يحكى الأديب الكبير بهاء طاهر أنه حين كان موظفًا باليونسكو بالأمم المتحدة قام ضمن وفد تابع للمنظمة الدولية بزيارة لدولة كينيا.. وفى إحدى القرى التى زارها الوفد شاهد بهاء طاهر صورة جمال عبدالناصر معلقة على الحائط داخل أحد الدكاكين الصغيرة بالقرية الكينية النائية.. فسأل صاحب الدكان عمن يكون صاحب هذه الصورة التى علقها بدكانه ولم يعلق صورة لرئيس دولته كما جرت العادة فى العالم الثالث.. اندهش الرجل من السؤال فلم يكن يتوقع أن أحدًا فى العالم لا يعرف جمال عبدالناصر.. فرد على بهاء طاهر قائلاً: إنه (أبوإفريقيا).. لم يذكر الرجل اسم جمال عبدالناصر فى إجابته.. بل فضل عليه اللقب الذى ربما يقنع السائل بسبب تعليقه الصورة على جدران دكانه.. فعاد بهاء طاهر ليسأله من جديد أو لكن من هو أبوإفريقيا فقال الرجل: وهل هناك غيره (إنه جمال عبدالناصر!!).
يقول بهاء طاهر: إنه لم ينم ليلتها فقد شعر بالفخر أمام بقية زملائه من أعضاء الوفد الدولى، الذين حضروا معه الواقعة وكان معظمهم من الأوروبيين، واستطرد الأديب الكبير فى وصف شعوره بعدها فقال، إن الرجل الكينى البسيط شعر بعدم الراحة وأبدى امتعاضه لأنه صادف أحد سكان العالم لا يعرف جمال عبدالناصر، فماذا لو عرف هذا الرجل الكينى أن بعض المصريين الآن يلومون جمال عبدالناصر، بسبب وقوفه مع الثورات وحركات التحرر الإفريقية وهو السبب فى حصوله على لقب (أبوإفريقيا)؟.. وماذا أيضاً لو عرف الرجل الكينى أن هناك فى مصر الآن من يهاجم عبدالناصر ولا يحترمه لدرجة التقديس كما يفعل كل سكان إفريقيا!؟
هكذا كان بهاء طاهر محقًا فى دهشته، محقا أيضا فى شعوره بالفخر، ومحقاً أكثر فى أسئلته التى حملت معنى الاستنكار لما يحمله البعض هنا من مشاعر سلبية تجاه (أبوإفريقيا) و(أبوالعروبة)!
لاتوجد عاصمة إفريقية واحدة ليس فيها شارع من أكبر الشوارع وأطولها يحمل اسم جمال عبدالناصر بل هناك العديد من الدول الإفريقية التى أقامت له التماثيل فى أكبر ميادينها اعترافا بفضل الرجل وفضل مصر فى استقلالها وتحرير شعوبها وقد كان آخر تلك التماثيل وأضخمها فى مدينة جوهانسبرج بجنوب إفريقيا، والذى أزاح عنه الستار نيلسون مانديلا بنفسه فى حضور أبناء الزعيم المصرى الذين دعاهم الزعيم الإفريقى العظيم لحضور هذه المناسبة.
وحين زار نيلسون مانديلا مصر لأول مرة توجه من المطار مباشرة إلى قبر عبدالناصر ووقف أمامه صامتاً لعدة دقائق ثم قال لمرافقيه من المصريين إنه كان يتمنى أن يزور مصر فى حياة عبدالناصر ليحظى بشرف استقباله له ورؤيته.
وحين فازت جنوب إفريقيا بتنظيم كأس العالم فى المنافسة التى دخلتها مع مصر فى الفيفا قال مانديلا تعليقا على خسارة مصر لو كان عبدالناصر حيا لما جرؤ أحد من الأفارقة على الدخول مع مصر فى منافسة حتى وإن كانت أشرف المنافسات وأعظمها.
هذه هى إفريقيا التى تعيش على ذكرى جمال عبدالناصر حتى الآن.. وإذا كانت لا تزال هناك علاقات مميزة مع بعض دولها الآن فيرجع الفضل فى ذلك إلى جمال عبدالناصر الذى أهملنا علاقاتنا بإفريقيا من بعده فسمحنا لإسرائيل أن تتقدم لتملأ الفراغ الذى تركته مصر وراءها هناك وقد مات عبدالناصر وكل الدول الإفريقية قد سحبت اعترافها بإسرائيل وقامت بطرد سفرائها من هناك فى أعقاب النكسة وهزيمة مصر وإذا كانت بعض دول حوض النيل تتخذ موقفا مواليا لمصر فى مسألة تقسيم المياه فالفضل فى ذلك يرجع إلى اعترافها بفضل مصر عبدالناصر.
45 سنة مرت على رحيل الزعيم المصرى العظيم ولا نجد تمثالاً أو شارعاً باسمه فى عاصمته المدفون فى ترابها الطاهر بينما هناك تمثال لمن يسمى (لاظوغلي) وميدان باسمه فهل يستحق منا عبدالناصر ذلك الجحود وهو الذى قدم لوطنه ما لم يقدم سوى جزء ضئيل منه لإفريقيا المهووسة باسمه وشخصه؟!
رحم الله الكاتب الروائي العروبي الكبير بهاء طاهر
المصدر: الوعي العربي