الحقائق تتحدث عن نفسها والظاهرة لا يمكن إنكارها.
لم يكن هناك شيئا مصطنعا وراءه قوى سياسية تعبئ وتحشد وأجهزة إعلام تحرض وتدفع المواطنين العرب إلى التوحد مع المنتخبات العربية في مونديال قطر (2022) دعماً واعتزازاً، فرحاً وحزناً.
الظاهرة تجلت بصورة طبيعية وتلقائية على شبكات التواصل الاجتماعي، وفي المنتديات العامة، المقاهي والشوارع.
سجلت الفيديوهات صوراً عديدة للتعبير عن ذلك التوحد في المشاعر.
السؤال طرح نفسه: لماذا؟
كانت الإجابة الغالبة، الكاسحة في حقيقة الأمر: أننا أمة واحدة مهما تشرذمنا، وجداننا واحد مهما تفرقت بنا السبل.
إنها الوحدة الوجدانية.
المعنى واضح وبسيط لا يحتاج تعليقا من هنا، أو إضافة من هناك، لكنه استثار نزعات انعزالية ظاهرة وكامنة في أنحاء العالم العربي حاولت أن تشكك في الظاهرة كلها باعتبارها اندفاعا عاطفيا وراء أوهام، كأن العالم العربي كله تواطأ على خداع نفسه.
جرى التشكيك في عروبة المغرب بتصريحات اقتطعت من سياقهاـ أو بترديد أن أغلب لاعبيه ينتمون إلى عرقية الأمازيغ، أو ولدوا خارجه، أو أي شيء آخر غير أن يحسب هذا المنتخب على العرب.
إذا ما كان قدر لأي منتخب عربي آخر أن يحقق نفس الإنجاز، فإنه كان سوف يجري الطعن في شرعية انتسابه العربي بذريعة أو أخرى حتى لا تتكرس في البيئة العامة من جديد الوحدة الوجدانية، التي قد تؤسس لأحوال وأوضاع جديدة في العالم العربي.
محاولة نزع المغرب عن عروبته، والتشكيك فيها، استهدف أن ينزع أي حق عن بقية العرب في الاحتفاء الجماعي بما حققه من إنجاز، وربما الحق في الأسى الجماعي إذا لم يصل سقف الطموح إلى آخره.
كان ذلك تجهيلا بالتاريخ، تاريخ مصر والأدوار التي لعبتها خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وتاريخ المغرب العربي سعيا للتحرر الوطني عن الاستعمار الفرنسي وتأكيد هويته الوطنية والحضارية.
قبل ثورة يوليو كان هناك مكتب في شارع “عبدالخالق ثروت” بقلب العاصمة المصرية يحمل اسم “مكتب المغرب العربي” يضم القيادات اللاجئة من البلاد العربية، التي تحتلها فرنسا في شمال إفريقيا “تونس والجزائر والمغرب”.
مطلع يوليو مال التفكير الاستراتيجي لـ”جمال عبدالناصر” إلى ضرورة العمل على “فتح الجبهة الجزائرية في موقع القلب من الشمال الإفريقي لتوجيه ضربة قاضية للاستعمار الفرنسي الذي سيجد قواته مطالبة بمواجهة واسعة على ساحة الشمال الإفريقي كله يرغمه أن يخفف ثقل قواته على الجناحين الآخرين تونس ومراكش”.
دعم الانتفاضة المغربية استلزم فتح جبهة الجزائر.
كانت إشكالية العرب والأمازيغ ماثلة في التفكير السياسي المصري.
بثت بكثافة على أثير “صوت العرب”، التي كانت قد تأسست حديثا، أقوال وأشعار الأب الأكبر للنضال الجزائري في القرن العشرين “عبدالحميد بن باديس”.
“إن هذا الشعب الجزائري المسلم ليس فرنسيا، ولا يمكن أن يكون فرنسيا، ولا يريد أن يكون فرنسيا، ومن المستحيل أن يكون فرنسيا ولو أراد التجنس”.
شاع على نطاق واسع في أنحاء المغرب العربي بيت شعر كتبه:
“شعب الجزائر مسلم.. وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله.. أو قال مات فقد كذب”.
اكتسبت أقواله وأشعاره أهمية إضافية من كونه أمازيغي الأصل.
حسب مذكرات غير منشورة لـ”أحمد سعيد”، مؤسس “صوت العرب”، كانت المسألة “الأمازيغية” معضلة كبرى اعترضت الثورة الجزائرية كعمل جماعي مشترك لكل تنوعات المجتمع.
ساعدت علوم التاريخ والاجتماع والنفس في تجاوز تلك المعضلة، التي هددت الثورة في محطات عديدة.
أجريت دراسات في كل دول المغرب العربي شاملة بدو سيوة تولاها ثلاثة من كبار المؤرخين المصريين: “د. أحمد عزت عبدالكريم” و”د. عبدالحميد العبادي” و”د. زكي محمد حسن”، بالإضافة إلى “عثمان سعدي”، وهو باحث جزائري حصل على درجة الدكتوراه فيما بعد.
كان الهدف من الدراسات الموسعة الإجابة عن سؤال واحد: كيف تتوحد الجزائر بكل مكوناتها من أجل الاستقلال؟
كانت نصيحة “محمد بوضياف”، الذي تولى رئاسة الجزائر قبل أن يجري اغتياله تسعينيات القرن الماضي، التركيز على ما يجمع.
كان دور “حسين آية أحمد”، أحد قادة الثورة، الأمازيغي الأصل، رئيسيا في إضفاء إجماع وطني على حركة التحرير المسلحة.
وكان دور “ديدوش مراد”، أحد أبطالها وهو بدوره أمازيغي الأصل، حاسما في إحباط فتنة أريد بها ضرب وحدة الجزائر، وهو صاحب شعار: “البربر عرب”.
في ذلك الوقت المبكر كان من رأي “أحمد بن بيللا” أول رئيس للجزائر المستقلة إن: “أغلب الشبان، الذين يفكرون في الكفاح المسلح، من الأمازيغ، ولو أرادوا العمل العسكري في مناطقهم لفعلوا، لكنهم يؤمنون بوحدة التراب الجزائري وأن شعبه مسلم عربي”.
كان ترشيح “بن بيللا” لـ”حسين آية أحمد” للتنسيق بين الثورة المسلحة ووسيلتها الإعلامية الرئيسية “صوت العرب”، داعيا للبحث في أسبابه.
فهو أبرز القادة الأمازيغ، ووجوده يؤكد التوحد الجزائري.
الكلام بخفة عن الأمازيغ، كأنهم مقحمون على التاريخ العربي في الشمال الإفريقي، لم يشاركوا في ثوراته وانتفاضاته ولم يؤكدوا وحدته وهويته، فيه تجهيل بإحدى الحقائق الكبرى.
إنهم مكون رئيسي في الحضارة العربية الإسلامية.
كان “طارق بن زياد” وأغلب الذين شاركوه فتح الأندلس من الأمازيغ.
نفس الأمر ينصرف إلى الأكراد الذي ينتمي إليهم “صلاح الدين الأيوبي”.
لا يعني ذلك أنه لم تنشأ حساسيات وحزازات ومخاوف من أن تفضي التفرقة العرقية إلى عرقلة مشروع التحرر الوطني في المغرب العربي كله.
وفق ما توافر من دراسات واستبيانات خفف “صوت العرب” من لهجته العروبية لخصوصية المكون الأمازيغي وتجذره في بيئته.
بطلب من قيادة الثورة الجزائرية دأبت على ترديد النداء التالي:
“من ليس بربريا ليس جزائريا”.
يتكرر النداء باللغة الفرنسية ثم بلهجة جزائرية قبل أن يختتم بشعار توحيدي آخر:
“أمازيغ.. عرب.. مسلمون.. موحدون”.
لدرء الفتنة اقترحت قيادات الثورة من الأمازيغ الإعلان عن أنهم موجودون على رأس العمل المسلح.
بَنت الإذاعة المصرية جانبا كبيرا من استراتيجيتها على مخاطبة التكوين العقيدي للجمهور الجزائري تأكيدا على ما يجمع لا ما يفرق في مواجهة العدو المشترك.
أسوأ ما جرى في مساجلات المونديال التركيز على ما يفرق، واثارة النزعات العرقية والطائفية، حتى لا تصل الرسالة التلقائية الشعبية إلى غاياتها الطبيعية إننا أمة واحدة، مصيرنا واحد، نستطيع ونقدر على تجاوز أزماتنا إذا ما صحت الرؤية وتوافرت الإرادة.
القضية أكبر بكثير من نتائج مباريات كرة قدم، أو اندفاع مشاعر جماعية.
لكل شيء أسبابه الموضوعية في النجاح والإخفاق.
هذا ما يستحق التوقف عنده بالبحث والتقصي.
ما يعنينا- هنا- الحالة الشعبية في التفاعل مع مباريات المونديال وما كشفته من حقائق أريد لها أن تختفي للأبد.
بشهادة المراسلين الإسرائيليين، الذين حاولوا أن يغطوا مباريات المونديال في قطر، لم يكن هناك أحد من المشجعين العرب مستعد أن يتحدث معهم، أو أن يستمع إلى أسئلتهم.
تأكد بالرفض الجماعي لأي تطبيع في محفل رياضي مفتوح أنه من المستحيل تماما تجاوز القضية الفلسطينية.
لا يصح أن ننسى أن نكبة فلسطين عام (١٩٤٨) كانت دافعا رئيسيا للفكرة العروبية وطلب الوحدة.
تحت الصدمة جرت مراجعات رئيسية عما جرى، وما قد يجري أفضت تداعياتها إلى ضخ دماء فوارة بالغضب والأمل معا في شرايين الفكرة العروبية.
بات اعتقادا جازما لدى جماعات عديدة ونخب واسعة أن الوحدة العربية طريقنا لتحرير فلسطين، وجرى الربط بينها وبين قضية التنمية والعدل الاجتماعي، بهذا المعنى الواسع أصبحت فلسطين قضية العرب المركزية، فكل فكرة تبدأ وتنتهي عندها.
وقد أدى تفكيك القضية الفلسطينية مرحلة بعد أخرى إلى تفكيك إحدى أقوى الروابط العربية وأخذ التحلل يضرب كل شيء.
بعد حرب أكتوبر (١٩٧٣) عملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على فصل مسارات التسوية، واعتماد الحلول الجزئية مع كل دولة على حدة لتفكيك ما يسمى بوحدة الموقف العربي.
علت أصوات- هنا في مصر- تشكك في عروبتها والمعارك التي خاضتها يوليو، وتدعو إلى الحياد مع قضايا العالم العربي.
قيل إن مصر لن تحارب حتى آخر جندي مصري من أجل فلسطين.
كان ذلك تدليسا على الحقيقة، فمصر حاربت من أجل مصر قبل أي شيء آخر.
جرى تكريس الانكسار كأنه كلمة التاريخ الأخيرة، غير أن الحقائق تعلن عن نفسها مرة بعد أخرى كما حدث على هامش المونديال، أننا أمة واحدة والهزيمة ليست قدرا
المصدر: مصر 36