إن سؤالاً كهذا لا يطرحه كبار السن فحسب، الكبار الذين عاصروا عبد الناصر وواكبوا تجربته وعاشوا فكره يوماً بيوم، السؤال اليوم يُطرح ممن هم أصغر بكثير من ذلك، ولربما من يطرحه ولد بعد عقود من وفاة عبد الناصر، وإنه سؤال أكبر من أن نجد له جواباً، لأن الإجابة في صدر كلِ من آمن بهدف الحرية والاشتراكية والوحدة، هدف وحدة الأمة العربية التي تتمزق أطرافها يوماً بعد آخر.
البعض، ممن تشبعوا حقداً وكرهاً لعبد الناصر سيزعمون أن هذا تقديس وتأليه لشخصه، بل ويغالون بأكثر من ذلك ليقولوا مالا يقال، ويكفروا ويخونوا، لكننا سنكتفي بغض الطرف عنهم، فنحن سعداء جداً لأنهم عبروا عن رأيهم، لأن مواجهتنا وحربنا ليست معهم وليست مع الضحايا؛ هم فعلاً ضحايا، لما قد كتب زوراً وتدليساً بحق عبد الناصر، وما أنصف التاريخ للأسف أحداً، فتاريخنا يكتبه القادة المرتبطون والخانعون، وتاريخنا ممرغ بالوحل!
ليس من قبيل الصدفة أن يتظاهر آلاف الفلسطينيين رافعين صور عبد الناصر، وأن تخرج صور عبد الناصر في العواصم العربية احتجاجاً على أحداث غزو العراق، وأن تخرج الجاليات العربية في دول الغرب حاملةً صور عبد الناصر، فلو كان عبد الناصر حياً لما سمح لأمريكا أن تضرب العراق فضلاً عن احتلاله؛ وإن فعلت فكان قد جيش الشعوب العربية كلها في خندق واحد هو خندق المعركة، ولكان أيضاً قد ردم قناة السويس على أن يدعْ القوات الأمريكية والبريطانية تعبرها لضرب العراق، ولو كان حياً لما تجرأ الصهاينة أن يدنسوا فلسطين بمساجدها وكنائسها، بشعبها وزرعها بروحها وحجرها، ولا تجرأ السادات اللعين أن يبيع أرض الكنانة لهؤلاء الصهاينة، ولا داس أرض مصر صهيوني واحد، ولا تجرأ أحد بالتفريط لصالح الصهاينة والتطبيع معهم في زمن قد سكت هؤلاء الحكام على النهب والتهجير والقتل ضد شعوبنا، ولا تجرأ نظام القتل في سورية على ارتكاباته وجرائمه، فضلاً عن استدعاء قوى الاحتلال وميليشياته ليستقوي بها على شعبه.
مازال البعض منا يذكر عبد الناصر، وبالكتب على الأغلب، نتذكر يوم العدوان الثلاثي على مصر، وكيف ثارت ثائرة العرب كلهم، كيف هب جول جمال ابن اللاذقية، وأحمد بلقسيس ابن الجزائر، ومحمد الجماني ابن حائل، وزاهر بابوسي ابن الخرطوم، وغيرهم الآلاف ليدافعوا عن مصر الكنانة، فالتاريخ لا يذكرهم، لأن التاريخ يراد له أن يزوَّر؛ لماذا هبوا إلى مصر ليدافعوا عنها؟ ليس لأجل عبد الناصر، لا، هذا كلام مبتذل وسخيف، لقد هبوا ليدافعوا عن مصر وعن عروبة مصر، ومازلنا نذكر الإضراب العربي يوم النكسة، والتاسع والعاشر من حزيران، هذه لم تكن من قبيل السخرية كما يصورون، بل ليجددوا إيمانهم بأننا خسرنا جولة لكننا لم نخسر المعركة، هبوا ليعيدوا عبد الناصر بعد أن استقال ليقولو له لا، أنت أمل هذه الأمة، ويوم توفاه الله أغلقت شوارع القاهرة كلها بالذين أحبوا عبد الناصر، وخوت شوارع عمان وبيروت ودمشق والرياض وطرابلس والدار البيضاء والرباط والخرطوم، فلقد مات الأمل، واليوم نرى دمشق وجميع القرى والنجوع السورية يجري إفقارها ونهب خيراتها، وتنتهك حرماتها ويقتل أبناءها ويهجروا ويعتقل الباقي، ونرى بغداد وكل المدن العراقية تهان كل لحظة من الاحتلال الفارسي بعد الأميركي، والشيء نفسه في لبنان واليمن وليبيا، النساء تستباح كل ليلة والأطفال تتناثرهم الدموع كل لحظة، وها نحن مغلوبون، مشّبَعون ظلماً وقتلاً وتهجيراً، لا شيء يعيننا، وحكامنا أغلقوا الحدود وهللوا للغاصبين المحتلين.
ليس بعيداً من هذا الشهر في عام 1957 عندما اشتد الحصار على سورية، وبدأ حلف بغداد يضغط من كل الاتجاهات، وبدأ الإنهيار الإقتصادي في سورية يزحف شيئاً فشيئاً كي يلتهم كل شيء، فماذا فعل عبد الناصر، لم يفعل كما فعل حكام اليوم، لقد فرض التعامل بالعملة السورية للسفن العابرة لقناة السويس، وبدأ البنك الدولي يضجر، ويشتري الليرة السورية بكميات ضخمة ليعيد الاستقرار إلى العملة السورية، ولتسجل أكبر ارتفاع يومها، “الليرة = 1 دولار و20 سنتاً من الدولار”، أما اليوم مع النظام الممانع والقاتل فإن “الليرة السورية = 1/45 سنتاً من الدولار” إنها قريبة من الصفر! هي مسألة تستوجب التوقف والدراسة لكن التاريخ لا يذكرها، وكيف له أن يذكر أموراً كهذه.
لقد كانت نكسة حزيران 1967 مأساة حقاً، وبالقدر نفسه من حيث الضخامة كان الشعب العربي أكبر من أن تنهكه محنة كتلك، فبالقدر ذاته كان قد نهض واستعاد قوته وواجه الكيان الصهيوني، ليذيقه في ثلاث سنوات من الاستنزاف بعد النكسة أفظع الخسائر وأفدحها، فهل يذكر لنا التاريخ مثلاُ حجم خسائر الكيان الصهيوني خلال فترة الاستنزاف، لا، وكيف له أن يذكر هذه الأمور، غير أنه يمجد لنا حرب تشرين وكيف أن قوات السادات وحافظ قد حررت! واخترقت جدُر الكيان! وحررت القنيطرة! وسيناء كلها! إنه لأمرٌ مضحك، فلماذا كانت مفاوضات الكيلو 65 بالجولان والـ 101 بالقنال، وصفقة كامب ديفيد مع الصهاينة؟ وآخر جندي خرج من طابة في 1983 أي بعد اغتيال السادات نفسه!
من منا ينسى عبد الناصر وثوار الجزائر، أعتقد أن قلة من يذكر، حتى ثورة الجزائر قد حُذفت من الأذهان، ثورة النصر وثورة الاستقلال، ثورة المليون والنصف شهيد، البعض يقول المليون شهيد لكن التاريخ أسقط نصف مليون سهواً! وبكل الأحوال أرواحنا ليست أرقاماً، فنحن نتذكر تلك الأيام ولن ننساها في وقتٍ بات العراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا تدخل محنة الجزائر ذاتها قبل 200 عام! فكل شعوب الأرض تسير للأمام إلا شعوبنا، وحدها، تسير بسرعة نحو الخلف، فخلال 52 عاماً مضت عدنا أكثر من 200 سنة للخلف يوم احتلت فرنسا الجزائر، ويوم أعلنت بريطانيا أن عدن محمية كما هو حال الخليج العربي اليوم، ويوم أعلنت إيطاليا أنها قادمة نحو الصومال، ونحن نرى حال السودان هذه الأيام!
في زمن عبد الناصر كان الاقتصاد يسير بسرعة خيالية؛ اليوم حتى مراعي الدواب تتخلف، بل يتم حرقها عمداً بأيدي الطغاة، والتصحر يمتد إلى بيوتنا، ففي كل عدة سنوات يتقدم التصحر في أكثر من بلد عربي، والحكومات كلها تعرف؛ فبعد نصف قرن آخر سيصبح هذا التصحر حالة قاتلة كالربع الخالي، لكن هذه الحكومات تعرف أيضاً أنها لن تعيش لذلك اليوم، وبالتالي فهي تعيش يومها وحسب.
أما الصناعة عندنا فقد أصبحت مبتذلة، وعقيمة، ففي عام 1958 أنشأت مصر معملها للحديد والصلب، وبدأت تصدّر يومها إلى شعوب أمريكا اللاتينية، وحققت في السنة الأولى- بعد اكتفائها الذاتي- 250 مليون دولار في ذاك الزمن، واليوم فقد نُهب المصنع وكل المصانع، وعجز عن تحقيق ما يوازي أجور عماله، وسيُعرض قريباً للبيع في هذا الشهر وبنفس يوم وفاة من بنـاه، فهل هي صدفة، لا؛ حتى نفطنا البراق آخذٌ بالنفاذ والنضوب، في وقت لا يتوقف فيه الكيان الصهيوني وآلياته ومدرعاته عن تدمير البيوت الفلسطينية، وللأسف بنفط عربي، فمن غير مصر الوادعة ودول الخليج اللطيفة يمدانه به!!
في عام 1967 أيضاً وبعد النكسة توجهت أنظار العالم كله إلى- الزعيم المهزوم- عبد الناصر، وهو يسير في شوارع الخرطوم، وقد تفاجأ أحد الكتاب البريطانيين عندما قال “أنا لا أصدق أن شعب السودان سعيد بعبد الناصر إلى هذا الحد، مع أنه للتو خرج من معركة خاسرة”؛ لم يكن هو، ولا كل من حاول أن يدعي أن محبة عبد الناصر من قبَل الجماهير هي لكاريزمية عبد الناصر، قد فهم جوهر عبد الناصر، لأن الغاية هي تحويل الشخص وتفريغه، لكن الواقع كان أكبر من ذلك، لتأتي أجيال لم تر عبد الناصر ولم تعاصره قد آمنت بمشروعه وتسير على دربه، إنها أجيال، قد شهدت نقطة التحول الحاسمة في تاريخ مصر والأمة العربية هذه الأيام، حتى بعد غياب عبد الناصر.