يُبحر الأديب والروائي علاء الدين حسو في يَمٍ متلاطم الأمواج، يحاول من خلاله إلقاء نظرة عميقة على مكنونات الإنشغال الوطني السوري، ومهام المرحلة الآنية والمستقبلية، لجملة المتغيرات البنيانية الحاصلة في واقعنا ومستقبلنا كسوريين، متنطحين لما يمكن أن تكونه سورية المستقبل.
استطاع الكاتب عبر روايته (السفر إلى عايدة) أن يأخذنا معه في رحلة مشوقة وجميلة، لكنها لاتخلو من الألم المفعم بالأمل، كحال آننا السوري المضرج بدمائه، والهائم على وجهه، باتجاه مستقبل غير واضح المعالم، وبلا قدرة على الإنجاز، في ظل تغول النظام الفاشيستي الأسدي وعصاباته، مع حلفاء الطغيان، وأرباب نعمته، من فرس وروس وآخرين .
وأجزم أن الأديب حسو قد تمكن من الإمساك بناصية المعاناة السورية، عبر التغريبة السورية الأكثر صعوبة، والتي باتت تتماهى مع تلك التغريبة الفلسطينية الممتدة لعقود وعقود.
حيث أمسك الكاتب السيد علاء الدين حسو بتلابيب المسألة السورية، فغاص ضمن سياقاتها ومتعرجاتها، دون أن يسمح لنفسه الخروج من مسارات العمق المؤلم لها، بل كان ومع كل شخوص الرواية ممسكًا بمحددات القضية السورية، عبر شخصيات وطنية نبعت من أرض سورية، ومن بوتقة حيواتها المنجدلة بكل المتغيرات الداخلية والإقليمية.
نغوص في هذا القص الروائي الجميل فنجد أنفسنا وقد دخلنا في ملكوت الفن المبدع، الخارج من رحم المعاناة، وآهات الثكالى، وأنات المحرومين، فالمرأة لديه وطن وعشق وجمال وحلم. نعم هو الحلم الذي نتساوق معه فلا نصل، ولعل الحلم يبقى حلمًا، لكن لامناص من الأحلام حتى لو كانت سرابًا كما الحلم والطريق إلى عايدة، وحتى لو كان القبض على الحلم صعب المنال، لأنه الخيال الذي يظل خيالًا، لكنه أبدًا (مع الكاتب) لايريده إلا أن يتحقق، حتى لو كان الأمل بعيدًا.
يسير بطل الرواية وراء حلمه الذي يعشق، لكنه لايتنازل من أجل حلمه، عن بعض محددات قيمية وأخلاقية، طالما تربى عليها واقتنع بها وعمل من أجلها. ليست حيوات الناس بالنسبة للبطل تجارة أو مصالح أنوية أو لعب بالعواطف، ولا قفزًا إلى المجهول، بل كد وعرق وجهد وإيمان، يقترب من التصوف ويلاقحه. وهنا لايبدو أن الكاتب كان ليس بعيدًا في ماهية أفكاره عن العرفان والتصوف، بل لعله منبت من بنيانه وعمقه الروحي المرتبط بالمجتمع السوري المتدين، والذي يمسك بالإسلام كمسيرة ومسار حياة مجتمعية، وليس حالة عقدية فقط .
لاغرو أن المضي مع الكاتب في سرده القصصي يأخذ المرء إلى حيث يريد أو لايريد، ببنما الاستمرار في الغنوصية الفكرية لديه باتت واضحة وذات ملموسية ممارسة، فهو في روايته هذه ينتمي إلى مجتمع مديني وريفي في نفس الآن، وما علامات التجلي في بنيان الإنشغالات المجتمعية والفن الموسيقي والرسم إلا انبثاقات هيامية وفكرية معرفية في الوقت ذاته تعبر عن العمق الداخلي الذي لايماري فيه أحدًا.
لكن الكاتب ومن خلال الخطاب العفوي لشخوص الرواية يمرر بين الحين والآخر أفكاره الأيديولوجية وانتقاداته الذاتية وأمواجه الفكرية العالية، في كثير من الأوقات حتى يخال المرء نفسه أمام تدفق معرفي، يختلف معه، ويلتقي، لكنه لايملك إلا أن يحترمه.
الجذر الوطني السوري يتمظهر في غير مكان من الرواية والتاريخ الحديث للسوريين، لايملك الكاتب إلا أن يعرج عليه على طريقته، من دمشق إلى حماة ورجالاتها الوطنية، إلى حلب وشمالها وأشخاصها المندمجين في الواقع السوري الفواح، وطنية وحيوية ورفضًا للظلم والقهر الذي أهل سورية من المستعمر الفرنسي ثم من العسف والقهر لنظم الانقلابات العسكرية، التي كان أسوأها وأكثرها فجورًا انقلاب حافظ الأسد، الذي مازال الشعب السوري يعاني ويقاسي من تبعاته، حتى يومنا هذا، وهو مادفع السوريين إلى الانتفاض الثوري عليه.
وكما تقول شخوص الرواية (هي ملاحظات وتجارب والناس لا حصر لهم فهم كالإبهام لكل فرد بصمته، لايوجد حالة تكرر أخرى، مهما بلغت درجة التشابه) وهكذا كانت بصمة علاء الدين حسو مميزة وغير شبيهة بأحد، ولها دلالاتها كما (دلالات الشامة) وبواعثها من جسم الحبيبة.
تقدم الرواية عبر السرد القصصي معلومات ضرورية عن عينتاب والمطارات والمسافات، وقصف النظام السوري للناس في حلب، وعدد الشهداء والجرحى، ثم لاتنسى معلومات عن فوز رئيسة وزراء بريطانيا (تيريزا ماي) والكثير من المعلومات التي حفلت بها الرواية.
تلاقح الرواية أيضًا بتوصيفات مبدعة واقع الناس أيام حكم الأسد الأب والابن ( تحولت بعد ذلك سورية إلى دولة تخيم عليها غيمة عملاقة، منعت عنها رؤية النجوم وقت السحر، وحجبت القمر، ومنعت الطيور الاستحمام تحت ضوئه، لقد جففت تلك الغيمة الداكنة الينابيع فلم يعد هناك شيء اسمه سورية بعد ذلك).
أصرت سردية الرواية على الإطلالة المؤلمة فوق وبين جوانح المعاناة للسوريين حيث ( لا يمكن أن ينسى ذلك اليوم، وهو يرى سكان القرى المدنيين، وهم يرحلون على عرباتهم وسياراتهم ودراجاتهم النارية يحملون مايمكن حمله، لتبدأ سلسلة متتالية من النزوح والهجرة واللجوء).
في وصفه للرحلة الهيامية إلى اسطنبول كانت مقولات وجماليات كلام (عايدة) ماثلة أمام البطل دومًا (كل طائرة هي بحر من بحور الشعر، وكل صف هو بيت شعر، وكل شخص هو تفعيلة، وحين يجلس شخص في مكان غير مكانه، يحدث الخلل، فالحالم يفضل النافذة في الطائرة، والعملي يفضل المقعد الذي بقرب الممر، أما الوسط فهو المفضل لدى المتردد المذبذب).
تحاول الرواية إعادة إنتاج الفكر المستقبلي الهادف، ضمن صياغات هي أقرب للحكمة وبيت الحكمة، ولخطوط ترسم قادم الأيام (وكم من إبداع يظلم في وقته ثم تراه يطفو مثل كنز مدفون لايقدر ثمنه).
كما لم تخل الرواية من أيقونات القص الجميل والمبدع حين تقول ” وكان مثل طفل يتلصص على جنية تغتسل وقت الشروق). أو عندما قال ” لحقها المستشار بصمت وبطء كمخبر سري).وكذلك قوله ( كان صوتها مبحوحًا دافئًا كنهار ربيعي) ، و( أنا لحن موسيقي مسفوح على الأرض ينتظر من يلمه ويعزفه).أو ( الميثولوجيا القديمة تشبِّه المرأة بالورد، وما الزهور إلا صبايا قتلهن الحب). وأيضًا (كان يراها في صورة أخرى مثل الصوفي الذي يرى في خلع الخفين خلعًا وطردًا للأفكار المانعة للوصول إلى الحضرة).
في هذه الحكاية يغوص الكاتب في الجوانية حيث (كان الالتحام عظيمًا) لكنه كان يرى الأشياء في أماكن أخرى( مثل طحالب متطفلة على صخور بازلتية في شاطيء مهجور).
الإبحار في هذه السردية العميقة كان يتمظهر في مواجهة الفكر الدكتاتوري وفي أحلام بناءات دولة الحق ةوالقانون، ( أصعب شيء في الدكتاتورية أن يحملوك على أن تقول مالا تؤمن به). و(القضية لم تعد حكرًا على السياسيين، إنها مسألة بلد، وانتقام من عصابة قضت على كل نفس وقفت ضدها).
وتنتهي الرواية إلى الانشغال في ماهية التطهر والطهرانية وصولًا إلى استمرار الحلم الذي لاينقطع أبدًا. ( حين بدأ يسكب من الماء الحار على جسمه، شعر كأنه سفينة مثقوبة على وشك الغرق تحاول البقاء على سطح الحياة، وكان له في كل قطرة بلسمًا شافيًا لجرح ملتهب).
من حيث أنه لايمكن للمرء أن يتوقف عن طرح الأسئلة الفلسفية المعرفية المهمة، فالحياة تواصل واستمرار وعطاء وحيوية لاتضب أبدًا. وعلى هذا الأساس والهدي تُرك السوري يعيش أحلامه وخيالاته التي لابد أن تتحقق يومًا عاجلًا أو آجلًا.
المصدر: نداء بوست