في هذه الأيام، تبدو أجواء موسم قطف ثمار الزيتون التي يعيشها الفلسطيني السبعيني “إبراهيم صلاح” وعائلته رائعة للغاية، فبينما هو يستظل بشجرة كبيرة في أرضه الزراعية في قرية “فرعتا” التي تتبع محافظة “قلقيلية”، أوكل الرجل لأبنائه مهمة فرز حبات الزيتون باعتباره عملا قليل المشقة. في غضون ذلك، جلست نساء العائلة تطهو “قلاية البندورة” وتُحضِّر الشاي على الحطب، بينما تسلَّق الشباب الأغصان لإسقاط حبات الزيتون. وفي تلك الأثناء، شرد ذهن الحاج إبراهيم نحو أيام موسم الزيتون العام الماضي، التي حوَّلها مستوطنو “حفات جلعاد” إلى كابوس مرعب حين سمَّموا بئر مياه الشرب الذي يمتلكه.
يحتاج الحاج إبراهيم إلى تنسيق مسبق مع جيش الاحتلال من أجل الوصول إلى أرضه، ولم يحظَ وعائلته بموسم زيتون هادئ منذ العام 2002. وقد تجاهلت حكومة الاحتلال أكثر من 27 شكوى تقدم بها للإبلاغ عن الاعتداءات التي يتعرض لها من قبل المستوطنين، ورغم أن تلك الاعتداءات تتنوَّع ما بين تدمير وحرق الأشجار المعمرة وسرقة المحصول وتدمير شبكات المياه، فإن أكثر ما يرعب الحاج إبراهيم هو تكرُّر عملية تسميم المياه، ويشاركه هذا الخوف الكثير من الفلسطينيين، مثل رعاة الغنم الذين كثيرا ما يصادفون حنطة خضراء تحت أقدام ماشيتهم سرعان ما يُكتشف أنها سامة ووضعها المستوطنون بأنفسهم، وهي مخاوف يتشاركها أيضا سكان قرية “مَدَما” (تتبع محافظة نابلس) الذين اكتشفوا مرارا قيام مستوطني “يتسهار” بإلقاء مواد سامة داخل نبع يسقيهم؛ ما أصاب أطفال القرية ذات مرة بالتهابات الكبد.
بمراجعة سريعة للتاريخ، يظهر لنا أن استخدام السموم بوصفها سلاحاً بيولوجياً ضد “الأعداء” الفلسطينيين والعرب هو نهج إسرائيلي قديم، وليس مستحدثاً كما يبدو للوهلة الأولى. ففي الأيام المبكرة التي سبقت تأسيس الدولة العبرية، قام مؤسس الدولة “ديفيد بن غوريون” وحاشيته السياسية والعسكرية بتنظيم عمليات استُخدِم فيها السلاح البيولوجي ضد الفلسطينيين والعرب. وعلى مدار العقود الماضية، لاقى تنديد الفلسطينيين والمنظمات الحقوقية لهذه الجرائم المستندة إلى وثائق بريطانية وعربية ووثائق لدى الصليب الأحمر المصير نفسه الذي لاقته شكاوى الحاج إبراهيم.
من جهتها، لطالما زعمت إسرائيل بأن هذه الاتهامات هي “محض أكاذيب اخترعها الإرهابيون والمعادون للسامية”. ومع ذلك، يبدو أن الوثائق الرسمية والأدلة الموثقة التي خرج بها مؤرخون إسرائيليون بارزون مثل “بِني موريس” و”بنيامين كِدار” مؤخرا، كشفت النقاب عن كل ما حاولت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية طمس آثاره منذ عقود فيما يتعلق بالحرب البيولوجية ضد الفلسطينيين التي اعتمدت بالأساس على تسميم آبار المياه في القرى العربية إبَّان النكبة أو “حرب الاستقلال”، كما يسميها الإسرائيليون.
البنية التحتية للسلاح البيولوجي الإسرائيلي
تبدو العقلية التي يفكر بها المستوطنون الإسرائيليون اليوم مشابهة تماما للطريقة التي فكر بها قادة الاحتلال خلال الأيام الأولى لتأسيس دولتهم الغاصبة على أرض فلسطين. فحين خُطِّط لإقامة وطن لليهود في تلك المنطقة المحاطة بـ”الأعداء” من جميع الجهات كما يحلو للإسرائيليين وصفها، فكَّر “بن غوريون” في وسيلة تحمي هذا الكيان وتحل المشكلة الأمنية الفريدة التي تحيط به، وأصدر حينها تعليماته إلى مسؤول بالوكالة اليهودية في أوروبا لتجنيد علماء يهود من دول أوروبا الشرقية يمكنهم تعزيز قدرة إسرائيل على “العلاج الجماعي والقتل الجماعي للبشر على حد سواء”.
بالفعل، نجحت جهود “بن غوريون” في تشكيل فريق مُنظَّم من المستشارين العلميين لعب دورا مركزيا في إنشاء فيلق العلوم التابع لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وهو فرع عسكري للبحوث والتطوير يعرف بالاختصار العبري “هِمِد (HEMED)”. ويؤرَّخ لبدء عملية البحث عن الأسلحة البيولوجية في 18 فبراير/شباط 1948، عندما كلَّف “يغال يادين”، كبير مسؤولي العمليات في ميليشيا الهاغاناه اليهودية، “ألكسندر كينان”، زعيم ميليشيا طلابية صغيرة من كلية الطب بالجامعة العبرية، بإنشاء خطط لتطوير المعرفة بالأسلحة الكيميائية والبيولوجية وكيفية البدء بتصنيعها. وفيما بعد ضغط “كينان” على “بن غوريون” لإنشاء الوحدة البيولوجية “هِمِد بيت (HEMED BEIT)” التي أحاطت بها السرية المُشدَّدة، وعُزِلَت ماديا وتنظيميا عن بقية أقسام “هِمِد” الأصلية.
بحلول العام 1952، تحولت تلك الوحدة إلى نواة تأسيس لمعهد إسرائيل للأبحاث البيولوجية (IIBR) الذي ورث القيادة والبنية التحتية المادية لوحدة “هِمِد بيت”. وقد تولَّت شعبة البحوث التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية إدارته وتمويله، وحدَّدت مهامه في تطوير أنظمة الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، مثل تطوير الجراثيم والمواد الكيميائية القاتلة والأمصال المضادة للبكتيريا والسلاح الكيماوي. وحسب ما تظهره البيانات، فإن المعهد اهتم في بداياته بالبحث في بكتيريا الطاعون، وبكتيريا التيفوس، والسموم المعوية، وداء الكلب (السُّعار)، وبكتيريا الجمرة الخبيثة، وغيرها.
ظل التحوُّط ضد احتمال أن تطغى الجيوش العربية في يوم من الأيام على جيش الاحتلال حاضرا دائما في مسيرة تطوير السلاح البيولوجي الإسرائيلي، ففيما تجهَّزت دولة الاحتلال عام 1955 لاحتمالية الحرب مع مصر، فإنها احتاجت من المؤسسة العسكرية إلى إنتاج “قدرة غير تقليدية” للرد على أي هجوم يستهدف “الشعب الإسرائيلي”، وهو ما دفعها للمضي قدما في برنامجين مستقلين لتطوير الأسلحة النووية والبيولوجية. وفي حين حظى البرنامج النووي الإسرائيلي بقدر ولو قليل من الضوء، ظل الأدلة المتاحة حول برنامجها البيولوجي شحيحة للغاية، لعل أهمها تقدير استخباراتي سري صدر في وثيقة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عام 1983، أكد رصد أقمار التجسس الأميركية منشأة محتملة لإنتاج غاز الأعصاب ومنشأة لتخزينه في ديمونة بصحراء النقب.
تنوه الوثيقة الأميركية إلى أن هناك عوامل تقود إلى الاعتقاد أن إسرائيل امتلكت مخزونات مناسبة من غازات الأعصاب وغاز الخردل وغازات مكافحة الشغب، مع أنظمة الإطلاق المناسبة لاستخدامها. تشير الوثيقة أيضا إلى أن الولايات المتحدة بدأت مراقبة النشاط الإسرائيلي الكيماوي والبيولوجي منذ أوائل السبعينيات، مؤكدة الإسرائيليين سرَّعوا جهودهم البحثية لتطوير السلاح الكيميائي بعد نهاية حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973 واختبروا تلك الأسلحة في يناير/كانون الثاني 1976. وذكرت أن إسرائيل بنت مخزونها من الأسلحة البيولوجية والكيماوية لتكملة ترسانتها النووية، لا سيَّما في المعهد الإسرائيلي السري للبحوث البيولوجية التابع للحكومة الإسرائيلية في “نيس زيونا”، الواقعة على بعد 20 كيلومترا إلى جنوب تل أبيب.
جاءت حرب الخليج عام 1991 وتداعياتها لتدفع نموا هائلا للبنية التحتية الدفاعية لأسلحة الدمار الشامل في إسرائيل، وكرَّس الاحتلال حينها تمويلا كبيرا لتطوير قدراته الدفاعية استجابة لتهديد الأسلحة الكيماوية والبيولوجية العراقية. بيد أنه مع زوال التهديد العراقي إثر سقوط نظام صدام حسين، تحوَّل التخوف الإسرائيلي نحو ما سُمّي بـ”الإرهاب البيولوجي” الذي انطوى على احتمالية أن تهاجم تنظيمات مسلحة مثل القاعدة وحزب الله دولة الاحتلال، ومن أجل ذلك أجرت تل أبيب سلسلة من عمليات محاكاة الإرهاب البيولوجي والإرهاب الإشعاعي للتأكد من قدراتها على التصدي لهذا النوع من التهديدات.
وعلى عكس تأكيدات قادة الاحتلال، فإن القدرات البيولوجية الإسرائيلية لم تظل حبيسة مراكز الأبحاث ومنشآت التخزين والمناورات التدريبية، ولكنها استُخدمت على نطاق واسع منذ السنوات الأولى من عمر الدولة العبرية. ففي 19 مارس/آذار 1948، وبينما تجهَّز رئيس الوزراء المستقبلي “ديفيد بن غوريون” للحصول على دعم دولي لقرار تقسيم فلسطين رقم (181) الصادر بتاريخ 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، صُعق الرجل بموافقة مجلس الأمن على مشروع قرار يلغي التقسيم لخطورته على المنطقة. وفي رد انتقامي على هذا القرار، أعلن بن غوريون -بوصفه رئيس الوكالة اليهودية آنذاك- أن إنشاء الدولة اليهودية المستقلة لن يقوم على أساس قرار التقسيم، وإنما على أساس التفوق العسكري للتشكيلات العسكرية اليهودية.
بعد مرور أسبوعين على صدمة “بن غوريون”، أطلق الصهاينة عملية سرية لتسميم آبار المياه في قرى عربية شتى، واتسع نطاق العملية جدا حتى عُرِفَت باسم “أَلقِ خبزك”، وهو اسم مأخوذ من آية في سفر الجامعة (11:1) ويعني: “تبرَّعْ بخبزك؛ لأنك سوف تستعيده آجلا أم عاجلا”، أي كن كريما وسيعود لك هذا الكرم بالنفع، وقد سُمّيَت العملية بذلك الاسم -للمفارقة- في إشارة إلى إلقاء السُّم في الآبار. وكان الهدف منها هو منع العرب من العودة إلى قراهم التي هجَّرتهم منها العصابات الصهيونية.
في البداية، أُوكل أمر تسميم الآبار إلى جنود من لواء “هارئيل”، وهو لواء احتياط لعب دورا حاسما في حرب 1948، ثم انتقل هذا الدور إلى أعضاء القسم العربي في وحدات “البلماح” (أول وحدة صهيونية مستعربة)، بينما أنتج السمومَ أعضاءُ “هِمِد بيت” برئاسة “ألِكس كينان”، والذي كان تابعا للعصابة الصهيونية المسلحة “الهاغاناه” كما أشرنا.
بدأت العملية على محور بين القدس وتل أبيب، ثم توسَّعت نحو عكا في الشمال وغزة في الجنوب، ودخلت قرى ومدن أخرى في إطار العملية، مثل أريحا وبئر السبع وقرية “عيلبون” الفلسطينية المسيحية في الجليل والقرى العربية للبدو وغيرها. وبعد احتلال حيفا في 23 أبريل/نيسان 1948، جاء دور مدينة عكا، فلم يُفلح إغراق المدينة بوابل من القنابل ليل نهار على يد العصابات الصهيونية في استسلامها، إذ صدَّت جدرانها العصية على الاختراق العدوان، ومن ثمَّ أتى دور استخدام السلاح البيولوجي عبر تسميم إمدادات المياه التي أتت إلى عكا من قرية “الكابري” الواقعة إلى شمالها، وذلك بحقن القناة المائية بالتيفوئيد في نقطة وسيطة تمر عبر المستوطنات الصهيونية. وإثر هذه الجريمة أصيب أهل عكا بأمراض خطيرة، ومات عدد غير معروف منهم. وكما أخبرنا المؤرخ الفلسطيني “سلمان أبو ستة” الذي جمع سجلات الصليب الأحمر في جنيف، انتقلت العدوى إلى السكان بسهولة، كما أصيب جنود بريطانيون نُقِلوا إلى مستشفى بورسعيد المصرية للعلاج، وقد أفضى تسمم إمدادات المياه إلى انهيار المدينة وإخلاء سكانها ثم احتلالها.
فتح استسلام عكا بواسطة استخدام السلاح البيولوجي شهية العصابات اليهودية لمحاولة تكرار الأمر في مناطق أخرى، فبعد أسبوعين فقط، حاولت هذه العصابات استخدام السلاح البيولوجي مجددا ضد غزة، وذلك عندما كُلِّف جنود صهاينة من وحدات “البلماح” بالتوجه نحو تجمعات اللاجئين الفلسطينيين والجنود المصريين في شمال غزة، وقد ارتدى هؤلاء زي العرب، وحملوا قارورة مياه تحتوى على سائل ممتلئ بجراثيم التيفوئيد والدوسنتاريا، وحاولوا تفريغ محتوى القارورة في الآبار الواقعة شمال غزة، لكن القوات المصرية تمكَّنت من كشف أمرهم وأعدمتهم فيما بعد.
لم تقتصر خطط إسرائيل لنشر السموم البيولوجية على الأراضي الفلسطينية وحدها، حيث شملت هذه الخطط أهدافا خارج فلسطين مثل القاهرة وبيروت. وقد أشار المؤرخان “بِني موريس” و”بنيامين كِدار” إلى وثيقة عثرا عليها في أرشيف جيش الاحتلال الإسرائيلي يعود تاريخها إلى سبتمبر/أيلول 1948، وتؤكد أن الدبلوماسي الإسرائيلي السابق “آشر بن نَتان” -وبحكم وجوده في باريس- التقى في صيف عام 1948 بضابط المخابرات “بنيامين جيبلي” وأعطاه “كبسولة لتسميم آبار المياه في القاهرة”، لكن الخطة ألغيت وتخلص “بن نَتان” من الكبسولة بإلقائها في مياه الصرف الصحي.
خطّط الصهاينة أيضا لاستهداف الأردن بالسلاح ذاته، إذ عمل وزير دفاع الاحتلال الأسبق “موشيه ديان” على نقل السلاح البيولوجي إلى هناك، بعدما سلَّمه علماء يهود أنابيب تحتوي على بكتيريا التيفوئيد من أجل تسليمها إلى مرؤوسيه، وقضت التعليمات بصبها في آبار المياه قرب أريحا حيث انتشر الجيش الأردني، وفي قرى منطقة القدس حيث دارت أعنف المعارك، لكن أحد الأنابيب انكسر فأصيب نجل ديان “عاصي” (3 سنوات) ثم مرض عدة أيام.
واصلت إسرائيل استخدام السلاح البيولوجي ضد الفلسطينيين والعرب، ولم تستجب المنظمات الدولية لتقارير فلسطينية أكَّدت وقوع جرائم بيولوجية، مثل التقرير الذي قدمته الهيئة العربية العليا (الفلسطينية) إلى الأمم المتحدة في 22 يوليو 1948، وهو تقرير اتَّهم اليهود بشن حرب إبادة جماعية ضد العرب من خلال استخدام البكتيريا والجراثيم التي تم تطويرها في مختبرات مخصصة، كما اتَّهم التقرير اليهود بنشر الكوليرا في مصر وسوريا عامي 1947-1948.
بيد أن التوظيف الإسرائيلي للأسلحة البيولوجية لم يقتصر على عمليات القتل الجماعي، لكنه تعداها إلى الاغتيالات الفردية. وقد سُجِّلت أول عملية اغتيال إسرائيلية بالأسلحة البيولوجية ضد القيادي الفلسطيني “وديع حداد”، الذي سُمِّم بعد عام من مشاركته المزعومة في تدبير “عملية عنتيبي” الشهيرة (عملية اختطاف رهائن يهود بغرض مبادلتهم مع أسرى فلسطينيين في رحلة جوية بين باريس وتل أبيب عام 1976)، وذلك بواسطة “شوكولاتة بلجيكية” أوصلها له عملاء بالموساد الإسرائيلي. ولا ننس هنا الإشارة إلى محاولة الاغتيال الشهيرة لرئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس خالد مشعل عام 1997، عندما قامت عناصر من الموساد بحقن جرعة قاتلة محتملة من مادة أفيونية اصطناعية تسمى “فيتانيل” في أذنه، ومع اكتشاف الأمر وإنقاذ مشعل، أجبرت القضية إسرائيل على الاعتراف علنا بأنها تستخدم السم في عمليات الاغتيال.
الحرب القذرة
في شهر مارس /آذار 2005، كان مزارعو الحقول الواقعة بالقرب من قرى التواني وأم فغارة وخروبة في منطقة الخليل الجنوبية في حيرة شديدة من أمرهم، إذ تساقطت أغنامهم وغزلانهم وغيرها من حيوانات صرعى من حولهم دون معرفة السبب، في البداية اضطروا لحجر قطعانهم والتوقُّف عن استخدام الحليب والجبن واللحوم المُستخرجة منها، ثم بعد بضعة أسابيع من حرمانهم سبل العيش اكتشف السكان أن تهديد حارس أمن مستوطنة “ماعون”، الذي لوَّح بأن لديه طرقا لإجبارهم عن التوقف عن رعي أغنامهم بالقرب من المستوطنة، قد نُفِّذ بالفعل عن طريق تسميم أغنامهم، سرعان ما أفضى البحث إلى معرفة أن المستوطنين استخدموا نوعين من المواد الكيميائية السامة بكميات كبيرة في المنطقة: أولهما هو ثاني-فلوراسيتاميد، وهو محظور في العديد من البلدان بما في ذلك إسرائيل، ومُقيَّد بشدة في التجارة الدولية، والثاني يُدعى بروديفاكوم، وهو مضاد للتخثر يستخدم مُبيدا للقوارض.
تواصل إسرائيل إذن استخدام الأسلحة البيولوجية في معركتها الممتدة مع الفلسطينيين، رغم أن هناك الكثير من الخصائص المتأصلة للأسلحة البيولوجية التي ربما تحد من فائدتها في الصراع، مثل قرب دولة الاحتلال الجغرافي من خصومها ما يجعل هذه الأسلحة تشكل خطرا كبيرا على سكانها أنفسهم عند استخدامها، بخلاف كون المواجهات العسكرية الإسرائيلية تنتهى غالبا في غضون أيام أو أسابيع، بينما تتطلب الأسلحة البيولوجية أوقات حضانة أطول في المعتاد.
في هذا السياق، يؤكد الدكتور المؤرخ “سلمان أبو ستة” أن إسرائيل لن تتخلى عن تطوير سلاحها البيولوجي تحت مظلة “التطوير العلمي للأوبئة”، وهي إذ تزعم اليوم إنها تسعى لإيجاد مصل ضد فيروس كورونا وغيره من الأوبئة، فإنها لن تعجز عن الإتيان بأعذار تساعدها على استكمال مسيرة تطوير الأسلحة البيولوجية تحت غطاء علمي. وبيَّن أبو ستة -خلال حديثه إلى “ميدان”- أن إسرائيل رفضت توقيع الاتفاقيات الدولية للحد من تطوير الأسلحة البيولوجية واستعمالها؛ ما يعني أنها تحتفظ بإمكانية استخدام هذه الأسلحة في وقت ما، وتابع القول: “لا ننسى لإسرائيل دورها غير المؤكد في تسميم الراحل ياسر عرفات”.
فتح موسم انضمام فلسطين مؤخرا إلى الاتفاقيات الدولية الخاصة بحظر الأسلحة الشاملة، ومنها اتفاقيات حظر الأسلحة البيولوجية والكيماوية والنووية، ملف السلاح البيولوجي الإسرائيلي، وفي قاعة الأمم المتحدة في جنيف في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لم تتوانَ السلطة الفلسطينية عن توجيه اتهامات لإسرائيل أثناء أعمال المؤتمر الذي شاركت فيه الدولة العبرية بوصفها دولة مراقبة، حيث طالبت السلطة الفلسطينية بإرسال فريق تحقيق دولي إلى المستوطنات الإسرائيلية للتحقق من إنتاج مختبراتها أسلحة سامة.
ولكن مع خوض الفلسطينيين وبعض المنظمات الدولية معركة الحد من تسلح إسرائيل النووي والبيولوجي والكيماوي منذ عقود دون نتائج، يمكن القول إن دولة الاحتلال وبعد أكثر من ستين عاما على إقامتها ستبقى مولعة بالحفاظ على أي أصول تعتقد أنها ضرورية للدفاع عن كيانها بغض النظر عن التكلفة أو التداعيات الدبلوماسية أو حتى عن أعداد الضحايا. وبينما تَطُول طائراتها الحربية مناطق عدة مثل سوريا والعراق ولبنان وقطاع غزة، وتصل يدها الطولى عن طريق الاغتيال إلى شخصيات فلسطينية وعربية في شتى دول العالم، فإنها تواصل أبحاثها في مجال الأسلحة البيولوجية دون مواربة، وتستمر في تكديس ترسانتها من هذه الأسلحة في انتظار أي لحظة مواتية لاستخدامها دون شفقة أو تردد.
المصدر: الجزيرة. نت