من عادات العرب الجميلة في الجاهلية، أنَّهم إذا تكاثرت خيولُهم، واختلط عليهم أمرُها، وأصبحوا لا يفرقون بين أصيلها وهجينها، وضاعت حيلتُهم في معرفة «الأصيلة والهجينة»، جمعوها في مكان واحد، ومنعوا عنها الاكل والشرب، حتى إذا جاعت واشتدَّ عطشُها، أوسعوها ضربًا مبرحًا بالسياط! وبعد ذلك يقدمون لها الأكل والشراب! هنا… تنقسم تلك الخيولُ إلى مجموعتين، الأولى: تهرول نحو الأكلِ والشراب؛ لأنها جائعة وغير آبهة لما فعلوا بها! بينما المجموعة الثانية: تأبى الأكل من «اليد» التي ضربتها وأهانتها!
ما الذي جعل «الخيلَ الأصيلة» تعاف الشراب والطعام…إنَّه الإباء والشموخ والترفع والبعد عن الدنس! وهذا ما ينطبق على البشر، يتضح «الأصيل» من «الهجين» حين وقوع الخطأ! تظهر عزة النفس من الأصيل ويظهر اللؤم من الهجين!
في تقرير نشرته صحيفة “لوفيغارو (Le Figaro) الفرنسية عام 2021، قال الكاتب لور دازينيريس: إنَّه كثيرًا ما نشاهد فيديوهات لقطط ضالّة تنقذ قطة صغيرة، أو فيلًا يساعد أحدَ الفيلة الطاعنة في السن، أو كلبًا يحني رأسه خجلًا عندما يكتشف أنَّه ارتكب شيئًا غبيًّا. ويمكن أن نلاحظ آلاف الأمثلة التي تظهر أنَّ الحيوانات لا تميز فقط بين الخير والشر، وإنَّما تسعى لينتصر الخير في النهاية.
لكن، لسائل أن يسألَ: هل يمكنُنا القولُ إنَّ الحيواناتِ تتمتع بحسّ أخلاقي؟ يبدو هذا السؤالُ عصيًّا على الإجابة طالما لم نصل بعدُ لفهم لغةِ الحيوان! ولكن لنقلبِ المعادلةَ، ونسقطَ أخلاق بني البشر على عالم الحيوان، ونتصور كيف سيكون عالمُ الحيوانِ إذا تبنَّى أخلاقُ بني البشر الحالية؟ عسى أن نجدَ جوابًا شافيًا!
هل سمعتَ أو شاهدت يومًا غدرًا، أو خيانةً، أو كذبًا أو سرقة عند الحيوانات، بمعنى آخر؛ هل سمعنا يومًا عن نحلة غدرتْ بأبناء مجتمعِها وباعتهم لدب كي يستوليَ على عسلهم، أو حمارٍ خان رفقاءَه، وسلمهم لجزار كي يُنقذَ روحه، أو فيل قبض ثمنَ عاجِ أفرادِ سربِه، ووضعهم في بنوك خارجية بعد أن أبادَهم مستأجروه من الصيادين، هل سمعت عن نملة لبست حزامًا ناسفًا وفجَّرت نفسها في أبناء مملكتِها؛ لأنَّها اختلفت معهم بوجهات النظر، وهل سمعت عن سرب من الطرائد يصفقُ للمفترس بعد أن يلتهم أحدَهم، أوهل سمعت عن لبوة تخلَّت عن أبنائها؛ لأنَّها تكره زوجها الأسد أو تعايره أنَّه فشل في تسيد القطيع، وهل سمعتم عن جمل استعان بقرد لينصب فخًّا لأصحابه؛ كي يستأثرَ بحصصهم من الطعام!!
إذا كنت ممَّن يحبُّون التمتع بمقالات الرأي في صحيفة الغارديان البريطانية، فإنَّك تشاهد دائمًا هذه العبارة التي كتبها محررٌ في المجلة يدعى سى بى سكوت عام 1921:”التعليق مجاني …لكن الحقائق مقدسة” Comment is free… but facts are sacred .نعم الحقائقُ مقدسةٌ، لكن لا نريد أن نشاهدَها! كثيرٌ من سيِّئي الأخلاق بالنسبة لمجتمعاتهم قادةٌ ومصلحون، بل قديسون، وحتمًا هم بحاجة لمن يقول لهم “كاذبٌ أو منافقٌ أو سارق…”حتى ينهضوا من كبوتهم، لكن إذا بقي من حولهم يزينون لهم سوء عملهم، فسيضيع ويهلك الطرفان: طرفٌ بالنفاق والتأقلم الكاذب مع معايير المجتمع الفاسدة، وطرفٌ فاسدٌ يعيش بالوهم المريح؛ أنه على الجانب الخير من المعادلة، كيف لا وكل المجتمع يصفق ويهلل لعمله، أو على الأقل يرمي الفشل في الوصول إلى النتائج على الظروف، أو المؤامرة الدولية، وليس على سوء أخلاقِه وأعماله!
لعل الحيواناتِ لا تستسلم لسوء الأخلاق؛ لأنَّها لا تملك الخيار فهي تتصرف حسب فطرتها، لكننا كبشر أُعطينا الخيار؛ لنحاسب، فلابدَّ لنا من العودة لفطرة الأخلاق، وألَّا نكتفيَ بعالم الوهم الذي نزداد غرقًا به.
في ثورات الغرائز يُصفَّقُ للبراغماتي والكاذب والمتلون والمتسلق والسارق … فالأمرُ بسيطٌ للغاية في تعريف الناجح من الفاشل، مَن يملك المنصب أو القوة أو المال، فهو ناجحٌ بغض النظر عن معايير الأخلاقِ الفطرية، وتُستبدَلُ تلك المعاييرُ بلافتات براقة من أمثال إسلامي، ثوري، مدعوم، تابع لجهة قوية…واللافتات كثيرة تكاد لا تنتهي.
في النرويج أكبرُ ثروةٍ نفطية في كل أوروبا، لكن في عام 1968 جاءهم شابٌ عراقي مع بدايات الاكتشافات والتنقيب في الجرف البحري النرويجي، وكان قبلها ممن يتبوأ مكانةً مرموقةً حصل عليها باجتهاده وعلمه في شركة النفط العراقية التي كان كلُّ مديريها في ذلك الوقت إنكليز. قدَّم هذا الشابُّ الخبيرُ ورقةً دقيقةً للحكومة النرويجية لتجنب ما سماه الاقتصاديون في ذلك الوقت “المرض الهولندي”، وهو مفهومٌ ظهر لأول مرة في هولندا في الستينيات من القرن الماضي، عندما عانى الاقتصادُ الهولندي بشكل غير متوقع؛ بعد اكتشافِ حقل نفط ضخم في الجزء الخاص به من بحر الشمال، أدرك عندها الخبير العراقي الذي يدعى فاروق القاسم أنَّ الأمرَ يتطلبُ إستراتيجيةً واضحةً وتخطيطًا دقيقًا لتجنب وضع مماثل في النرويج.
الوصايا النفطيةُ العشرُ التي كتبها سياسيو النرويج شكلتِ السياسةَ الأساسيةَ التي تدير بها النرويجُ مواردَها البترولية منذ ذلك الحين، لم يتفقِ السياسيون على هذه الوثيقة فحسب، بل اتفقوا على عدم مناقشتها في الانتخابات والمعجزة الثالثة…أنَّهم أوفوا بوعدهم. تحولت كلُّ عوائد النفط الهائلة إلى صندوق سيادي، ولم يُصرف منه إلَّا 4% حتى تبقى هذه الثروةُ للأجيال القادمة، ولا تكون العمليةُ بمثابة سرقة قانونية لجيل أو جيلين لثروات البلد، وترك الأجيال المستقبلية بعيدة عن الاستفادة! اليوم هذا الصندوق يملك أكثر من 1.5 تريليون دولار. فاروق القاسم العراقي الخبير قدم شيئًا مشابهًا للعراق في مرحلة ما بعد صدام، ولكن فرَّغه السارقون من محتواه حتى تبرأ قاسم منه!
قد تكون أخلاقُنا ولدت معنا، وتأقلمنا معها، لكننا لم نُعِدْ يومًا تحديثها وتطويرها ومراقبتها بدقة حتى تكون أقرب لفطرتنا البشرية وللتعاليم السماوية، عندها ينطبقُ الوصفُ التالي من الخالق العظيم جلَّ في علاه: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (الفرقان -44). نعم علينا أن نواجهَ بعضنا بالسلبيات والإيجابيات في أخلاقنا، وأن نعيِّنَ أوصياء على الأخلاق نحاسبهم ويحاسبوننا: وأن نقول للسارق أنت سارق، وللمنافق أنت منافق، وللكاذب أنت كاذب، وللجاهل أنت جاهل، وللمفسد أنت مفسد، وللقاتل أنت قاتل…وهذا كلُّه بغض النظر عن اللافتة التي يضعها أو وضعها من حوله حول رقبته سواء كان مكتوب عليها بخط جميل: هنا الطبيب فلان أو الشيخ فلان أو المدير فلان أو المحسن فلان أو العبقري فلان أو التاجر فلان أو ابن العائلة فلان…فمن ينهض بالأمم أخلاقُها لا زينتُها!