في خضم التدافع الحضاري تبرز مدارس فكرية عديدة تحاول جاهدة أن تقدّم حلولاً للمشاكل التي تتمظهر خلال مسيرة التطور الإنساني، ولكنّها تبدو عاجزة أحياناً، أو تكون حلولاً مرحلية لا تستطيع الصمود أمام التحولات الكبرى التي تطرأ على المجتمعات والتغير المضطرد في أسلوب حياتها نتيجة التقدم العلمي وتأثيره على طرق الإنتاج والتعليم والسكن والعلاقات الاجتماعية والاقتصاد.
من بين كلّ تلك المدارس التي مرّت على البشرية خلال عشرات القرون لم تصمد واحدة منها كما صمد الإسلام رغم الهجمات الشرسة والمستمرة دونما هوادة من كل المدارس الفكرية الأخرى التي رأت فيه ما يقوّضها وينسفها من جذورها، فألصقت به التهم زوراً وبهتاناً بأشنع التهم وصولاً إلى الإرهاب لأنها لا تمتلك الحجة عليه بالمنطق والحوار وهو أبو المنطق بلا منازع.
فمن الواقعية إلى الليبرالية وصولًا إلى الماركسية ظلّت المسائل الإشكالية معلّقة بلا حلول شافية، لا تفتأ أن تبرز بين فترة وأخرى لتضع الفرد أمام مفترق طرق وحيرة كبيرة في رحلة بحثه عبر الزمن عن الحقيقة. حقيقة الوجود. حقيقة الحياة. وما بعدها.
يبقى الفرد هو الأساس في البنية المجتمعية مهما كانت صفة تلك البنية، ريفية أو مدنية، زراعية كانت أم صناعية، وهو اللبنة الأساس في بناء المجتمع وعليه يجب الاشتغال صحياً ونفسياً، علمياً وثقافياً كي نضمن سلامة وحصانة المجتمع من الاختراقات المعادية التي تحمل الأفكار الهدّامة وخاصة بعد أن امتلكت كلّ الأدوات التي تساعدها على الولوج السلس الذي يمكن وصفه بالتسلّل الهادئ غير المباشر والمتأنّي الصبور الذي لا يبحث عن نتائج يحصدها سريعاً فتفقد صفة التأثير العميق والدائم.
هل الإسلام هو الحل؟ سؤال كم تطرّق إليه المفكرون والفقهاء والاقتصاديون، وزخرت المكتبات بمئات بل وآلاف الكتب التي تتحدّث عن دور الإسلام في بناء المجتمعات وتنظيم العلاقات داخلها ابتداءً من الخلية المجتمعية الواحدة “الأسرة”، ودورها في صناعة أفرادها وتخريجهم إلى المجتمع الأوسع ليكونوا عناصر فعالة في عملية البناء والنمو المستمرة وصولاً إلى الازدهار.
حينما يكرّس الإسلام فكرة ” أن الله يرى ” لدى كلّ فرد في المجتمع فلن تحتاج لملايين الكاميرات المزروعة في الشوارع والمحال التجارية والمؤسسات كي تضمن سلامة الممتلكات الخاصة والعامة، تلك التقنية التي زرعت مفهوم الشك عند كل ناصية بحجة الأمن، بينما في المجتمع الإسلامي السليم نجد أن كاميرا المراقبة موجودة داخل كلّ فرد ” الرقابة الذاتية” التي يطلقون عليها اسم الضمير، هذه الرقابة القائمة على الأخلاق والعقيدة والهدف الأسمى لحياة الإنسان.
لكل فرد في المجتمع الإسلامي دور تبدأ ملامحه من الأسرة لتتبلور الأدوار مستقبلاً عندما يكبر الفرد ويستقل بعمله، فيسعى لبناء أسرة جديدة معتمداً على تجربته الأسرية التي ترعرع خلالها، فيحاول ترجمة ما عاشه سابقاً والمختزن في عقله ووجدانه مع بعض الإضافات الشخصية التي استمدّها من البيئة وتجربته الشخصية سعياً نحو بناء نموذجي لأسرته الجديدة، وهكذا مع تتابع الأجيال تتعزّز الأفكار الإنسانية النبيلة وتصبح سمة عامة تسود المجتمع تقطف ثمارها الدولة من خلال الأمن والاستقرار لتعود بالفائدة على المجتمع مجدداً من خلال حياته المعاشية والنفسية التي بدورها تصبح مداميك لبناء الانسان الفرد القوي المتسلّح بالعلم والمعرفة والفضيلة.
في الإسلام ليست الجائزة الوحيدة هي الآخرة، كما يحاول الكثير تكريس ذلك وأن يجعلوا من الحياة مرحلة امتحان صعب وشقاء، بل الجائزة الأخرى هي في الحياة الدنيا قبل الآخرة، في الحثّ على الارتقاء بالإنسان وكرامته ونبذ كلّ ما يشوّه هذا الكائن الذي أكرمه الله عز وجل دون الكائنات الأخرى بأن منحه العقل واللسان ليكون منبعاً يصدر منه ما يعمّر الحياة لا أن يعمل على تدميرها وخرابها، كما يفعل اليوم أولئك الذين وظفوا معرفتهم وعلومهم وتقدمهم التكنولوجي في استعباد البشر وشن الحروب وقتل كل ما هو جميل على وجه الأرض، ونشر الأفكار الشاذة التي تنتقص من إنسانية الإنسان وفطرته السليمة وحرفه عن رسالته ودوره الحقيقي في إعمار الأرض، ولهذا نجد اليوم تلك الجماعات الشاذة تنمو كالفطر في مجتمعات الغرب وتجد من يدعمها ويقوننها بل أكثر من ذلك، باتوا يضغطون على الحكومات الأخرى وخاصة في عالمنا الإسلامي لقبول مثل هذه الجماعات ومنحها الحرية في بث أفكارها البهائمية من أجل سلبنا آخر سلاح ما زال بيدنا ندافع به عن وجودنا، ألا وهو الأسرة المتماسكة التي تمثل اللبنة الأساس في مجتمعاتنا، وما العناوين البراقة التي يتحفوننا بها مثل ” تمكين المرأة” و” الديمقراطية” و”حرية المعتقد” ، إلّا معاول لتهديم الفرد ومن ثم المجتمع.
المصدر: اشراق