في موازاة استمرار نزيف الدم السوري، على مدى أكثر من عشر سنوات، ثمة نزيف أخر لا يقل فداحةً وكارثيةً عن الأول، ونعني به النزيف البشري الذي بات ينتشر على كافة الجهات والاقاليم والبلدان، وكأن الجغرافيا السورية باتت عبارة عن بركان ثائر لن يدع الأرض السورية صالحة للحياة والبشر.
ما إن بدأ نظام الأسد الحرب الشاملة على السوريين، حتى بدأت البنية السكانية بالاهتزاز ثم الخلخلة، فأينما توجهت الطائرات وتساقطت الصواريخ والبراميل المتفجرة، حلّ الدمار والخراب، ومن ثم يموت من السكان من يموت، و ينزح البقية أو يهاجرون. ولم تكن المدن والبلدات التي تنجو من قصف الطائرات والدمار، لتنجو من نزيف الهجرة أو التهجير، خصوصاً الفئات الشبابية التي بدأ نظام الأسد بالزج بها على جبهات القتال وإجبارها على محاربة عائلاتها، الأمر الذي يجعل هؤلاء الشباب أمام خيارين أحلاهما مرُّ، فإما الإذعان لسطوة النظام والانخراط في جيشه، والمساهمة بقتل أهلهم من السوريين وتشريدهم، وإما الفرار خارج مناطق سيطرة السلطة للنجاة بأرواحهم، ولتحاشي وقوعهم بيد السلطة الأسدية التي تجعل منهم قرابين على مذبح التسلط والإرهاب.
لعله بات واضحاً أن مطاردة النظام الأسدي للعنصر البشري الشبابي وغير الشبابي في سوريا، لم تكن تنبعث من دواعٍ أمنية مباشرة فحسب، بل لعلها مقترنة باستراتيجية لا تكتفي بالتغلب على الخصم وإخماد صوته فحسب، بل تسعى إلى استئصاله كلياً، تلك هي (نظرية المجتمع المتجانس) التي صرّح بها رأس النظام بملء فمه، حين أكد أمام جوقة برلمانه أن هؤلاء الذين يناهضون نظام حكمه من السوريين، إنما لهم حاضنة شعبية تتمثل بأهلهم وأقربائهم وجيرانهم، وبالتالي لا بد من استئصال هؤلاء المناهضين واستئصال الحاضنة الكاملة لهم على حد قوله.
وفقاً لنظرية التجانس التي نادى بها بشار الأسد، تم تهجير ما يقارب المئتي ألف مواطن من حلب الشرقية نهاية العام 2016، كما تم تهجير سكان الغوطة الغربية والغوطة الشرقية وجنوب دمشق، والقنيطرة والقلمون، بالإضافة الى مئات الالاف من حمص ودرعا، وأرياف حماة وإدلب وحلب، والمحافظات الشرقية، وأرياف الساحل السوري، فهؤلاء المهجرون تم تصنيفهم على أنهم إرهابيون أو حاضنة شعبية للإرهاب، ومن لم يتمكن النظام من قتله أو استئصاله قام بطرده من بيته وأرضه وأملاكه.
مع تعاظم التدخل الإقليمي والدولي في سوريا، ومع وقوع الجغرافيا السورية كاملة تحت تقاسم النفوذ الدولي، لم يعد نظام الأسد وحده العامل الطارد للسكان السوريين، والدافع بهم الى حيث تشاء أقدارهم، بل إن السلطات التي بسطت نفوذها على كل بقعة جغرافية، كان لها الأثر ذاته، وإن اختلفت الدوافع، الا أن النتائج والمآلات بالنسبة الى المواطنين كانت تذهب في الاتجاه ذاته، الذي تدفع السلطة الأسدية باتجاهه.
يقتضي التشخيص الدقيق لمشكلة النزيف السكاني في سوريا، أن يُشار ولو بإيجاز، إلى جذر المشكلة، وليس الوقوف عند أعراضها فحسب، ولإن كانت مجمل الأسباب الدافعة الى هذا النزيف ذات جوانب ومظاهر معيشية واقتصادية وأمنية، إلا أنها مجتمعة تنبثق من جذر واحد، وهو المشكلة الأم، ونعني بذلك الحقيقة الصادمة التي يوارب الكثيرون عن رؤيتها، أو يحاولون تجاهلها، بينما أفصحت عنها الطغمة الأسدية بكل وضوح، وتتجسد بالمقولة التي أطلقها النظام وحلفاؤه وشبيحته منذ الأيام الأولى لانطلاقة الثورة: “الأسد أو نحرق البلد”، وبالتالي فإن جميع الممارسات الوحشية الطاردة للسوريين من بلدهم هي مشروعة ومبررة، طالما أنها تخدم الهدف الأساسي المتمثل ببقاء الأسد في السلطة.
لم تكُن سلطات الأمر الواقع التي تموضعت على الجغرافيا السورية بعد العام 2016، لتختلف عن سلطات الأسد من حيث الممارسات والسلوك والتعاطي مع المواطنين، وإن اختلفت الأهداف والأفكار والتوجهات، ولعل هذا ما جعل المواطن السوري الذي يتنقل من هذه المنطقة الى تلك، طالباً شيئاَ من الأمان وحدّاً أدني من مقومات العيش الكريم، كالمستجير من الرمضاء بالنار، إذ إن ما يريده بكل بساطة ليس من أولويات سلطات الأمر الواقع جميعها، تلك السلطات التي دأبت على توفير الأمن والحماية لسلطتها أولاً قبل أمن وحماية المواطنين، ومن ثم إحكام قبضتها على مفاصل الاقتصاد والتجارة ومنابع المال، ولعل هذا ما دفع الكثير من المواطنين السوريين إلى مغادرة البلاد نحو دول الجوار أولاً، وفي طليعتها تركيا ولبنان والأردن، ليعيشوا لاجئين دون أن يحظوا بحقوق اللاجئ، ومع ذلك كان مجرد الشعور بالأمان في تلك الدول يجعلهم يقبلون بشتى أشكال الضيق المادي والبؤس المعيشي.
ولكن يبدو أن فترة الشعور بالأمان ما لبثت أن تلاشت أمام السياسات الداخلية الخاصة لتلك الدول، والتي جعلت من وجود اللاجئين السوريين ورقة للاستثمار السياسي، ونتيجة لاحتدام المناكفات بين المتنافسين، ربما بات الضغط على اللاجئ في بعض تلك الدول مقياساً للوطنية، وبهذا يكون اللاجئون السوريون قد حُشروا في الحيز الضيق، وما أمامهم سوى التفكير بتغريبة أو تغريبات جديدة، ولكن الى أين؟
في ظل استمرار المحرقة السورية تصبح المخاطرة بالأرواح هي الخيار الوحيد المتاح، وتصبح الحسابات مختلفة متبدلة، إذ لم يعد التفكير بالأمان أو الاستقرار الكلي هو المطلوب، بل يصبح التفكير قائماً بين اختيار السيء والأكثر سوءاً، أي أيهما أقل خطراً: المجازفة بركوب قارب تتكدس فيه أجساد المئات، تتقاذفه الأمواج العاتية، قد يتهاوى وسط البحر، أم السير على الأقدام طيلة أيام وسط الغابات الوعرة، ومخاتلة الوحوش تارة، ومافيات التهريب تارة أخرى؟
المصدر: المدن