد بروكينغز، ومؤلف الكتاب الذي سيصدر قريباً بعنوان “الشبح في العيد: أميركا وانهيار النظام العالمي” 1900-1941 The Ghost at the Feast: America and the Collapse of World Order, 1900–1941
مترجم عن “فورين أفيرز” يناير/فبراير 2023
المصدر: اندبندنت عربية