اتسمت سياسه الولايات المتحدة خلال العقدين السابقين، بانسحاب تدريجي من الشرق الأوسط والتركيز على احتواء الأحلام النووية العسكرية للنظام الإيراني الإرهابي، ونجحت في عهد أوباما بتوقيع اتفاق، فتدفقت المليارات إلى إيران، وتم السماح لها بإطلاق يدها وأذرعها لتمديد نفوذها وتهديد دول المنطقة.
ثم أتى ترامب وألغى اتفاق أوباما – بايدن لعدة أسباب منها، أن الاتفاق لا يشمل حصر تطوير الصواريخ البالستية ولا يضبط تماماً البرنامج النووي، واحتمال الحصول على القنبله النووية.
ورغم أن الهدف العريض لهذه الاستراتيجية لم يتغير بتغير الرؤساء سواء الجمهوريين أو الديمقراطيين، ولكن أسلوب وكيفية تنفيذها ومدى وشدة الضغط كان يختلف من إدارة إلى أخرى حسب الانتماء الحزبي للرؤساء الثلاثة السابقين.
إذ يبدو أن التفارق واضحاً بين سياستي الحزبين (الجمهوري والديمقراطي) الأمريكيين حيال صراعات الشرق الأوسط، فبينما تذهب سياسة الحزب الجمهوري إلى توطيد العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين وتشديد الضغط والعقوبات على النظام الإيراني، يذهب الديمقراطيون إلى اتجاه مناقض يتمثّل بتخفيف العقوبات والضغوط على النظام الإيراني، وبفرض حصار على سياسات الحلفاء التقليديين كالسعودية وتركيا لصالح أعدائهما.
سياسة الديمقراطيين هذه يقف خلف هندستها مسؤول ملف الشرق الأوسط وكواليسها السيد بريت ماكغورك، فهذا الرجل يملك عقلاً عجيباً يتخيّل من خلاله، أن بإمكانه إعادة إنتاج سياسات المنطقة وفق رؤيته، هذه الرؤية تهمل في حساباتها مصالح الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في المنطقة، لصالح إضعاف هؤلاء الحلفاء من خلال دعم قوى معادية لهم، كرفع الحوثيين عن قائمة العقوبات نكاية بالمملكة العربية السعودية، ودعم وتسليح الـ PKK عبر ذراعه السوري المسماة (قوات سوريا الديمقراطية) نكاية بتركيا.
سياسة الديمقراطيين هذه، التي يصنعها ماكغورك، ويتفاخر بإعلانها جو بايدن، هي من يقف خلف قرار السعودية وأوبك بخفض إنتاج النفط بدءاً من أول نوفمبر القادم.
رفض السعوديين لطلب بايدن بشأن زيادة إنتاج النفط رفض مُحقٌ، فهل هناك من يعمل ضد مصالحه، فزيادة إنتاج النفط تعمل ضد مصالح السعودية ودول الأوبك، وبايدن يريد من السعوديين معاونته في حربه ضد الروس الذين يشنون حرباً ضد أوكرانيا، متناسياً أنه لا يهتم بمصالح السعوديين، وهو يبحث عبر هندسة سياسة بريت ماكغورك الحمقاء عن إرضاء إيران العدو الإقليمي للسعوديين، ويريد من السعوديين أن يتقبلوا نقدهم بخصوص (أسطوانتهم المشروخة) حول حقوق الإنسان، في وقت يتم التغاضي فيه عن حزب تصنّفه الولايات المتحدة حزباً إرهابياً.
هذا التناقض في سياسة الديمقراطيين حيال الشرق الأوسط تقف خلفه مفاهيم بريت ماكغورك، هذا الرجل يفكّر ويعمل خارج صندوق المصالح الحيوية لدولة الولايات المتحدة، فهو يتقصد التغاضي عن حزب إرهابي اسمه (حزب العمال الكردستاني التركي)، ولهذا تنعكس سياساته على مواقف حلفاء المتحدة الأمريكية، وتدفع هؤلاء الحلفاء إلى اتخاذ مواقف وسياسات تتوافق ومصالح بلدانها، سياسات لا يمكن أن تقدّم تنازلات تضرّ بمصالحهم.
وفق هذه الرؤية، يمكن تفهّم سياسة المملكة العربية السعودية من عدم الانجرار خلف قطار العقوبات الأمريكي على روسيا، وكذلك فهم موقفهم الرافض بزيادة إنتاج النفط دعماً لسياسة أمريكية تعاديهم علناً.
الغريب في الأمر أن الأمريكيين يعرفون أن مصالح بلادهم يمكن تحقيقها بالمحافظة على الدول الحليفة لهم تاريخياً في الشرق الأوسط، وخاصةً بعد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، الوقت الذي أصبحت فيه أمريكا بأمس الحاجه فيه لحلفائها، ومع ذلك يقدم السيد ماكغورك قراءة لمصالح بلاده بصورة غير واقعية وغير منتجة، ولا يعترف بأخطاء وويلات وعواقب سياسته الخرقاء التي أنتجت هذا الخراب الذي نحن فيه من تشتت حلفائنا، ليبدأ فيها تسرّب الحلفاء التقليديين من دائرة التحالف مع أمريكا، وهذا ملموس لدى مواقف دول هامة في المنطقة كتركيا والسعودية ومصر.
فليس معقولاً أن تكون حليفاً للسعوديين، ويطلب ماكغورك منع تزويدهم بالأسلحة لمواجهة الاختراق الإيراني لدولة اليمن عبر ذراع طائفية تُطلق على نفسها اسم (الحوثيون). وليس معقولاً كذلك أن تُغمض سياسة بايدن عينيها عن صواريخ حوثية بعيدة المدى مصدرها إيران تتساقط من وقت لآخر على المدن السعودية. والأهم من ذلك كيف ترفع إدارة بايدن العقوبات عن تنظيم تصنّفه بأنه تنظيمٌ إرهابي (الحوثيون)، في وقت يصرّح فيه المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي قائلاً: “نحن بصدد إعادة تقييم للعلاقة بين الولايات المتحدة والسعودية”.
هذه السياسة متبعة أيضاً مع تركيا الحليف التاريخي، فالسيد بريت ماكغورك يذهب دائماً للقاءات مع قيادات ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية، هذه الميليشيا هي صناعة أمريكية أراد من خلالها بريت ماكغورك إزعاج وإشغال الأتراك واستنزافهم، وهي سياسة تصبّ في نهاية الأمر ضد مصالح الدولة التركية، وتمسّ أمنها القومي، ومع ذلك يرفض بايدن ويستاء من أي تقارب تركي/روسي، معتبراً إياه معادياً لسياسات بلاده، في وقت تمارس إدارته علناً سياسة لا تنمّ عن حليف، بل سياسة تريد في نهاية الأمر احتواء الآخر.
وفق هذه المعطيات الملموسة في سياسة السعودية حيال تخفيض إنتاج النفط بالتعاون مع أوبك بمقدار مليوني برميل يومياً، يمكن فهم الأهداف السعودية وقراءتها، فالسعوديون لا يمنحون نفطاً رخيصاً مقابل لا شيء، لا بل يدركون أن تخفيض أسعاره ليس في مصلحتهم بل في مصلحة إدارة بايدن، التي تعتمد نظريات ماكغورك المخرّبة للتحالفات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين.
السعوديون يريدون تحقيق مقولة (النفط مقابل الأمن)، وهذا يعني أن تقوم إدارة بايدن بإعادة إنتاج سياستها بما يتفق تاريخياً مع سياسات الولايات المتحدة لأكثر من سبعين عاماً، وهذا يتطلب من الإدارة الأمريكية إبعاد ماكغورك عدو التحالفات التقليدية عن أي موقع سياسي يخصّ المنطقة، فهل سيفعل بايدن ذلك، أم أن الأمر تأخر كثيراً، سيّما وأن الانتخابات النصفية للكونغرس تقترب أيامها.
لقد خذل الديمقراطيون الخليجيين في حربهم ضد الاختراق الإيراني لليمن، ويريدون اليوم من الخليجيين أن يلبوا طلباتهم المضرّة لبلدانهم، وهذا لن يحدث، فهذه الدول بدأت منذ زمن لا بأس به البحث عن توازنات في سياساتها الدولية، وتحديداً الموازنة في سياستها حيال الأمريكيين والروس، وهذا سينعكس وفق استطلاعات الرأي الأمريكية على خسارة مدوية ستلحق بهم في الانتخابات النصفية المرتقبة.
إن استطلاعاً حديثاً أجرته CNN استنتج أن هناك نسبه عالية من الشعب الأمريكي تتجه نحو التصويت للجمهوريين في انتخابات الكونجرس القادمة.
إن سياسة أمريكية حيال الشرق الأوسط يرسمها بريت ماكغورك، برضى من بايدن إنما مصيرها الهزيمة الانتخابية بلا أدنى شك، ونأمل أن يصحو الرئيس بايدن لهول الأخطاء الفادحة التي تسبب فيها موظفه ماكغورك، ولكن يبدو أن الوقت قد تأخر كثيراً.
المصدر: نينار برس