أصدرت الإدارة الأميركية، يوم 12 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، رؤيتها لسبل تحقيق المصالح الأميركية، في وثيقة من 48 صفحة تحت عنوان تقليدي “استراتيجية الأمن القومي لعام 2022″، حدّدت فيها تقديراتها للوضع القائم، وما فيه من تحدّيات، وتصوراتها لمواجهة هذه التحدّيات. وقد كانت روسيا والصين، إلى جانب “التحدّيات المشتركة”، الأوبئة والكوارث الطبيعية الناتجة عن تغيّر المناخ ومنع الانتشار النووي وانعدام الأمن الغذائي، هي التحدّيات الأبرز، والانخراط في شراكات، “أهم أصولنا الاستراتيجية التي سنعمل على تعميقها وتحديثها لصالح أمننا القومي”، وفق الوثيقة، والتعاون الواسع في مجال مقاومة الأوبئة والمناخ… إلخ، المخرج. وذلك لتحقيق أهداف الاستراتيجية الثلاثة: حماية أمن الشعب الأميركي. توسيع الازدهار الاقتصادي والفرص. تكريس القيم الديمقراطية في قلب أسلوب الحياة الأميركي والدفاع عنها. وهذا يمرّ بتثبيت ركائز النظام الدولي القائم الذي نشأ بُعيد نهاية الحرب العالمية الثانية، وارتبط بدور غربي رئيس في تشكيله ووضع قواعده وضبط توجهاته، ما رتّب هيمنةً وسيطرةً غربيتين على قيادته وتسييره، حيث غدا التحالف الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، بمثابة حكومةٍ عالميةٍ تشرف على هذا النظام. غير أن تطوير قدرات الاتحاد السوفييتي العسكرية، النووية بشكل خاص، شكّل تحدّيا لهذا النظام ورعاته، تجلى في توسّع نفوذه في دول كثيرة، غدا به النظام الدولي ثنائي القطبية.
مع حل حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفييتي، في تسعينيات القرن العشرين، أصبحت الولايات المتحدة قطبا وحيدا، سيطرت على النظام الدولي وآليات عمله وتحكّمت بتفاعلاته، فحقّقت مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية، زادت من نفوذها وعزّزت قدراتها الردعية، ما أثار ردود أفعال إقليمية ودولية ضد هذه الهيمنة والسيطرة.
لم تمتلك القوتان الكبريان، روسيا والصين، المعترضتان على الهيمنة الأميركية، قدراتٍ ذاتيةً وازنةً لاحتوائها، فقد كانت الولايات المتحدة متفوقة وتمتلك معظم أوراق اللعبة، فلجأتا إلى تشكيل تكتلاتٍ وتحالفاتٍ مع دول تشاركها جلّ أهدافها أو بعضها؛ مجموعة البريكس، منظمة شنغهاي للتعاون، الاتحاد الجمركي الأوراسي، رابطة الدول المستقلة. وأطلقت الصين مشاريع وخططاً، منها البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (إيه. آي. آي. بي)، الذي أسّسته عام 2014 بمشاركة حوالى مائة دولة وبرأس مال قدره مائة مليار دولار لتقديم قروضٍ للدول الفقيرة. كذلك، مبادرة طريق واحد حزام واحد. كلّ ذلك كي تُحدِث تعديلاً في القدرات، وبتوازن القوى تالياً، لتشكيل ثقلٍ سياسيٍّ واقتصادي موازٍ يسمح بإجراء مساوماتٍ مع القوة الأميركية المهيمنة من أجل إرساء صيغ معدّلة أو جديدة للعلاقات الدولية السائدة تأخذ بالاعتبار مصالحها القومية، والدفع نحو صياغة عالم جديد قائم على الندّية والتعدّدية. وقد انطلق في العقدين الأخيرين تنافس محموم بين القوى العظمى على تجميع أوراق قوة وزيادتها وتوسيع دائرة نفوذها وتحالفاتها وزجّها في ساحات الصراع؛ ما قاد إلى توتّرٍ متصاعدٍ، في ضوء سعي روسيا والصين إلى تحدّي التفوق الأميركي، والعمل على احتوائه، والحدّ من هيمنته وسيطرته، بمنافسته في مجالات التقنية والاختراعات والاقتصاد والأسلحة، وتطوير أسلحة فائقة الدقة والسرعة، بما في ذلك أسلحة نووية، والاستحواذ على جزءٍ متزايد من حصّتها في هذه المجالات بشكلٍ متواتر، وسعي الولايات المتحدة إلى الحفاظ على مكانتها الدولية، عبر إعادة ترتيب أولوياتها لتّتسق مع ما تعتبره مخاطر داهمة على نفوذها ودورها في قيادة النظام الدولي، حيث بات مصير النظام الدولي القائم مرتبطاً بنجاحها في وقف تراجع دورها العالمي وتدهور مكانتها الدولية، ومتابعة السيطرة على التحوّلات والتطورات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية في العالم.
لذا لم يكن مفاجئا اعتبار “الوثيقة” روسيا والصين تحدّياً رئيساً، ميّزت الوثيقة بين روسيا، “روسيا التي تزعزع السلام في أوروبا، وتؤثر على الاستقرار العالمي، وتهدّد باستخدام الأسلحة النووية”، و”الصين التي تمثل التحدّي الأكبر والأكثر خطورة، حيث تمتلك النية، وبشكل متزايد، لإعادة تشكيل النظام الدولي لصالح نظام يميل لصالحها”، فالأولى “عدوانية وإمبريالية”، والثانية “تعديلية” تسعى إلى احتلال موقع في النظام الدولي القائم، واعتبار العقد الحالي حاسما للولايات المتحدة والنظام الدولي “القائم على القواعد” معا، فالنجاح في تثبيت النظام القائم تعزيز للدور والمكانة الأميركيين، فالمنافسة الاستراتيجية الكبيرة الدائرة مع روسيا والصين هدفها رسم مستقبل النظام الدولي. ما استدعى تشديد الاستراتيجية على التقارب المتزايد بين البلدين وما يفرضانه من تحديات مهمة، وتأكيدها على العمل وبشكل دائم للاحتفاظ بميزة تنافسية عن الصين، “الدولة الوحيدة التي لديها القوة المتزايدة من النواحي الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، لإعادة تشكيل النظام الدولي، بالإضافة لوجود النية لذلك لديها”، وتقييد روسيا “التي لا تزال شديدة الخطورة”.
ركزت الولايات المتحدة على احتواء الصين وعرقلة تقدّمها في مجالات التقنية الذكية والأسلحة عبر التحريض ضد نمط الحكم في الصين، وإبراز التباين الصارخ بين النظام الديمقراطي (وإيجابياته) والنظام الاستبدادي (وسلبياته)، فرض عقوبات اقتصادية ورسوم على الواردات الصينية ومحاربة التقنية الصينية في مجال الذكاء الاصطناعي، الجيل الخامس، وعرقلة حصولها على أشباه موصلات دقيقة، ونقل موارد عسكرية ضخمة إلى المحيطين الهندي والهادئ، وتشكيل تكتلاتٍ أمنيةٍ وعسكرية، تجمّع “كواد” الرباعي الاستراتيجي مع اليابان وأستراليا والهند وتحالف “أوكوس” مع الهند وأستراليا، وتفعيل اتفاقية التعاون والتنسيق الاستخباراتي (يوكيوسا)، القديمة والمستمرّة منذ 1946، مع كل من المملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا؛ وتوظيفها جميعها في تطويق الصين ومحاصرتها والحدّ من تمدّدها في الجوار الجغرافي ولجم طموحاتها الجيوسياسية، ليس في محيطها الإقليمي فقط، بل في كل المناطق، وتأسيس صندوقٍ مع دول مجموعة السبع لتمويل مشاريع البنية التحتية في الدول النامية، “الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار”، برأسمال قدره 600 مليار دولار للخمس سنوات المقبلة، للحد من اعتمادها على القروض الصينية. وسعت إلى إبعاد روسيا عن الصين، عبر مهادنة الأولى في ملفات ومناطق كثيرة، كي تحرم الصين من الحصول على أسلحة متطوّرة وخبرات في مجال تصنيعها.
وقد منح تبنّي إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، لاعتباراتٍ داخلية، خيارات الحد من التدخل الخارجي، والتعاون والعمل المشترك لمواجهة المشكلات والعمل على تحقيق المصالح بطرقٍ أقل تكلفة بشرياً ومادياً، من جهة، والتحوّل نحو آسيا لاحتواء الصين، من جهة ثانية، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، فرصة للضغط على الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) لوقف تمدّد الحلف نحو حدود روسيا الغربية، فرفع نبرة التحدّي وتوسّع في عرض العضلات واستخدام القوة ضد خصومه الداخليين والخارجيين، وانتقد بعنف ما أسماها الثورات الملوّنة التي وقعت في دول شرق أوروبا، انضمت دول منها إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وهاجم عام 2008 جورجيا وأقام جمهوريتين انفصاليتين على أجزاء من أراضيها، أبخازيا وأوسيتا الجنوبية، لاكتشاف حدود رد الفعل الغربي على ذلك، وقرّر الانسحاب من اتفاقات الحد من الأسلحة النووية مع الولايات المتحدة. وكرّر ضغطه العسكري عام 2014 باحتلال شبه جزيرة القرم وضمّها بعد استفتاء منسّق، وأرسل قواته إلى سورية عام 2015 لدعم النظام السوري في وجه ثورةٍ شعبية. وقد أغراه غياب الرد المباشر على غزو أوكرانيا عام 2022، على خلفية رفض حلف الناتو تمدّده شرقا وعدم تنفيذ أوكرانيا اتفاقية مينسك بإجراء استفتاءات ومنح منطقة الدونباس، حيث يعيش روسٌ قدّرت نسبتهم بـ 17.5% من سكان المنطقة، حكما ذاتيا في فيدرالية أوكرانية.
اعتُبرت معركة أوكرانيا اختبارا لمستقبل النظام الدولي القائم، حيث سيحدّد الطرف الفائز فيها بقاءه أو زواله وقيام نظام دولي جديد. وهذا يفسّر، إلى حد بعيد، سرعة تحرّك الولايات المتحدة وحلف الناتو للردّ على الغزو الروسي، بتسليح الجيش الأوكراني بأسلحةٍ متطوّرة وتدريب قواته والقوات الرديفة وتقديم دعم مالي سخي للحكومة الأوكرانية.
انطلقت الولايات المتحدة في ردّها على الغزو الروسي لأوكرانيا من اعتباره فرصة لضرب عصفورين بحجر واحد، كسر اندفاع الرئيس الروسي وعدوانيّته وتوجيه رسالة قوية إلى الرئيس الصيني، تنذره بما سيلاقيه في حال هاجم تايوان. وهذا جعل كسب معركة أوكرانيا مصيرية لروسيا والولايات المتحدة في الوقت نفسه. مصير روسيا والرئيس الروسي؛ وتطلّعه لتغيير النظام الدولي؛ تحدّدهما معركة أوكرانيا، ومستقبل النظام الدولي القائم واستقرار أوروبا تحدّدهما معركة أوكرانيا. وقد ترتب على هذه المراهنة القوية إصرار كلا طرفي الرهان على تحقيق نصر واضح. الرئيس الروسي من خلال رفع مستوى التحدي بالتلويح باستخدام أسلحة نووية والانتقال بالغزو من “عملية عسكرية خاصة” إلى “حرب الشعب الروسي كله” مرورا بتعبئةٍ جزئية، واعتماد سياسة الأرض المحروقة التي تعتمد على القتل والتدمير لدفع الأوكرانيين إلى الاستسلام والقبول بالشروط الروسية لإنهاء الحرب. الرئيس الأميركي فعّل الدور الأميركي بتعزيز الوجود العسكري الأميركي في أوروبا، دول البلطيق على وجه الخصوص، وزاد في دعم أوكرانيا بأسلحة متطوّرة وبعيدة المدى وتزويدها بالمعلومات الاستخبارية عن التحرّكات الروسية ومواقع تمركز القوات، والقادة على وجه التحديد، لتسهيل استهدافهم وإرباك الخطط الروسية. اعتبرت وثيقة الأمن القومي، التي أصدرتها الإدارة الأميركية أخيرا، روسيا تهديدا داهما للنظام الدولي الحرّ والمفتوح، وتنتهك القوانين الأساسية للنظام الدولي، كما يظهر من حربها العدوانية ضد أوكرانيا، فاللحظة السياسية الراهنة تعكس مخاضا دوليا على خلفية حصول تحوّلات استرتيجية اخترقت ركائز النظام الدولي، وغيّرت في توازن القوى، فقد شهد الوضع الدولي تحوّلات عميقة وواسعة بنهوض دول متوسطة وكبيرة وتحقيقها إنجازاتٍ في مجالات الصناعة والتقنية المتطوّرة المدنية والعسكرية والذكاء الاصطناعي، ما دفعها إلى لعب دور في النظام الدولي يتناسب مع قدراتها الجديدة ووضعها في مواجهة مباشرة مع القوة العظمى المسيطرة على النظام الدولي القائم، الولايات المتحدة، وتحدّيها في أكثر من منطقة وفي أكثر من مجال، خصوصا بعد أن اهتزّت صورتها وتآكلت قدرتها الردعية في ضوء نتائج غزوتيها السلبيتين للعراق وأفغانستان، وانسحابها الفوضوي من الأخيرة، الذي اعتبرته تقديرات سياسية بداية انحسار القوة العظمى الوحيدة المهيمنة، وفرصة لاحتلال قوى كبرى مواقف متقدّمة في النظام الدولي والتحوّل إلى أقطاب منافسة. ولكن نتيجة المواجهة غير محسومة في ضوء تباين الإمكانات، حيث التفوّق الأميركي، رغم النكسات، ما زال راجحا، والتباينات بين روسيا والصين لا تجعل هدفهما واحدا، ما يجعل قدراتهما تتفاضل أكثر مما تتكامل.
المصدر: العربي الجديد