لا خلاف بين النظام والمعارضة، حول وحدة سوريا. الأول، يريدها مركزية قسرية تُخضع الجماعات بالقوة، والثانية، تقرنها، نظرياً، بالديمقراطية وبالحريات وفتح المجال العام. الأول يملك نموذجاً ورثه عن مرحلة ما بعد الاستقلال وما تلاها من انقلابات واضطرابات، والثانية، تعد بنموذج تضع له تصورات مدرسية، كثيرة التداول في ورش المجتمع المدني. المركزية الموظفة لأهداف سلطوية، والمجربة عبر عقود، تقابلها إذن، المركزية المعطوفة على ديمقراطية متخيلة وغير مجربة سوى في حقب متقطعة قبل انقلاب البعث النهائي.
السوريون عاشوا القمع المفروض من المركز، ليس فقط أيام النظام الحالي، توجد أمثلة، عن محاولة إخضاع الجماعات خلال سلطة ما بعد الاستقلال، تحديدا ما حصل بين الرئيس أديب الشيشكلي وعائلة الأطرش التي مثلت معظم دروز السويداء. قد لا يكون الشيشكلي نموذجا للديمقراطي الصالح، حيث أراد أن يبنى نظاما ديكتاتوريا ملونا بوجوه مدنية يحكم من خلفها، لكن هناك أيضا، ثنائية، الرئيس شكري القوتلي، وسليمان المرشد الذي اقتيد لدمشق، وأعدم فيها.
هذه الأمثلة، تدفع للربط بين المركزية والسلطوية، صحيح أن الثانية قد تستغل الأولى، كما فعل النظام الحالي، لكن المركزية تبقى الأساس، لاسيما وأن إخضاع الجماعات لم يرتبط بهوية السلطة. تعددت السلطات وبقيت المركزية أداة قمع، نسبة الأخير، وتوظيفه، هو ما اختلف. النظام الحالي، عرف كيف يستثمر في مسألة المركزية ويضمها إلى عدته لبناء السلطة وترسيخها، هذا ما يجعله، نسبيا، مختلفا عما قبله. الفارق هو في توظيف المركزية لبناء نظام استبدادي، من دون أن يعني ذلك، أن هناك فرقا في التفكير بالمركزية بين من حكم قبل النظام الحالي، والنظام نفسه. فحكم الشيشكلي، مثلا، لو قيض له الاستمرار، لما قدّم نموذجا أفضل في مسألة استثمار المركزية، لتثبيت نظام ديكتاتوري. الظروف والتحولات هما اللتان حكمتا الحقبتين، وليست الأفكار، لاسيما ما يخص المركزية.
لكن لماذا، كانت المركزية، وما تزال في سوريا، مرادفاً للاستبداد؟ ألا توجد قيم إيجابية يمكن أن نربطها بهذا المفهوم، ليصبح ممكنا سوريا؟ قد تكون، الفجوة الأساسية، في فشل تكوين الدولة، التي يذهب الباحث العراقي الراحل فالح عبد الجبار إلى اعتبارها «المدبر» لبناء الجماعة الوطنية، هي، باعتقاده، تشكّل النظام السياسي، من جهاز بيروقراطي، ومؤسسات تمثيلية، وهيئات تنظم العنف، والنظام القضائي، ليكون بناء الأمة، ضم مختلف الجماعات الإثنية والطائفية والثقافية، عبر مؤسسات المشاركة السياسية والاقتصادية والإدارية والثقافية. آليات بناء الأمة، قد تنشط ضمن الدولة، حسب عبد الجبار، لكن في الوقت نفسه، الدولة قد تعطلها، كما حدث في العراق أيام البعث.
استنادا إلى هذا التأصيل النظري، لمفهوم الدولة ـ الأمة، يمكن رصد سلبيتين، بما يخص سوريا، الأولى، أن دولة ما بعد الاستقلال، ولأسباب كثيرة، لم تنشط لضم الجماعات وتمثيلها في مؤسسات وهيئات، لتكون الفرصة سانحة للبعث لاحقا، لاستخدم الدولة بعكس وظيفتها أي أداة تفكيك وتعطيل. وعليه، فإن وحدة البلاد، لم يكتب لها، أن ترتبط بمفهوم الدولة – الأمة، ما يجعلنا، كسوريين، حيال فوات، بما يخص وحدتنا، حيث إنها لم تتحقق حين كان من المفترض أن يحصل ذلك، بفعل رواج فكرة الدولة ـ الأمة. الأخيرة نفسها لم تعد بالوهج ذاته لاحقا، بفعل العولمة، التي أعادت تعريف مفاهيم السيادة والدولة والحدود، وتطوير مفاهيم جديدة لتوحيد الناس. لكن في سوريا، لم نصل إلى هذا التحدي، فقد سبقنا النظام، ليضم الوحدة إلى عدته، ويستثمره في بناء سلطوية مخيفة.
مناطق الأكراد، والجولاني، والنظام، القائمة اليوم، ليست فقط مناطق أمر واقع، إنما هي أيضاً امتداد لهذا الاختبار التاريخي الفاشل، الذي تأجل إعلان نتيجته عقوداً. فأحد الأجوبة على فشل الوحدة المقرونة بتمثيل سياسي للجماعات، هو انتقام الأخيرة، بعد فشل الثورة، التي كان من المستحيل أن تعالج عطباً تاريخياً بخصوص توحيد السوريين، أسس لما بعده، مع التميز في الترجمة الفعلية، لهذا الانتقام، بين جماعة خائفة تفضل الاستبداد، وأخرى انتهى جزء منها تحت سطوة التطرف، وثالثة تصنع تجربتها الخاصة.
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي