الجدل السياسي والدستوري يشكل مادة لتعبئة الفراغ اللبناني القاتل. لا يمتلك اللبنانيون سوى المناظرات السياسية حول تفسير الدستور، وماهية نصاب عقد جلسات انتخاب الرئيس، وعدم ختم محضر الدورة الأولى وإبقائه مفتوحاً، ليكون النصاب في الدوة الثانية هو النصف زائد واحد.. وغيرها من العناوين والشعارات المطروحة، التي تصل إلى “اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة”، أو تقود إلى عقد مؤتمر وطني، غايته تفسير الدستور واتفاق الطائف، وتوضيح الكثير من النقاط فيه، بالإضافة إلى البحث في كيفية تطبيقه، ولا سيما ما لم يطبق منه.
استذكار الطائف
يأخذ السجال أيضاً طابعاً إسلامياً مسيحياً، وهو كان قد بدأ في جلسات انتخاب رئيس للجمهورية، حين طالب عدد من النواب باعتماد نصاب النصف زائد واحد، فيما رفض الرئيس نبيه برّي ذلك، معتبراً أن هذا الأمر سينعكس سلباً على المسيحيين.
في استذكار تاريخي لمرحلة توقيع اتفاق الطائف، ثمة قناعة مسيحية بأنه لم يكن من خيار بديل غير السير في هذا الاتفاق. وهو ما عاد وأكده المطران بولس مطر خلال تمثيله البطريرك الماروني بشارة الراعي في مؤتمر الطائف، الذي نظمته السفارة السعودية في قصر الأونيسكو قبل أسابيع. إذ قال إن البطريرك الراحل نصر الله صفير وغيره من المسيحيين ساروا بالطائف لقناعتهم أنه السبيل لإنهاء الحرب، ولأن لا بديل غيره. في المقابل كانت نظرة المسلمين تنطوي على تعديل موازين القوى والتمسك بالمناصفة. ويقول المتمسكون بالطائف حالياً إن الحفاظ عليه هو حفاظ على مكتسبات المسيحيين، لأن أي مؤتمر تأسيسي جديد من شأنه أن يأكل من صلاحيات المسيحيين ودورهم.
حوار وطني مؤجل
هنا يعود السجال حول موقف البطريرك الماروني بشارة الراعي، حول اعتماد الأكثرية المطلقة في الدورة الثانية، مقابل موقف رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي يركز على التوافق المفترض أن يؤمن نصاب الثلثين، لأنه تاريخياً وفي كل الاستحقاقات الرئاسية، كان التشديد من قبل كل القوى على حضور ثلثي أعضاء المجلس في الجلسة الانتخابية. وسط كل هذه السجالات، هناك قناعة لبنانية لدى كل القوى بأن الطائف يحتاج إلى توضيحات، وإلى تطبيق ما لم يطبق منه، وهذا لا يمكن حصوله إلا من خلال عقد مؤتمر وطني. لكن الأهم، هو فكرة توافق اللبنانيين على هذه المباحثات، بعد إنجاز الاستحقاق الرئاسي وتشكيل الحكومة الجديدة، لأن أي طرح قبل ذلك سيؤدي إلى فرض ما يسمى بالمؤتمر التأسيسي.
على هذه القاعدة يحاول رئيس مجلس النواب نبيه برّي أن يلملم كامل الأوراق، أولاً من خلال إعطاء فرصة عقد الجلسات حتى رأس السنة، على الرغم من تأكده بأن الفشل سيكون نتيجة حتمية، إلى جانب ذلك، سيشرع برّي بإجراء اتصالات لازمة لتعبيد الطريق أمام حوار أو تشاور بين القوى اللبنانية المختلفة. الغاية من وراء هذا الحوار هو البحث في الاستحقاق الرئاسي وكيفية إنجازه، وبما يليه أيضاً حوار حول عقد مؤتمر وطني برعاية “العهد” الجديد، للبحث في ما لم يطبق من الطائف، خصوصاً اللامركزية الإدارية الموسعة، وتشكيل مجلس شيوخ، وتشكيل هيئة إلغاء الطائفية السياسية، بالإضافة إلى البحث في مسائل أخرى متعددة كقانون الانتخاب وغيرها من الملفات الاقتصادية والمالية.
تعبئة الوقت
يعرف اللبنانيون أن لا اهتمام دولياً بهم في هذه المرحلة، نظراً لسلّم الأولويات الإقليمية والدولية. لذلك لا يمتلكون غير الجفاف السياسي واختيار آليات لتعبئة الوقت وتمريره، بانتظار حصول تطورات تحرك الركود. إلا أن الصراع الأبعد من ذلك، يرتكز على التنافس حول الحصص التي تسعى كل قوة إلى الاحتفاظ بها لدى مجيء لحظة التسوية. هنا ثمة يقين لدى اللبنانيين أنهم سيكونون أمام احتمال من اثنين، إما توفر ظروف مؤاتية لإعادة إنتاج السلطة وتركيبتها، على أن يحصل الاتفاق فيما بعد حول كيفية متابعة تطبيق الطائف. وإما استمرار الفراغ والشغور على وقع الصراعات المتوالية، وصولاً إلى الانهيار الشامل الذي من شأنه أن يعيد طرح كل التركيبة اللبنانية على طاولة البحث. وحينها لا أحد سيكون قادراً على ضمان الالتزام بالطائف، أو أنه سيكون مهدداً بطروحات مماثلة للمؤتمر التأسيسي أو لتغيير الدستور وتركيبة النظام.
المصدر: المدن