تحليل مقتضب من باحثي كارنيغي حول الأحداث المتعلقة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ماذا جرى؟
غادر الرئيس عون منصبه كرئيس للجمهورية بعد ولاية دامت ست سنوات وكانت حافلة بالخلافات، إذ غالبًا ما خاض الرئيس خلال عهده مواجهات مع أعضاء بارزين من الطبقة السياسية، أبرزهم رئيس مجلس النواب نبيه بري. سمح ذلك لعون بتصوير نفسه على أنه المدافع الوحيد عن فساد السياسيين، لكن هذه الصورة كانت لتكون مقنعة أكثر لو أنه لم يكرّس قدرًا كبيرًا من طاقته لتعزيز الحظوظ السياسية لصهره جبران باسيل الذي أمل عون بأن يأتي خلفًا له.
لم يقتصر دعم عون لباسيل على المحاباة. وحتى إذا اتفق اللبنانيون على أن الرئيس السابق كان محقًّا في التنديد بانتظام بفساد خصومه السياسيين، إلا أن سلوكه لم يختلف كثيرًا عن سلوكهم. فقد اعتبر كثرٌ انحيازه لباسيل، وتحديدًا إصراره على أن يسمّي صهره وزراء حقيبة الطاقة المدرّة للربح، بأنه مسعى لاقتطاع حصة من نظام الغنائم الذي كان حتى ذلك الحين يهيمن عليه خصوم عون. في الواقع، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على باسيل لضلوعه في الفساد في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، في إطار قانون ماغنيتسكي العالمي للمساءلة في مجال حقوق الإنسان.
وقد كان أمل عون بأن يخلفه باسيل في رئاسة الجمهورية أحد الأسباب الرئيسة خلف التوترات القائمة مع رئيس الوزراء المكلَّف نجيب ميقاتي. كُلِّف ميقاتي بتأليف حكومة بعد الانتخابات النيابية في أيار/مايو الماضي، لكنه بقي متريّثًا في هذا الصدد، إذ شعر بأن من الأفضل انتظار انقضاء ولاية عون وهو يترأس حكومة تصريف أعمال، لتجنّب الشروط التي حاول باسيل فرضها على الحكومة الجديدة. كان باسيل يأمل في أن يتمكن من استخدام تأثيره على الحكومة كورقة ضغط لانتخابه رئيسًا، أو ليختار هو الرئيس المقبل، ما يمهّد بالتالي الطريق لانتخابه رئيسًا بعد ست سنوات. كان يعوّل باسيل على أن حماه هو الذي سيوقّع مرسوم تشكيل حكومة جديدة. لكن هذا الوضع تبدّل مع خروج عون من سدة الرئاسة.
أين تكمن أهمية المسألة؟
قد يطوي خروج عون بشكل مؤقت الصفحة على فترة كانت حافلة بالنزاعات، وانزلق خلالها النظام اللبناني إلى حالة من الشلل غير المسبوق. لم تكن أولوية عون أبدًا ممارسة الدور الدستوري الذي يضطلع به رئيس الجمهورية بصفته “رمز وحدة الوطن”، بل على العكس، كان طموحه الطاغي تصفية حساباته مع اتفاق الطائف الذي تم توقيعه في العام 1989، والذي قلّص بشكل كبير صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني، وأناطها بمجلس الوزراء الذي يقوده رئيس حكومة سنّي. مع أن هذه المعركة لم تنتهِ بعد على الأرجح، نظرًا إلى أن باسيل سيواصل معاداة اتفاق الطائف الذي استخدمه عون لتعزيز شعبيته في أوساط المسيحيين، فإنها دخلت لا ريب مرحلة جديدة. في المستقبل المنظور، يُرجَّح أن تسعى جهة أخرى، ربما حزب الله، إلى تغيير اتفاق الطائف.
لسخرية القدر، استخدم عون أحيانًا الالتباسات التي ينطوي عليها دستور ما بعد الطائف لتوطيد الصلاحيات الرئاسية. على سبيل المثال، عمد إلى تأويل صلاحية رئيس الجمهورية في التوقيع على مرسوم تشكيل حكومة جديدة، مانحًا نفسه دور المشارك النشط في عملية تسمية الوزراء. قبل عون، كان رؤساء الجمهورية أقل استعدادًا لاتّخاذ مثل هذه الخطوة. كذلك، فرض عون نفسه مفاوضًا أساسيًا مع إسرائيل في ملف ترسيم الحدود البحرية، بعد أن كان بري يسعى إلى تولّي هذا الملف في البداية. في نهاية المطاف، وضع حزب الله شروط الاتفاق، لكن عون ناور جيّدًا ضمن هامش الصلاحية الذي منحه لنفسه. وكان اتفاق الطائف هو الذي أعطاه هذه الإمكانية.
في ضوء خروج عون من سدة الرئاسة وهو في أواخر الثمانينيات من العمر، يبقى السؤال المهم حول ما سيكون مصير حزبه، التيار الوطني الحر. لقد سلّم عون التيار لباسيل على طبق من فضة، وعمد باسيل على مدى سنوات إلى تحييد كل من هو غير موالٍ له شخصيًا من التيار. لذا، يتساءل كثيرون اليوم عما إذا كان باستطاعة التيار الصمود في ظل قيادة شخصية خلافية مثل باسيل، في حال تراجع نشاط عون في دعم صهره. لا بدّ من الانتظار لمعرفة ذلك، لكن الفترة التي ستلي عهد عون ستحمل تحديات كثيرة لباسيل. فهو لم يعد لديه حليف في منصب رئاسة الجمهورية، ما يعني أن سياسة العرقلة التي أتقنها لن تبقى فعّالة بالدرجة نفسها كما في السابق.
ما المضاعفات على المستقبل؟
سيعتبر المتفائلون أن مغادرة عون تشير إلى نهاية عهد شهد انهيار لبنان في العام 2019، لكن تبرز مشكلة أكثر إلحاحًا تتمثّل في أن لبنان يواجه وضعًا خطيرًا على مستوى سلطته التنفيذية. فحكومة ميقاتي هي الآن حكومة تصريف أعمال، وثمة خلافات كبيرة حول صلاحياتها. ففيما يجادل ميقاتي بأن الحكومة تتولّى دستوريًا صلاحيات رئيس الجمهورية في حال حدوث شغور رئاسي، يعتبر عون وباسيل أن هذا الأمر لا ينطبق على حكومة تصريف الأعمال. وقد هدّدا بسحب الوزراء العونيين من الحكومة، وأعلن حزب الله أنه سيحذو حذوهما. ومن شأن ذلك أن يضعف موقف ميقاتي أكثر، حتى لو لم يغيّر ذلك فعليًا وضع الحكومة، نظرًا إلى أنها سبق أن استقالت دستوريًا عقب الانتخابات النيابية في أيار/مايو الماضي. إذًا، يجد لبنان نفسه اليوم، وللمرة الأولى على الإطلاق، من دون رئيس للجمهورية ومن دون حكومة تتمتع بصلاحيات كاملة. ولا يمكن الاستهانة بالتأثيرات المترتّبة عن ذلك، ولا سيما في خضم التدهور المالي والاقتصادي الذي تعيشه البلاد.
ينقل هذا الوضع مركز الثقل إلى مجلس النواب، ولا سيما إلى رئيسه نبيه بري. في حال كان عون وباسيل يأملان بالحصول على مبتغاهما في الحكومة من خلال انتهاج سياسة حافة الهاوية مع ميقاتي، ففشلهما في الاتفاق معه عزّز فعليًا موقع خصمهما الأساسي بري. في الوقت الراهن، يبدو أن السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو أن ينتخب مجلس النواب رئيسًا جديدًا للجمهورية. وقد حاول بري اغتنام هذه الفرصة من خلال الدعوة إلى حوار يُعقد تحت إشرافه لانتخاب رئيس توافقي. في مطلق الأحوال، من المستبعد أن تتوصّل القوى السياسية اللبنانية راهنًا إلى الاتفاق على مرشّح للرئاسة، ومن المتوقّع أن يستمر الفراغ الرئاسي لأسابيع، أو حتى لأشهر، قبل أن يبدأ الأفرقاء بتغيير مواقفهم.
يُشار إلى أن التيار الوطني خسر أصواتًا خلال الانتخابات العامة الأخيرة. في غضون ذلك، يقف بري وميقاتي لباسيل في المرصاد، ولا سيما أن سلوكه أدّى إلى تنفير الجميع تقريبًا. لهذا السبب، ستدفع مغادرة عون باسيل إلى الاعتماد أكثر من أي وقت مضى على حزب الله، الذي لا يرغب في أن يرى حليفه المسيحي الأساسي ضعيفًا، إنما لا ينوي أن يفعل لمصلحة باسيل الجهود التي بذلها من أجل عون. في هذا السياق، يواجه باسيل معضلة. فمن المرجّح أن يؤدي تقاربه من حزب الله إلى تراجع مكانته على الساحة المسيحية، ولن يساعده ذلك أيضًا في علاقته مع الأميركيين. فهو يسعى إلى التخلّص من العقوبات الأميركية المفروضة عليه، لكن لا أخلاقياته الشخصية ولا سلوكياته السياسية تجعل هذا الأمر ممكنًا في الوقت الراهن. وسيواصل باسيل في المستقبل المنظور دفع ثمن اختيار معسكر حزب الله، وستتكبّد طموحاته أضرارًا كبيرة نتيجةً لذلك.
المصدر: مركز مالكولم كير- كارنيغي للشرق الأوسط