يوحنا إبراهيم الذي لم يعد مطراناً لحلب

حسام جزماتي

في اليوم الأول من هذا العام بثت قناة “الميادين”، المقرّبة من حزب الله في لبنان، الحلقة الأخيرة من برنامجها “أجراس المشرق”، المختص بالشأن المسيحي في الشرق، بعد عشر سنوات على إطلاقه. وفي هذه الحلقة، التي استضافت بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، أفرام الثاني، طُرح علناً، لأول مرة، الوضع الانتقالي الذي تعيشه أبرشية حلب للطائفة بعد اختطاف مطرانها يوحنا إبراهيم وتعيين “معتمد بطريركي” لتسيير شؤونها مؤقتاً ريثما تنجلي الصورة.

ففي هذه المقابلة سأل معدّ البرنامج ومقدّمه: “هل ستبقون تنتظرون؟” فأجاب البطريرك أنهم يواجهون وضعاً غير مسبوق في تاريخ الكنيسة لا يعالجه دستورها، وعلى الرغم من الألم وتناقض المشاعر والارتباك يجب الوصول إلى “خاتمة” لهذا الموضوع.

إلى هذه المقابلة يُرجع البعض بدء الإجراءات التي قضت بالإعلان عن شغور منصب مطران السريان الأرثوذكس في حلب، مما يعني طيّ ملف اختفاء يوحنا إبراهيم عملياً دون الوصول إلى تأكيد عن مصيره سلباً أو إيجاباً، وصولاً إلى الاحتفال بقداس أقيم بمناسبة تجليس خلف له على الكرسي مساء السبت الماضي.

ولد يوحنا إبراهيم في القامشلي عام 1948، وتعلّم في مدارسها السريانية قبل أن يتجه إلى السلك الديني ويقضي السنوات التالية بين دراسة اللاهوت والفلسفة والتاريخ وبين التدرج في الخدمة الكنسية متنقلاً، حتى استقر أخيراً مطراناً لطائفته في حلب منذ آذار 1979 وحتى اختطافه في نيسان 2013، لم يغادرها إلا لعامين في أواسط الثمانينيات لإعداد رسالته الدكتوراه عن “القبائل العربية النصرانية في بلاد ما بين النهرين قبل الإسلام” من جامعة برمنغهام بإنكلترا، وذلك عدا أسفاره الكثيرة للمشاركة في مؤتمرات ولجان عالمية وإقليمية في المجالات الكنسية.

اشتهر بثقافته. أتقن عدة لغات. ترك مكتبة من عشرين ألف كتاب. أسّس دار نشر عنيت بطباعة التراث السرياني، وأصدر باسمه عدة كتب، تأليفاً أو جمعاً أو تقديماً، أشهرها كتاب “قبول الآخر” صدر عام 2006 بمناسبة الاحتفال بحلب عاصمة للثقافة الإسلامية. وفيه يستعرض قصصاً من التراث الديني المسيحي تعين على فهم فكرة قبول الآخر، ويرى أن تعاليم المسيحية والإسلام تتفق على استلهام تصورهما لجوهر هوية الإنسان. ويتناول تاريخ المدن المسيحية الأولى والدور الحضاري لها، والأثر الكبير الذي تركه السريان في الحياة الفكرية والعلمية ببلاد الشام، وترحيب الكنائس الشرقية بالفاتحين المسلمين والتعاون معهم للخلاص من البيزنطيين. وصولاً في النهاية إلى الألفية الثالثة التي كبرت فيها مسؤولية الحفاظ على العيش المشترك والتكامل لمواجهة تحديات العنف والتطرف بالكرامة والمعاملة العادلة.

في نشاطه الاجتماعي الدؤوب، الذي تجاوز رعاية الخدمات الإنسانية لطائفته، اشتهر المطران يوحنا بعلاقاته القوية والواسعة مع رموز المجتمع الحلبي، ونشأت بينه وبين شيوخ الدين الإسلامي صداقات متينة تسودها الشفافية. عندما وصل إلى هذه المدينة التي سيرتبط اسمه بها كانت تخوض صراعها مع السلطة ولم يغفل عن ملاحظة ذلك وتذكره. صحيح أن الإسلاميين كانوا مركز الأحداث غير أن الأمر تعداهم إلى النقابات المهنية والأحزاب. وبعدها شهد دخول حلب، وعموم البلاد، في دائرة الخوف الذي استمر طويلاً.

في آذار 2011، عندما اندلعت الاحتجاجات، كان يوحنا إبراهيم كبير مطارنة حلب، بما أنه الأقدم بينهم، وكان المرشح الأبرز في طائفته لخلافة البطريرك العجوز. ومع مرور الأشهر كان موقفه المبدئي في الحفاظ على سوريا وإدانة القتل يتطور ليصبح أوضح في تحديد مسؤولية النظام، ولا سيما في اللقاءات الخارجية التي كان يُدعى إليها وتصريحاته لوسائل الإعلام غير المحلية.

وخلال سنتين من عمر الثورة بنى علاقات وثيقة مع معارضين معروفين، وحتى مع قادة ميدانيين للقوى العسكرية الناشئة إثر تحول الحراك إلى مسلّح، كان يلتقيهم في رحلاته المتعددة إلى مناطق الريف الحلبي والإدلبي التي خرجت عن سيطرة النظام، بهدف إنجاز صفقات تبادل أسرى مع معتقلين لدى النظام، أو تحرير مخطوفين، أو استعادة جثث ليدفنها ذووها بشكل لائق. ويتفق من عرفوه في تلك المهام والمناطق على وصفه بالشجاعة والانفتاح والتبسط، وعلى ما لاقاه من تقدير واحترام لموقعه الأبوي. وفي قلب ذلك كان يكمن إحساسه العميق بأنه سوري حقيقي، ابن القوم الذين منحوا البلاد اسمها، وأنه لا يخشى السوريين.

كانت آخر مهام المطران يوحنا إبراهيم في 22 من نيسان 2013، عندما سافر إلى أقصى الحدود لاستلام كاهنين كانا قد خُطفا قبل ذلك بأكثر من شهرين. أخفق الأمر بسبب مراوغة الخاطفين، واتجه إبراهيم للعودة إلى مدينة حلب الواقعة تحت سيطرة النظام، مصطحباً معه المطران بولس اليازجي، متروبوليت حلب والإسكندرون للروم الأرثوذكس، الذي كان عائداً ذلك اليوم، بالصدفة المحضة، من خلوة روحية. وفي المنطقة الفاصلة بين آخر حاجز للجيش الحر وأول حاجز للنظام اعترضت طريقهما سيارة يقودها مسلحون آسيويون بمظاهر وملابس جهادية. ومنذ ذلك اليوم لم يُعرف عن المطرانين خبر جاد موثوق رغم محاولات عديدة بذلتها جهات مختلفة واهتمام على أعلى المستويات وصل حتى الفاتيكان في روما والبيت الأبيض في واشنطن والكرملين في موسكو وعواصم إقليمية.

رغم مشهدية الخطف التي تشير إلى مهاجرين إسلاميين بوضوح، وربما بسبب ذلك، يعتقد الكثيرون أن ما جرى كان تمثيلية قُصد منها ترك هذا الانطباع لدى الشهود. وأن المستفيد الوحيد من تغييب المطران يوحنا إبراهيم هو النظام، بالنظر إلى مواقفه الناقدة المتصاعدة وأهميته المتزايدة لو صار بطريركاً زعيماً لطائفته في العالم. ولذلك لا ينظرون ببراءة إلى تعيين خلف له، بل يرون في ذلك رغبة من الفاعلين في طيّ الملف دون التأكد من مصير المطران حياة أو موتاً، ودون انتظار بلوغه عمر التقاعد الرسمي، أو مرور عشر سنوات على اختفائه، في العام القادم. وهم لا يستثنون البطريرك الحالي من تهمة التواطؤ على الدفن الرمزي لرجل كان صاحب فضل عليه شخصياً، ولم يكن ليصل إلى كرسيّه لو كان موجوداً. يقرّ أفرام الثاني بذلك، واصفاً المطران يوحنا إبراهيم بأنه “أكثر من أخ. هو مرشد، معلّم”، لكنه يقول إن رعاية أمور الأبرشية واجب يستلزم قرارات صعبة!!

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى