مع خيوط الصباح الأولى، تضع أم ياسر الطحين في الطشت وتضيف إليه بعض الماء وتلوشه بكلتا يديها بهمة ونشاط ثم تتركه بعض الوقت ليختمر وتتحول لتُصلي التنور المجاور لخيمتها في مخيم الضياء قرب سرمدا، أم ياسر نازحة من ريف المعرة الغربي منذ أربع سنوات، تضع في التنور بعض القرم والأعواد اليابسة التي لمتها من الجبل المجاور للمخيم.
تقول أم ياسر: لخبز التنور نكهة لا تتوفر في خبز الفرن، مع ما يرافق عملية الخبز على التنور من تجمع الجارات والأحاديث الصباحية المرافقة والتي تشمل هموم النزوح وغلاء المعيشة وآمال العودة إلى الديار.
وتتابع أم ياسر: تتناوب عدد من جاراتي على عملية الخبز، وذلك لمساعدة بعضنا البعض ولكسب صِلية التنور وتوفير الحطب، حيث تستمر عملية الخبز حتى وقت الظهيرة، ويرافق ذلك توزيع أرغفة الخبز على الجيران.
دعينا على تناول الإفطار في أحد المخيمات (خبز بفليفة) في صباح أحد الأيام، رحب بنا أبوعبد الله وأجلسنا في فسحة صغيرة جانب الخيمة، ووضعت أم عبد الله (جونية) الخبز الأحمر بيننا لتفوح منه رائحة الأرض وعبق الماضي ومن حوله زيت الزيتون وإبريق الشاي.
صاحت إحدى الجارات على أم عبدالله وطلبت منها رغيفين من خبز التنور لزوجها وضيفه وأخبرتها أن الضيف مرّ من جانب التنور واشتهى خبزه ولكنه خجل أن يطلب من النساء، فما كان منه إلا أن لجأ لزوجها وأخبره الأمر.
وتضيف أم عبد الله أن أكثر ما تخبزه يذهب (نور وإيمان)، نوزعه للأقارب والجيران ولكل من يمرّ من طريق التنور.
صحيفة إشراق سألت أبا عبدالله عن سبب تفضيله لخبز التنور، ردّ مبتسمًا: خبز التنور يعني لي جملة من الذكريات، يذكرني بأمي وأبي، يذكرني ببيتي وجيراني، بصباحات بلدتي الجميلة، رغم غلاء الحطب وارتفاع سعر الطحين إلى ما يقرب عشر ليرات للكيلوغرام ، إلا أن ذلك لا يمنعنا من الخبْز على التنور.
أم محمد اختصت في تصنيع (التنانير)، حيث تحضر التربة المناسبة من منطقة كفرلوسين المحاذية للسور التركي، وتضيف لها التبن الناعم وتدقها بمطرقة خشبية على فترات متقطعة وتفرشها في الشارع الفرعي المجاور تحت عجلات السيارات، وتبدأ تصنيع عدة تنانير مع بعضها بحيث تقسم التنور إلى عدة أدوار وكل يوم تضيف دور وتنتظر إلى اليوم التالي لتضيف دورًا آخر، وتقول أم محمد: تحتاج صناعة التنور لتربة خاصة صفراء اللون تسمى ب (الحال) وينحصر وجودها في مناطق محددة من إدلب، ويتم خلط التربة الصفراء بالقش والماء، ونبدأ بتصنيع التنور حتى يأخذ شكله الدائري، ونتركه تحت أشعة الشمس ليجف، نقوم بتجهيزه في المكان المخصص له بعد إضافة مصطبة خاصة ليوضع عليها العجين، بعد أن صنعت تنورًا لها وشاهده الجيران، أعجبتهم الفكرة وبدؤوا يطلبون منها أن تصنع تنورًا لكل منهم، والآن يستغرق مني تصنيع التنور مدة أسبوع، وأبيعه بمبلغ يتراوح ما بين مئتين إلى خمسمائة ليرة تركية وهذا المبلغ يساعدنا في تحمل تكاليف الحياة، إضافة إلى أن صناعة خبز التنور تعتبر جزءاً من التراث الشعبي في المنطقة ولا يمكننا الاستغناء عنها.
يترافق إعداد الخبز مع عادات متوارثة وجميلة، تتمثل بالمحبة وجمعةِ الجارات وإطعام الكبار والصغار، ورغم توفر خبز الأفران في مخيمات الشمال، إلا أن أعدادًا من العائلات ماتزال تحافظ على إعداد الخبز على التنور بازدياد رغم ما يحتاجه من تعب وجهد، نظراً لطعمه المميز والمحبب، وفوائده الصحية.
أما أم ياسر وهي نازحة من جبل الزاوية إلى أحد مخيمات الدانا، تقف على التنور وتعطي تعليمات الخبز لمن حولها من البنات المتدربات على الخبز وكأنها تعطيهن دورة عملية على إنتاج خبز التنور: يتطلب إعداد الخبز مهارة وخبرة من قبل النساء، وسرعة كبيرة للاستفادة قدر الإمكان من اشتعال الحطب داخل التنور، يترافق ذلك مع ضرورة الاستيقاظ باكراً لعجن الطحين بعد نخله وتنظيفه، وتركه لمدة ساعة ليختمر، وتبدأ المرحلة الثانية بتقطيع العجين ثم إشعال التنور، ويتم المباشرة بعملية رقّ قطع العجين وتلويح الرغيف لتتسع مساحتها الدائرية، ثم وضعها على “الكارة” لخبزها داخل التنور، كما درجت العادة أن من يشتم رائحة الخبز الطازج ينال نصيباً منه، كما تجتهد الأمهات في تعليم بناتهن على إعداد خبز التنور، للحفاظ على النكهة المميزة والعادة المتوارثة عبر الأجيال حسب كلام أم ياسر.
بعض النساء اتخذن من إعداد الخبز مهنة لهن يسعين من خلالها لتأمين متطلبات الحياة وتحسين أحوالهن المعيشية، أم سمير نازحة وعندها ولدين وهي مطلقة أيضًا، تعمل مع جارتها في الفترة الصباحية جانب المخيم لبيع فطائر الجبنة والزعتر والتي تخبزها على التنور مقابل أجرة تصل إلى ثلاثين ليرة.
وقالت: بعد وفاة زوجي لم أحصل على أي فرصة عمل أعين بها نفسي وأولادي، ثم خطر لي أن أستغل مهارتي في صناعة الخبز، وبدأت العمل بالفعل، وأنها تخبز بالأجرة للجاراتها وتتقاضى مبلغ ثلاث ليرات تركية عن إعداد كل كيلو غرام من الطحين، حيث يقدمن الطحين والخميرة، فيما تؤمن هي الحطب من الأحراش المجاورة، وأضافت إلا أن الأغلبية ممن تُعدُّ لهنَّ الخبز يطلبن أرغفة الخبز المدهونة بالزعتر أو الفليفلة الحمراء المخلوطة بالزيت والتوابل.
أبو تيسير وهو نازح من بلدة حاس إلى مخيمات سرمدا ويبلغ ٦٥ عامًا حدثنا عن حبه لخبز التنور وأنه يثير في نفسه شجون وذكريات الماضي الجميل، ويقول إن لقمة من خبز التنور أفضل عنده من خمسين رغيف خبز عادي، والتنور لا يعني لنا الخبز فقط بل هو حلقة تواصل اجتماعي، وذكريات عالقة في ذاكرتنا لا يمحوها الزمن وقسوة النزوح والتهجير، وذلك لأن أجمل ساعات الصباح، هي تلك الممزوجة برائحة الخبز، ولمة الجيران والأقارب والأصدقاء قرب التنور، لتناقل الأخبار وتبادل الأحاديث والضحكات مع تناول الخبز الساخن، أما في هذه الأيام الكالحة يمكننا عمل خبز التنور، ولكن كيف لنا أن نستحضر لمة الأهل والجيران؟ ودعنا المخيمات وفي جعبتنا عدد من أرغفة خبز التنور، تبعث في نفسنا الحنين وترسم الأمل بالعودة.
المصدر: إشراق