شكّل التعثر الروسي في الحرب ضد أوكرانيا فرصةً ثمينة للسوريين، كي يتوقفوا عن السير في مسارات روسيا التي بدأت مع التدخل الروسي في سورية 2015؛ ودفعَ التعثر ذاك روسيا إلى سحب منظومات للدفاع الجوي وقادة وجنود، ونقلوا قوات من هناك إلى جبهات أوكرانيا. منذ منتصف الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) بدأت انتفاضة واسعة في إيران، وما تزال تتفاعل، وتتوسّع في مدنها، وهذا يضعف إيران إقليمياً، وفي سورية خصوصاً، حيث كانت قد ملأت الفراغ الروسي. هناك حاليا فراغان، روسي وإيراني، وإن لم يبدأ بعد تأثير نتائج الانتفاضة على الوجود الإيراني في سورية والمنطقة، والبدء بالانسحاب. لن نناقش خطورة ثلاثة مشاريع جديدة، تقدّمت بها الأردن وتركيا، وكذلك أميركا وأوروبا المنشغلتان في أوكرانيا، وتريد الأخيرتان تفعيل مسار الخطوة خطوة عبر مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية، بيدرسون. وتتحرك هذه المشاريع ضمن مسار المصالحة بين المعارضة والنظام، وهو ما يرفضه الأخير، واضطرّت المعارضة، التي وافقت على مسار روسيا التفريطي بحقوق السوريين، على رفض هذه المشاريع، ولنقل لا تقوى على الموافقة عليها علنا، بسبب الرفض الشعبي الواسع لها.
دخلت الحرب الروسية، أخيراً، في مرحلةٍ خطيرة، سيما بعد ضم بوتين المناطق الأوكرانية الأربع، وتفجير جسر القرم، والتهديد بالنووي، وبنقل الحرب من عملية عسكرية جزئية إلى حرب شاملة. وفي الضفة المعاكسة، هناك الرفض الأميركي والأوروبي للتصعيد الروسي، والاستمرار بمدّ أوكرانيا بالسلاح. هذه التطورات، وكما سلف أعلاه، تقول إنّ طرفي الصراع في أوكرانيا لا يضعان سورية على طاولة التفاوض، وإنْ كانا يميلان إلى اتفاقٍ قديم، ينطلق من بقاء النظام، وضرورة إجبار المعارضة على المصالحة معه، وإجباره أيضاً على تقديم بعض التنازلات، وهذا دونه ألف تعقيد، بدءاً برفض النظام لأيّ إصلاح فيه.
تؤكّد الفقرة السابقة الضعف الروسي الشديد، وعدم قدرة موسكو على فتح معارك واسعة في سورية من جديد، وإيران ليست قادرة على تعويض النقص والضعف هذا، سيما أنّ المشاريع الثلاثة أعلاه لا تأتي على هوى إيران، ومبادرة الأردن في بعض أوجهها ضد الوجود الإيراني في سورية. ويعطي هذا الضعف فرصة قوية لاستعادة تنشيط الوضع السوري عبر السوريين، سيما أنّ أوضاع المناطق تحت سيطرة النظام في أسوأ أحوالها، نظراً إلى الأزمات العميقة التي تعانيها، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وبخصوص أزمة السلطة، فهي تتفاعل ضمن اتجاهاتٍ متعدّدة في السلطة، وهناك تآكل ثقة المؤيدين لها بفعل عدم قدرة السلطة على تلبية أي احتياجات للمواطنين، وتتالي انهيار العملة السورية، وبالتالي، انهيار أوضاع السكان بشكل كامل.
ما يُضعف قدرة السوريين على استثمار تلك الفرص سيطرة تركيا على الفصائل، وعلى مناطق هيئة تحرير الشام، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ومؤسسته في أسوأ أحوالها. أصبحت الفصائل هذه عرضة للنهب وللقمع وللاغتيال وللجباية، وتنفيذ ما تريده تركيا منها، والأخيرة وبسبب الانتخابات المقبلة فيها، تسعى نحو التطبيع مع النظام، وبالتالي، تُغلق الفرص التي فتحتها جبهات أوكرانيا والانتفاضة الإيرانية للسوريين. لم تتوقف هيئة تحرير الشام، منذ سنوات، عن تسويق نفسها أمام روسيا والنظام وأميركا، ولهذا تفتح المعابر مع النظام، وتقمع المتظاهرين، وتُشيد نظاماً أمنياً بامتياز، وتخضع بدورها للمشيئة التركية، وتقمع المواطنين عن التعبير عن رفضهم سياساتها أو لفتح المعابر أو “المصالحة” مع النظام، وهذا ما يجري فعلياً عبر المعابر والامتناع عن فتح الجبهات.
تتحرك قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بأفقٍ وحيد، ينطلق من التصالح مع النظام، بدفعٍ أميركي وروسي، ويشكل هذا الدفع خيارها الوحيد لتتفادى حربٍ مع تركيا، وتخسر كل شيء بموجبه. غياب أية مشتركات بينها وبين الفصائل أو الائتلاف الوطني، يساهم في ضعف كل هذه الأطراف أمام تركيا وروسيا وأميركا، وبالتأكيد النظام السوري.
ليست مشكلة السوريين فقط في النظام وقوى الأمر الواقع، وربما بسببها كذلك، تنعدم كل أشكال الفعل المجتمعي، والقوى السياسية البديلة، وتضعف قوة الشعب لاستثمار الفرص، الروسية والإيرانية. وبالتالي، لا يمتلك الشعب في المناطق السورية الأربع أية قدرات مستقلة على إنشاء تحالفات أو قوى مجتمعية منظمة، تساهم في تغيير الوضع المتأزّم بشدة.
شكّلت الحرب الروسية على أوكرانيا واقعاً عالمياً جديداً، ويبدأ من أزماتٍ كبرى في الطاقة والغذاء، وربما تندلع حروب جديدة هنا وهناك. وتتفاعل هذه الأزمات وتنتج انتفاضات جديدة، كما الحال في إيران، وخطورة الوضع بين تركيا واليونان واستمرار الأوضاع برداءتها في كل من لبنان والعراق واليمن، وبالتالي، ليس هناك تفكير دولي بإيقاف الحروب والأزمات، والانتقال إلى التفاوض لحل هذه المشكلات؛ فالأزمة الأوكرانية تتفاقم يومياً، ومثلها السورية، والآن الوضع الإيراني مرشّح للمزيد من التوتر، ولن نتحدث عن الخطر النووي، وهو موضوع نقاش دولي واسع، وفي حال لجأت روسيا إليه، فسيعني تأزماً دولياً أكبر.
عربياً، ليست هناك استجابة لهذه الفرص، أقصد ليس هناك توافقات عربية عربية تنهي ملفات كل من سورية واليمن وليبيا والسودان والعراق. الدول العربية متضاربة في سياساتها، والأخيرة مثقلة بقضاياها الداخلية، أو بالضعف الشديد إزاء الأزمات الدولية، وكذلك تجاه كلٍّ من إيران وتركيا وإسرائيل. لا يمتلك السوريون من أمرهم شئياً كما يبدو، ولم يعد النقاش السياسي عن أوضاعهم مفيداً إن تجاهل الأوضاع الراهنة، وأقصد إن ظل يدور في ثنائية النظام والمعارضة، أو الانقسامات الطائفية والقومية أو انتظار الحلول الدولية. ويعاني النظام السوري تأزماً شديداً، فهو غير قادر على مواجهة أية أزمة يعانيها الشعب، ويمعن في خياراته العسكرية والأمنية، وفي التبعية لكل من إيران وروسيا؛ ضعفه وأزماته سبب هذه التبعية، وهذا ما لا تغيير فيه حاليا. المعارضة والفصائل خاضعة وتابعة ومفكّكة، ولا تشكل بديلاً عن النظام.
رغم كارثية الوضع العام للشعب السوري، وقد أشير إلى بعضها، سيظلّ تزايد الأزمات العالمية والإقليمية، ولا سيما في إيران، يتيح فرصاً ثمينة للتحرّك وطنياً، وطرح مشروع وطني، يتجاوز النظام والمعارضة المأزومين، ومنذ 2011، وبما يستجيب لحاجة السوريين إلى وطنٍ جامع لهم، والوصول إلى حقوقهم المتعدّدة، وبدءاً من تأمين فرص العمل والنهوض الاقتصادي، وليس انتهاء بنظامٍ ديمقراطي، يحقّق مصالح السوريين في العدالة الاجتماعية والحرّيات العامة.
المصدر: العربي الجديد