الخلافات العربية – العربية معروفة، لكن القمم العربية لا تُظهرها، بل تبذل ما تستطيع لطمسها والسكوت عنها كأنها غير موجودة، مع أنها قائمة ومترسّخة، وبعض منها صار مزمناً ومستعصياً. والقاعدة في القمم أنها تبحث عن التوافقات، وتحاول الإيحاء بأنها عموماً أكبر وأكثر من الخلافات، ليكون ممكناً إصدار البيان الختامي من دون إشكالات تذكر.
قمة الجزائر لم تخرج عن هذا الإطار، ومع أن المشاركين تغنّوا بـ”لمّ الشّمل” الذي اختارته الدولة المضيفة شعاراً للقمة، إلا أن “الدبلوماسية” جعلتهم يتناسون أنهم في دولة قررت قيادتها قبل عام ونيّف قطعاً كاملاً للعلاقات مع المغرب، الدولة المجاورة لها، رافضةً دعوات الملك محمد السادس إلى الحوار، ومستكملةً نهج الإغلاق الكامل للحدود البرّية منذ عام 1994. وخلال القطيعة لم يُفتح المجال الجوي بين البلدين إلا لإيصال الدعوة إلى القمة ثم لتمكين وزير الخارجية ووفده من الوصول، كذلك الوفد الإعلامي الذي وصل فعلاً إلى المطار ثم اضطرّ معظمه للعودة إلى الرباط. وفي سياق ما اعتُبر “استفزازات”، لم يبدُ ممكناً حضور العاهل المغربي، وضاعت فرصة ثمينة لفتح صفحة جديدة للمّ الشّمل بين الجارين العربيين.
إلى قاعدة التكتّم على الخلافات لتعذّر التدخّل فيها وحلّها عربياً، برزت قاعدة أخرى مبرّرة وهي أن الطريقة المثلى للهروب من الانقسامات تكمن في التركيز على الملف الفلسطيني. أما التبرير المقبول فهو أن جامعة الدول العربية قامت أساساً لمتابعة القضية الفلسطينية والتفاعل مع تطوّراتها، غير أن الإفشال الإسرائيلي (- الأميركي) للمفاوضات مع الفلسطينيين وجّه ضربة قوية لـ”السلام” الذي تبناه العرب كـ”خيار استراتيجي” (قمة عمّان 2001)، ثم لـ”مبادرة السلام العربية” (قمة بيروت 2002)، وما حصل منذ 2007 تحديداً أن الإجماع العربي على الشأن الفلسطيني أصبح ملتبساً، أولاً بسبب الانقسام بين الضفة الغربية وغزّة بعد انقلاب “حماس” على السلطة الفلسطينية، ثم بسبب دخول إيران إلى غزة وإمساكها بالملف الفلسطيني عبر “حماس” وغيرها من الفصائل. لم تفلح مبادرات مصر والسعودية وقطر لإجراء “مصالحة” فلسطينية، أما الجزائر التي خشيت من “مفاجآت” عربية فوجدت في الورقة الفلسطينية وسيلة آمنة لإنجاح قمتها، لذا جمعت الفصائل مسبقاً وحصلت على “وثيقة” استندت إليها كعنوان لـ”نجاح القمة”. غير أن أحداً من الفلسطينيين لا يعتقد أن مصالحةً ستحصل.
عدا أن قمة الجزائر مضت من دون مشكلة، كان هناك عنوان آخر لـ “نجاحها”: “التوافقات” حول أزمات ليبيا وسوريا واليمن ولبنان والعراق، وحتى بالنسبة إلى سد النهضة، وهي في نظر من توصّلوا إليها “إنجازات”، نظراً إلى حدّة الحساسيات والخلافات وتداخلها. أما هل يمكن أياً من هذه “الإنجازات” أن يغيّر شيئاً فهذه مسألة أخرى. إذ لا دور عربياً فاعلاً ومؤثراً وحاسماً في أيٍّ من تلك الأزمات، بسبب أطراف خارجية دولية وإقليمية متدخّلة فيها. ورغم أن مصطلح “التضامن” كان الأقل استخداماً في هذه القمة، ليحلّ محله “التوافق” على الصياغات، إلا أن “إعلان الجزائر” نص على “التضامن الكامل مع الشعب الليبي ودعم الجهود الهادفة إلى إنهاء الأزمة الليبية من خلال حل ليبي – ليبي”، لكن الوقائع أثبتت استحالة مثل هذا الحل بسبب التدخّلات التركية والروسية تحديداً. وفي هذا البند، كما في تلك المتعلقة بسوريا والعراق ولبنان، يُلاحظ أن “الإعلان” لم يشرْ إلى “التدخّل الخارجي” واضطرّ لذكره فقط في بند الأزمة اليمنية من دون تحديد الجهة المتدخّلة، أي إيران. وكان الموقف من الأزمة السورية متميّزاً بنصّه على قيام الدول العربية بـ”دور جماعي قيادي” في جهود التوصّل إلى “حل سياسي”، ولدى الاستفهام لم تستطع المصادر توضيح ماهية الدور الجماعي القيادي، فيما خمّن أحدها أن هناك “فكرة” لدى إحدى الدول (الجزائر؟) لكن لم يُفصَح عنها.
أكثر ما أثار الجدل والخلاف في اجتماعات وزراء الخارجية كان الموقف العربي المطلوب إزاء “التدخلات الخارجية”، وساهم النقاش في رسم معالم خريطة سياسية آخذة في التبلور داخل الجامعة العربية، ليتبيّن أن ثمة “لوبي” لـ “التدخلات” التي تحصل بمساندة علنية أو مكتومة أو حتى قسرية من دول عربية. فالنماذج باتت واضحة ولم تعد سرّية، وعلى سبيل المثال جرى تجهيل التدخّل التركي في ليبيا لئلا يثار التدخّل الروسي (رسالة الرئيس بوتين إلى القمة تعد دول الشرق الأوسط وأفريقيا بـ”دور مهم” في نظامه الدولي الجديد)، إذ رفضت الجزائر وقطر إدانة التدخّل التركي في ليبيا، وانضمّت إليهما جيبوتي والصومال، بل تحفظت عنها ليبيا نفسها (حكومة طرابلس). ومع أن القمة تراعي دائماً قرارات الأمم المتحدة، إلا أنها تجاهلت طلب مجلس الأمن سحب الأسلحة وانسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا.
وعندما يتعلّق الأمر بإيران يتوسّع هذا “اللوبي” ليضمّ أيضاً العراق ولبنان، وهكذا رُفض طلب المغرب إدراج نقطة تسليح إيران جبهة “بوليساريو” بالطائرات المسيّرة واستهدافها الأراضي المغربية على غرار ما يحصل في الهجمات ضد السعودية والإمارات، وكانت الحجة أن هذه المسألة سبق أن أثيرت في 2018 ونفتها الجزائر وإيران و”بوليساريو”، لكن معلومات مؤكدة تفيد بأن مقاتلين صحراويين تلقوا تدريباً على استخدام المسيّرات في لبنان وسوريا… وقد جُبه بالرفض أيضاً اقتراحٌ للإشارة إلى إحباط أجهزة السعودية والبحرين “مخططات إرهابية” وإلقائها القبض على عناصر مكلفة بالتنفيذ، واقتراحٌ آخر لتسمية جماعة الحوثيين في بند إدانة إطلاق الصواريخ والمسيّرات على السعودية والإمارات، واقتراحٌ ثالث يدعو إلى تبنّي تصنيف الحوثيين و”حزب الله” كـ”منظمة إرهابية”. وفي المسألة الأخيرة حاججت الجزائر ودول أخرى بضرورة الأخذ فقط بتصنيف الأمم المتحدة، ما أعطى “حصانة” أممية للميليشيات الإيرانية.
وهكذا انتهت التجاذبات إلى اعتماد صيغة عائمة وعمومية تقول بـ”رفض التدخّلات الخارجية بكل أشكالها في الشؤون الداخلية للدول العربية” من دون تحديد، و”التمسّك بمبدأ الحلول العربية للمشكلات العربية” عبر “تقوية دور الجامعة العربية في الوقاية من الأزمات وحلّها بالطرق السلمية”، إلى جانب “العمل على تعزيز العلاقات العربية – العربية”… كل عبارة تنطوي ضمناً على ما يفرغها من أي معنى، فـ”رفض التدخّلات” عنى هنا قبول بعض منها ضد بعضٍ آخر بحسب موازين المصالح، و”الحلول العربية” إما جُرّبت (سوريا) ولم تنجح أو أنها لم تُطرح أساساً (العراق ولبنان) أو أنها بدأت واستمرّت مدوّلة (اليمن وليبيا). أمّا “تقوية دور الجامعة” فهو مطلب مزمن لم يُستجَب، وأمّا “تعزيز العلاقات” فيمثّل أمنية الأماني لكن استحالته هي التي تصنع “المشكلات” وتفتح الأبواب للتدخّلات الخارجية.
المصدر: النهار العربي