تثير ردّات الفعل الساخطة على عودة حركة حماس إلى حضن الأسد الكثير من الفضول الذي يصل إلى درجة الاستفزاز، فهل حركة حماس هي الفصيل الفلسطيني الوحيد الذي يرقد في الحضن الأسدي، أليست دمشق مرتعا للكثير من الفصائل الفلسطينية التي لم تبرح مظلة الأسد منذ ثمانينيات القرن الماضي، ألم نشهد بعضاً من هذه الفصائل شارك بقتل السوريين والفلسطينيين الذين ناهضوا حكم الأسد، ألم تكن قوات أحمد جبريل زعيم الجبهة الشعبية – القيادة العامة – شريكة للأسد في حصار مخيم اليرموك ومن ثم تدميره في عام 2013 ؟ إذاً لماذا حلال على هؤلاء وحرام على حماس؟ هل لأن حركة حماس انحازت بموقفها إلى جانب ثورة السوريين إبان انطلاقتها، ومن ثم انعطفت عن ذلك الموقف؟ أم أن حركة حماس أصبحت بيضة القبان بالنسبة إلى القوى الفلسطينية؟
قبل الإجابة على تلك التساؤلات لا بدّ من التأكيد على مسألتين: تتمثل الأولى في كون القضية الفلسطينية، ومنذ وصول الأسد ( الأب ) إلى السلطة، باتت حاجة أساسية بالنسبة إلى نظام دمشق،بل باتت إحدى الركائز التي يبني عليها سياساته المحلية والدولية وكذلك منها يستمد مقوّمات خطابه السياسي، بل واستثمرها حتى في صياغة نمط علاقاته مع المحيط العربي، إلى درجة بات كأنه هو المتحدث باسم فلسطين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، ولا شك أن ثمة ذرائع عديدة قد عززت هذا المسعى لعل أبرزها الموقع الجغرافي الذي جعل سورية إحدى دول المجابهة، والتلطّي خلف الإيديولوجية القومية التي جعلت من القضية الفلسطينية إحدى مقوّمات خطابها، واحتلال إسرائيل لهضبة الجولان، وكذلك مشاركة سورية في حربي حزيران 1967 ، وتشرين 1973 . وتتمثل الثانية في الحرص الشديد الذي أبداه الأسد الأب على أن يكون هو القابض الإقليمي الرئيسي على الورقة الفلسطينية، مما يجعله المستثمِر الأكبر لتلك الورقة عربياً ودولياً، وربما هذا ما جعل شعار ( لا سلم ولا حرب) هو الخيار الأمثل لدى سلطات دمشق لفترة طويلة من الزمن.
لقد أسهم الدعم العربي والسوفياتي بعد حرب تشرين 1973 في تعزيز قدرات الأسد واستمراره في احتواء منظمة التحرير الفلسطينية، وتم تأطير هذا الاحتواء في تشكيل ما سُمّي آنذاك ( جبهة الصمود والتصدي) التي جاءت ردّا على خطوة الرئيس المصري أنور السادات نحو المصالحة مع إسرائيل عام 1977 ، إلى أن جاء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في حزيران عام 1982 والذي أفضى إلى خروج منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس بعد حصار مطبق على بيروت لمدة شهر كامل، وكان من تداعيات الاجتياح الإسرائيلي نشوء أول مواجهة حقيقية بين الأسد وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي دفعتها النتائج المأسوية لاجتياح بيروت إلى رفض الوصاية السورية على القرار الوطني الفلسطيني، الأمر الذي دفع الأسد إلى تعقّب القوى الفلسطينية عسكرياً وقصف مخيمي ( البداوي ونهر البارد ) في طرابلس عام 1983 ، أما سياسياً فقد سعى الأسد جاهداً إلى إنشاء قيادة جديدة لمنظمة التحرير كبديل عن قيادة ياسر عرفات بعد طرده من دمشق، وعلى الرغم من التجاوب الذي أبدته بعض الفصائل الفلسطينية مع المسعى الأسدي، إلّا أن الشارع الفلسطيني والقوى المفصلية داخل منظمة التحرير، إضافة للموقف العربي الداعم للقيادة الشرعية المتمثلة بقيادة فتح، حالت دون قدرة الأسد على الإطاحة بالقيادة الشرعية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مما جعل العلاقة تستمر في التوتر بين دمشق والقيادة الفلسطينية، إلى حين توقيع اتفاق أوسلو بين قيادة منظمة التحرير وإسرائيل برعاية أمريكية في إيلول عام 1993 ، الأمر الذي أحدث انقساماً في الشارع الفلسطيني والعربي، إذ دفع هذا الانقسام إلى عودة الأسد للسعي نحو تحييد أو عزل منظمة التحرير عن حاضنتها الشعبية، وقد تعزز هذا المسعى بعد مقتل إسحاق رابين في تشرين الثاني من العام 1995 ، إذ بمقتله انتهت تطلعات نظام دمشق بإقامة مصالحة سورية إسرائيلية تفضي إلى استعادة هضبة الجولان السورية، وفي هذه الأثناء ظهرت حركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) بقيادة أحمد ياسين كتيار فلسطيني مقاوم رافض للتسوية بين إسرائيل ومنظمة التحرير، ولم يتردد حافظ الأسد في احتضان حماس آنذاك، بل وأشرع لها أبواب دمشق ليكون الأسد من جديد هو الراعي للمقاومة والقادر على استعادة الورقة الفلسطينية إلى حيازته، واللافت للانتباه أن إعلام النظام آنذاك لم يتعرّض بالمطلق إلى كون حماس تياراً إخوانياً كما تثيره الآن وسائل إعلام دمشق، إذ كانت رغبة الأسد بالعودة إلى استثمار القضية الفلسطينية تتجاوز أي اعتبار إيديولوجي.
لقد أدّى توريث الأسد ( الابن ) للسلطة عام 2000 إلى تحولات نوعية في طبيعة العلاقة القائمة بين طهران ودمشق، ولعل من أبرز علائم هذا التحول نزوع العلاقة من شكل ( الندّية ) إلى حالة ( التبعية ) التي تجسّدت بالتغلغل الإيراني في مفاصل الدولة والمجتمع السوري، وقد انتهى هذا التغلغل إلى حالة من التوغّل الإيراني التام مع انطلاقة الثورة السورية التي أثبتت وقائعها أن دفاع إيران عن نظام الأسد إنما هو دفاع عن حيّز عضوي في مشروعها السياسي، وأن الجغرافية السورية ما هي إلّا امتداد حيوي للمشروع الإيراني، في وقت بدت فيه طهران أحوج من ذي قبل إلى الورقة الفلسطينية لتعزيز الاستثمار الذي بدأ به الخميني منذ وصوله للسلطة، حين أفلح في تعزيز الوهم لدى الكثيرين بأن الثورة الإسلامية في إيران معنية بتحرير فلسطين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم.
لعله من المستبعد أن يغيب عن أذهان جميع قادة حركة حماس المآلات الراهنة لنظام الأسد والتي تؤكّد أن قدرته على تقديم أي شكل من أشكال الدعم العسكري والسياسي لأي شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية إنما هي ضربٌ من الوهم، كما لا يغيب عن أذهان الحمساويين أن الأسد لم يعد مالكاً لقرار مصيره، واستمراره في السلطة إنما هو بفضل الدعم المستمر من حليفيه الإيراني والروسي، ولعل الأهم من ذلك كله هو أن الأسد لم يعد يجد حرجاً من الاستنجاد بإسرائيل ذاتها للحفاظ على سلطته من السقوط، بل يمكن التأكيد على أن بقاء الأسد في السلطة إلى الآن إنما هو رغبة إسرائيلية قبل أن تكون هدفاً لإيران وروسيا. وبالمقابل ، فإن نظام الأسد يدرك في قرارة نفسه ألّا قدرة له ولا جدوى من العودة إلى الاستثمار في القضية الفلسطينية، وأن استمراره في خطاب الممانعة لا يقنع حتى بطانته الداخلية، فما فائدة كلا الطرفين إذاً، حماس والأسد، من كل تلك المطاردات بينهما؟ ربما يصح القول: لا فائدة مباشرة لهما معاً، بل لعل المسألة برمتها لا تعدو انزياحاً في الحاجات، فحاجة نظام الأسد سابقاً إلى حيازة الورقة الفلسطينية، باتت الآن حاجة إيرانية أكثر إلحاحاً للسطو الكامل على قضية فلسطين، عملية يرسمها ويخطط لها نظام الملالي في إيران، وعلى حماس والأسد تنفيذها، طوعاً أو كرهاً، فالمستفيد هو الجانب الإيراني الذي ما يزال يرى أنه بحاجة إلى تقوية وتدعيم أذرعه في جميع مناطق نفوذه، وحركة حماس هي إحدى هذه الأذرع التي ينبغي تقويتها وموضعتها في المكان المناسب وفقاً للسياسة الإيرانية، ولئن جهدَ وفد حماس برئاسة خليل الحية، والذي التقى الأسد في دمشق، إلى إيجاد مبررات تسوّغ له عودته صاغراً إلى حضن مفعم بالقذارة، فليخفّف عن نفسه، ويزيل عنها الحرج، ذلك أن أحضان الملالي لا تقل قذارة عن أحضان الأسد.
المصدر: موقع المجلس العسكري السوري