لم تشهد الحياة السياسية في أي بلد عربي صراعات كالتي تشغل سورية حاليا، وتختلط فيها فضائح الفساد ومؤامرات السياسة والنفوذ في كواليس القصر والنظام. وتركزت في الحلقة الضيقة، لأقوى عائلتين سياسيتين واقتصاديتين، آل الأسد وآل مخلوف.
أنباء وشائعات الصراع والفساد والمؤامرات انفجرت مؤخرا، بشكل مدو بين أجنحة البيت الواحد، وامتدت خيوطه للدول الكبرى، وخصوصا روسيا التي تمسك بمقاليد السلطة في سورية. وتفوقت أخبار هذا الصراع بين بشار الأسد وابن خاله رامي على اخبار الكورونا والسياسية لبلد تطحنه المآسي والكوارث، وتحاصره أزمات اقتصادية وضغوط من الدول الدائنة.
في هذه المعمعة، قفز اسم السيدة أسماء الأخرس الى مقدمة الأخبار السياسية والاقتصادية، كلاعب جديد في كواليس البلاط، ومركز قوة يزاحم أكبر أقطاب المال والاعمال في سورية رامي مخلوف.
- تطورات مثيرة زادت مصائب السوريين درامية، ولكنهم تابعوها رغم مآسيهم بسخرية سوداء، ووجدوا في فصولها اليومية عبر فيديوهات رامي مخلوف مسلسلا رمضانيا مثيرا، ينفس عن غضبهم وكبتهم، كما وجد المهتمون السياسيون فيها مؤشرات قوية على تصدع النظام، وتفتت العائلة الحاكمة، وهبوط سمعة افرادها الى الحضيض لم تبلغه أي زمرة حكمت سورية أو دولة عربية في العصر الحديث، على الأقل بهذه الفضائحية السافرة!
وإذا كان أبرز ما في هذا المسلسل الرمضاني الفريد هو بروز دور النساء في مافيات السياسة والمال على غرار ما دار في بلاطات السلاطين والملوك القدامى، فإن المختصين يعلمون أنه ليس طارئا، بل كانت له جذور ومقدمات ظهرت منذ بداية النظام الأسدي العائلي وتطورت بتطوره.
أنيسة: شريكة حافظ القوية
برز تاثير أنيسة مخلوف في حياة زوجها حافظ الأسد منذ استيلائه على السلطة عام 1970 ، فارضة تأثيرها بشكل غير مألوف في سورية أو أي بلد عربي ، سوى في مصر حين برز دور جيهان السادات في سبعينات القرن الماضي ، ثم دور سوزان مبارك في العقود اللاحقة . ودور زوجة الحبيب بورقيبة وسيلة بن عمار في لعبة السياسة الداخلية ، ثم دور ليلى طرابلسي زوجة زين العابدين بن علي التي أسست لفساد أسرتها المالي .
تمكنت أنيسة المنحدرة من عائلة أغنى وأقوى من عائلة حافظ الفقيرة بفضل ذكائها وجمالها وقوة شخصيتها أن تصبح ذات تأثير طاغ عليه ، فلعبت دورا يشبه أدوار السيدات السابقات في مصر وتونس ، وإن لم تظهر علنا ، فقد وقفت وراء زوجها ، وشاركته كثيرا من قراراته الكبرى ، وخاصة توريث السلطة . وهي التي فتحت أبواب السلطة لأشقائها ، وخاصة محمد الذي تحول فجأة من موظف في مؤسسة التبغ الى مسؤول كبير ورجل أعمال في قطاع النفظ ، وحافظ الضابط البارز في الأمن والجيش ، ورامي رجل الاعمال في ميادين المقاولات والاتصالات والطيران والسياحة والاعلام ، واستثمر ثروة آل الأسد السرية المقدرة بالمليارات .
ويروي أكثر من شاهد أن أنيسة هي التي أقنعت زوجها باستبعاد أخيه رفعت وحصر التوريث في ابنهما باسل أولا ، ثم نقلت اختيارها الى ماهر بعد مصرع الأول ، ولكن حافظ أصر على بشار ، وكانت ترى أن شخصية بشار أضعف من شخصية ماهر .
وكشف الضابط المنشق حسام العواك لاحقا أن أنيسة هي استلمت زمام الامور يوم وفاة زوجها ، ورتبت بنفسها عملية نقل السلطة الى بشار تنفيذا لوصيته ، فترأست اجتماعا للعائلة ، ثم استدعت بنفسها وزير الدفاع وكبار الضباط لاجتماع برئاستها أيضا ، ووزعت عليهم مهام سياريو التوريث فورا . وعندما انتهى كل شيء أمرت بشار بالتخلص من أؤلئك الضباط قتلا أو طردا . ويقال إنها هي التي أمرت بقتل رفيق الحريري ، وشجعته أن يتحدى الارادة الدولية ، ولا يسحب قواته من لبنان بعد اغتيال الشهيد الحريري ، كما أمرته بعد الثورة الشعبية بسحقها مهما كان الثمن ، مقتديا بأبيه في مواجهة التمردات الشعبية ، حفاظا على العرش وحكم السلالة الذي أسسه والده .. وهكذا كان .
ويبدو أن تأثير أمه عليه يمتد الى تأثير خالته بدليل اعترافه العلني عام 2011 أن سبب تسامحه مع ابن خالته ضابط الأمن عاطف نجيب الذي قتل أطفال درعا ، وتسبب بإشعال ثورة 2011 هو الرضوخ لطلب خالته ، وقال إنه لم يكن يستطيع رفض طلبها أو أمرها له بعدم معاقبة عاطف !
عاشت انيسة حتى عام 2016 وظلت مؤثرة في سياسة البلد حتى موتها ، وبذلك أصبحت أول سيدة عربية تتمتع بلقب أول ( زوجة رئيس وأم رئيس في تاريخ العرب الحديث ) !
وكما فرضت انيسة زوجها الفقير الضابط البعثي حافظ على أسرتها الثرية ، فرضت إبنتها الكبرى بشرى على أسرتها الزواج من الشاب السني الفقير آصف شوكت الذي هدده اخوتها بالقتل ، وحقق بشار هذا الهدف عام 2012 . وكانت بشرى منذ عهد ابيها إمرأة قوية كوالدتها ، ولكن مصرع زوجها ، وتوتر علاقاتها مع شقيقها بشار لليوم ، اضطرت لمغادرة سورية الى الامارات العربية ، مما وضع حدا لدورها ونفوذها .
أسماء الأخرس: بريطانية عميلة؟
بعد وفاة أنيسة مخلوف وتلاشي دور بشرى الأسد، تهيأ الجو الداخلي للقصر والدائرة الضيقة للعائلة الحاكمة للاعبة جديدة لا تمت بقربى عائلية أو طائفية للأسرتين آل الأسد وآل مخلوف ، هي أسماء الأخرس المرأة البريطانية ذات الأصل السوري – الحمصي – السني ، زوجة بشار .
يقول المطلعون أن أنيسة لم تكن تسمح لكنتها أسماء بالتدخل في شؤون العائلة والقصر والسلطة ، وكانت أسماء تحنق على حماتها وتكرهها ، ولكنها كانت ضعيفة أمامها ، طالما أن زوجها خاضع كليا لسلطة الأم القوية ، والتي ورثت منذ عهد زوجها سلطة معترفا بها أشبه بمؤسسة رسمية ، وكانت تدير اجتماعات العائلة الحاكمة المؤلفة من آل الأسد وآل مخلوف.
اتبعت أسماء تكتيكات الكيد والمكر الانثوي في سلوكها ، فظلت تتمسكن لحمايتها ، ولا تنافس الأخريات ، حتى تمكنت في الاعوام التي تلت وفاة حماتها ، وشيئا فشيئا غدت لاعبة رئيسية ذات موقع وتأثير على زوجها وطورت نشاطها العام من مجال الاعمال الانسانية الخاصة بالاطفال والمرأة ، الى مجالات اقتصادية وسياسية ، فشكلت فريقا من أقربائها (آل الدباغ) وبعض افراد أسرتها ، كإبن عمها طريف ووالدها فواز ، وبعض أصدقائهم المقربين ، ووضعها زوجها على رأس ( لجنة مكافحة غسيل الاموال ) وكلفها بقصقصة أجنحة رامي .
يروي عدد من رجال القصر أن أسماء تراقب زوجها نسائيا ، وتتدخل في عمله السياسي . وطردت عددا من موظفي وموظفات القصر ، كمستشارته الحسناء لونا الشبل . ونشبت خلافات عديدة بينها وبين آل مخلوف غطى عليها زو جها . وبعد شفائها من السرطان خططت لاجتثاث نفوذ آل مخلوف نهائيا ، وشكلت فريقا خاصا لهذه المهمة ، بدءا من مخالفاتهم المالية والضريبية ، وعمليات غسيل الاموال والجرائم الاقتصادية، وبدأ زوجها يقتنع بدور مشبوه لأسرة خاله كلهم ضده ، ويصدق الاتهامات الموجهة لهم ، وخاصة رامي الذي يقود جيشا من رجال الاعمال والاداريين يمسكون بمفاصل اقتصاد الدولة ، ويشكل مركز قوة في السلطة السياسية والأمنية بفضل وجود شقيقه حافظ . وكان آل مخلوف أسسوا ميليشيا عسكرية للمشاركة في الحرب دفاعا عن النظام ، وأسسوا منظمة خيرية لمساعدة أبناء الطائفة حصرا ، باسم جمعية البستان لتعزيز موقعهم القديم بين العلويين ، وهي جمعية كانت معفاة من الضرائب وتقدم المساعدات من الاموال التي ينهبونها بالقوة من غرمائهم السنة . ويقال إنهم أقاموا قنوات اتصال وعلاقات مع دول أجنبية عديدة في الغرب والشرق واسرائيل والعالم العربي من لبنان الى الخليج ، وروسيا وروسيا البيضاء التي أصبحت مخبأ أموالهم الرئيسي خوفا من مصادرتها اذا وضعوها في مصارف سويسرا واوروبا وامريكا لأن رام خاضع لعقوبات أميركية منذ عام 2008 . وكشفت تسريبات من كواليس القصر أن رامي في البداية كان يدير اموال العائلة الحاكمة بجناحيها الأسدي والمخلوفي ، ولكنه في السنين الأخيرة صار يحسب لما بعد سقوط النظام أو تخلي ابن عمته عنهم ، وصار يخفي الأموال في مخابىء سرية لا يطلع عليها رئيس النظام . ولكنه لم يحسب حساب عيون الاستخبارات الروسية التي تراقبه ، لا سيما بعد أن تراكمت ديونها على النظام ، وطالبت بشار بسداد ثلاثة مليارات دولار في العام الماضي ، وعندما اعتذر لعدم توفر سيولة ، طلب الكرملين منه التسديد من مليارات رامي المخبأة في الروسيتين ! وعندما أمر بشار بتسديد المبلغ لروسيا تهرب رامي ، فانفجر الخلاف والنزاع بينهما ، وبدأ بشار يضع يده على شركاته وتدقيق حساباتها والحجز عليها وصرف مدرائها واعتقال العديد منهم ، ووضع الشركات تحت سلطة الدولة ، ورجال أعمال جدد بينهم أقرباء لأسماء الأخرس .
أصابع الدول:
واتضح أن بشار قرر نهائيا تصفية امبراطورية آل مخلوف الاقتصادية والسياسية والادارية والاجتماعية، فهرب خاله محمد الى روسيا وبعض افراد الأسرة . وتفاقم الصراع بسرعة بين العائلتين وتبادلا الضربات تحت الحزام ، إذ أفشى رامي سر اللوحة التي اشتراها بشار لزوجته بثلاثين مليون دولار ، واتصل مكتبه الاعلامي بعشرات القنوات العربية والغربية لتقديم معلومات عن فضائح الاسد لها . كما تبين له ان آل مخلوف كشفوا معلومات سرية لروسيا عن النظام وايران ، فاستخلص أن روسيا تستعمل آل مخلوف في صراعها ضده وضد ايران ، وربما تخطط لترئيس أحدهم محله بسبب قاعدتهم الاجتماعية في الشارع العلوي ، فأخذ الخلاف حول المال طابعا عدائيا وكسر عظم بينهما ويتوقع ألا يتوقف إلا بقضاء أحدهما على الآخر بكل الوسائل !
وعلى المقلب الآخر تزداد المؤشرات والروايات حول الطابع الدولي للصراع بين العائلتين، إذ تقف ايران بقوة في خندق الاسد الذي سلمهم البلد طولا وعرضا .
ويروج أنصار آل مخلوف أن اسماء الأخرس المديرة السابقة في بنك مورغن البريطاني ، وكذلك والدها مرتبطون بالاستخبارات البريطانية وموجهة منها للتأثير على زوجها . وهم يحرضون العلويين عليها وعلى بشار، بزعم أنها سنية تحاول الاستيلاء على أموال العلويين التي جمعوها بجهدهم وعرقهم!
والحصيلة أن نظام الأسد استنفذ قدرته على الاستمرار بسبب اهترائه وفساده وانقساماته وأزماته، إذ أن الأزمة الحالية تشبه الصراع بين حافظ الاسد وشقيقه رفعت عام 1984 مع فارق أن بشار لا يملك قوة ابيه، وسورية الحالية غير سورية قبل 36 سنة، والصراع الآن ليس محصورا بين فريقين من الضباط، بل يمتد الى عواصم واجهزة استخبارات اجنبية كبرى .
الحديث عن نهاية حكم السلالة الأسدية العلوية واقعي لا مجرد ثرثرة مقاه وصالونات مغلقة. ولذلك ينسى سكان دمشق وحمص وحلب مآسيهم الآن، فرحين باقتراب خلاصهم ونهاية السلالة كلها!!
المصدر: الشراع اللبنانية