لقد بدأت المنافسة مع الصين تنهك السياسة الخارجية الأميركية، ومع انشغال السياسيين وصانعي السياسة الأميركيين في التحدي القائم بينهم وبين منافس يعتبر نداً لبلادهم تقريباً وتختلف مصالحه وقيمه بشكل حاد عن تلك الخاصة بالولايات المتحدة، أصبحوا يركزون بشدة على مواجهة الصين لدرجة أنهم يوشكون على إغفال المصالح والقيم الإيجابية التي ينبغي أن ترتكز عليها الاستراتيجية الأميركية. وفي الواقع، لن يؤدي المسار الحالي إلى تدهور العلاقات الأميركية- الصينية إلى أجل غير مسمى وزيادة خطر نشوب صراع كارثي فحسب، بل إنه يهدد أيضاً بزعزعة ديمومة الزعامة الأميركية في العالم وحيوية المجتمع الأميركي والديمقراطية في الداخل.
وبالطبع، هناك سبب وجيه يبرر لماذا أصبحت الصين التي تعاظمت قوتها تشكل محور الاهتمام والشغل الشاغل لواضعي السياسات والاستراتيجيين في واشنطن (وعدد من العواصم الأخرى). وفي عهد الرئيس شي جينبينغ على وجه الخصوص، أصبحت بكين أشد استبداداً في الداخل وأكثر عدوانية في الخارج، فقمعت بوحشية الإيغور في شينجيانغ، وسحقت الحريات الديمقراطية في هونغ كونغ، ووسعت ترساناتها التقليدية والنووية بسرعة، واعترضت بشكل عنيف الطائرات العسكرية الأجنبية في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، وتغاضت عن غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، وضخمت المعلومات المضللة الروسية، وصدرت تكنولوجيا الرقابة والمراقبة، وشوهت سمعة الديمقراطيات، وعملت على إعادة تشكيل المعايير الدولية، ولا تزال القائمة طويلة، ويمكن أن تطول أكثر فأكثر، خصوصاً إذا تولى شي ولاية رئاسية ثالثة مدتها خمس سنوات وعزز سيطرته بشكل أكبر في وقت لاحق من هذا العام.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الحذر المبرر يكاد يتحول إلى خوف غير إرادي يمكن أن يعيد تشكيل السياسة الأميركية والمجتمع بطرق مضرة ومؤذية في نهاية المطاف، وفي محاولة لصياغة استراتيجية وطنية مناسبة للتعامل مع الصين التي أصبحت أكثر حزماً وقوة، كافحت واشنطن من أجل تحديد مفهوم النجاح، أو حتى حالة استقرار، بعيداً من النصر الكامل أو الهزيمة الكاملة، تكون مقبولة في النهاية من حكومتي الدولتين، وبتكلفة يكون المواطنون والشركات وأصحاب المصلحة الآخرين على استعداد لتحملها، ومن دون إدراك واضح لما تسعى إليه الولايات المتحدة، أو بعض الإجماع المحلي حول الطريقة التي ينبغي أن تعتمدها في علاقتها مع العالم، أصبحت السياسة الخارجية الأميركية انفعالية [قائمة على اتخاذ القرار بعد حصول الحدث ورداً عليه]، وتدور في حلقات مفرغة بدلاً من التحرك نحو الوجهة المنشودة.
ومن الإنجازات التي حققتها إدارة بايدن، اعترافها بأن الولايات المتحدة وشركاءها يجب أن يوفروا بديلاً جذاباً لما تقدمه الصين، وقد اتخذت بعض الخطوات في الاتجاه الصحيح، مثل المبادرات المتعددة الأطراف في شأن المناخ والجوع، بيد أن غريزة الرد على كل مبادرة ومشروع واستفزاز صيني لا تزال مسيطرة، ما يؤدي إلى إقصاء الجهود المبذولة لتنشيط نظام دولي شامل يحمي المصالح والقيم الأميركية حتى مع تغير القوة العالمية وتطورها. وعلى الرغم من أن الحرب في أوكرانيا تتطلب اهتماماً كبيراً من الولايات المتحدة ومواردها، فقد كان التأثير الأوسع للصراع هو تكثيف التركيز على المنافسة الجيوسياسية، التي عززها التقارب الصيني الروسي.
واستطراداً، يزعم القادة في كل من واشنطن وبكين أنهم يريدون تجنب حرب باردة جديدة. والحقيقة هي أن البلدين منخرطان بالفعل في صراع عالمي. فمن جهة، تسعى الولايات المتحدة إلى إدامة تفوقها وتكريس نظام دولي يفضل مصالحها وقيمها، ومن جهة أخرى، ترى الصين أن النفاق والإهمال أضعفا القيادة الأميركية، ما يوفر فرصة لإجبار الآخرين على قبول نفوذها وشرعيتها. في الواقع، يؤمن الجانبان بشكل متزايد بأن الأزمة لا مفر منها، لا بل ربما ضرورية، وأن قواعد الإنصاف والتعايش المقبولة بشكل متبادل لن تأتي إلا بعد هذا النوع من المواجهة المباشرة التي اتسمت بها السنوات الأولى من الحرب الباردة، وقد كانت النجاة منها آنذاك غير مضمونة، وأصبحت حاضراً مضمونة بدرجة أقل حتى.
وحتى في ظل غياب الأزمة، تبدو الآن سلسلة من السياسات الأميركية مدفوعة بغريزة رد الفعل. في الحقيقة، كثيراً ما تقع واشنطن في فخ محاولة مواجهة الجهود الصينية في جميع أنحاء العالم من دون أن تأخذ في الحسبان ما تريده الحكومات والشعوب المحلية. ومع افتقارها إلى نظرة استشرافية تتماشى مع تقييم واقعي للموارد الموجودة تحت تصرفها، فهي تكافح من أجل تحديد الأولويات في مختلف المجالات والمناطق. وغالباً ما تعرض مصالحها الأوسع نطاقاً للخطر لأن الجغرافيا السياسية الجامحة تجعل من شبه المستحيل تحقيق التقدم الضروري في مواجهة التحديات العالمية. وفي ذلك الإطار، يتمثل الخطر الطويل الأمد في أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على إدارة منافسة استمرت لعقود من الزمن من دون الانزلاق نحو عادات التعصب في الداخل والتوسع المفرط في الخارج. وفي محاولتها التفوق على الصين، يمكن لواشنطن أن تقوض نقاط القوة وتحجب الرؤية التي ينبغي أن تشكل أساساً لقيادة أميركية مستدامة.
واستكمالاً، يجب أن يكون المرجع الأساسي لنهج أفضل هو العالم الذي تسعى إليه الولايات المتحدة: ما تريده وليس ما تخشاه. سواء أكانت السياسات المتبعة عبارة عن عقوبات أو رسوم جمركية أو تحركات عسكرية، ينبغي الحكم عليها على أساس ما إذا كانت تساعد بالتقدم نحو ذلك العالم المنشود، وليس على أساس تقويض بعض المصالح الصينية أو تحقيق بعض الأفضلية على بكين. كذلك، يجب أن تمثل تلك السياسات قوة الولايات المتحدة بصورتها البهية بدلاً من أن تكون انعكاساً للسلوك الذي تهدف إلى تجنبه. وعوضاً عن النظر إلى الوراء بحنين إلى عظمتها الماضية، على واشنطن أن تلتزم، فعلاً وقولاً، برؤية تعود بالنفع على الجميع، متمثلة بنظام دولي خضع للإصلاح ويشمل الصين ويلبي الحاجة الوجودية لمواجهة التحديات المشتركة.
وهذا لا يعني التخلي عن الجهود المدروسة بعناية والرامية إلى ردع العدوان الصيني وتعزيز الصمود ضد الضغوط الصينية وتقوية التحالفات الأميركية، بيد أن تلك الجهود يجب أن تقترن بمناقشات ذات مغزى مع بكين، لا تدور حول الاتصالات في الأزمات وتقليل التهديدات فحسب، بل أيضاً حول الشروط المعقولة للتعايش ومستقبل النظام الدولي، وهو مستقبل ستحظى بكين بدور في تشكيله حتماً. وبطريقة موازية، قد تسهم رؤية عالمية شاملة وإيجابية في ضبط المنافسة، وفي الوقت نفسه تبيان ما لدى بكين لتخسره. خلاف ذلك، مع تدهور العلاقة وتنامي الشعور بالتهديد، سيزيد منطق التنافس العقيم بشكل أكبر، وستؤدي الدوامة التصعيدية الناتجة إلى تقويض المصالح والقيم الأميركية. وسينسف هذا المنطق الأولويات العالمية ويضعف النظام الدولي، كما أنه سيغذي انعدام الأمن المتفشي ويعزز النزعة الاستقطابية، بالتالي سيضر بالتعددية والاندماج المدني اللذين يشكلان حجر الأساس للديمقراطية الليبرالية. وإذا لم يتم تغييره، فسوف يقود إلى حلقة مفرغة ستتسبب بكارثة في النهاية.
نتجه نحو المنافسة الحتمية؟
في واشنطن، الرواية المعتادة عن سبب هذا التدهور الكبير في العلاقة هي أن الصين تغيرت: في العقد أو العقدين الماضيين، توقفت بكين عن “انتظار الوقت المناسب”، وأصبحت أكثر قمعاً في الداخل وأكثر عنفاً في الخارج حتى مع استمرارها في الاستفادة من العلاقات والمؤسسات التي مكنت الصين من النمو اقتصادياً.
هذا التغيير هو بالتأكيد جزء من القصة، وهو نتاج نفوذ الصين المتزايد بقدر ما هو نتاج طريقة “شي” في استخدام ذلك النفوذ، لكن الرواية الكاملة يجب أن تعترف أيضاً بالتغييرات التي حصلت في المقابل في المبدأ والسياسة الأميركية، والناجمة عن رد فعل الولايات المتحدة على التطورات في الصين. في الواقع، واجهت واشنطن تصرفات بكين بمجموعة من الإجراءات العقابية والسياسات الوقائية، من تعريفات وعقوبات إلى فرض القيود على التبادلات التجارية والعلمية. في غضون ذلك، انجرفت الولايات المتحدة بعيداً من مبادئ الانفتاح وعدم التمييز التي لطالما كانت ميزة تفاضلية لديها، معززة في الوقت نفسه القناعة لدى بكين بأن واشنطن لن تسمح مطلقاً بصين أكثر قوة. في هذه الأثناء، خففت الولايات المتحدة دعمها للمؤسسات والاتفاقيات الدولية التي لطالما أنشأت ترابطاً بين الدول، ويعود ذلك في جزء منه إلى الذعر من نفوذ الصين المتزايد داخل النظام الدولي.
والجدير بالذكر أن ذلك النهج الأكثر عدوانية، المعتمد من الجانبين، أنتج ديناميكية متماثلة [خطوات انعكاسية]. وفيما تعتقد بكين أن الأميركيين لن يقتنعوا بالتعايش مع الصين القوية إلا من خلال الصراع الطويل، تعتقد واشنطن أن عليها كبح القوة والنفوذ الصيني للدفاع عن تفوق الولايات المتحدة، والنتيجة هي تدهور مستمر، يبذل كل جانب فيه جهوداً لتعزيز أمنه، ما يدفع الطرف الآخر في المقابل إلى اتخاذ مزيد من الخطوات الهادفة إلى تقوية أمنه الخاص أيضاً.
وفي تفسير التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين، يشير بعض الباحثين إلى تحولات هيكلية في ميزان القوى. في ذلك الإطار، كتب غراهام أليسون عن “فخ ثيوسيديدس”، وهو المفهوم القائل إنه عندما تقوم دولة صاعدة بتحدي قوة قائمة وراسخة، ستنشأ حرب من أجل الهيمنة في كثير من الأحيان. وعلى الرغم من ذلك، فإن التركيز على القدرات وحدها يجعل من الصعب تفسير الانعطافات غير المتوقعة في العلاقات الأميركية- الصينية، التي تنجم أيضاً عن التغيير في طريقة فهم التهديد والفرصة والهدف. بعد زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون لبكين عام 1972، أصبحت واشنطن تنظر إلى الصين كشريك استراتيجي في احتواء الاتحاد السوفياتي، ومع بزوغ فجر حقبة ما بعد الحرب الباردة، بدأ صانعو السياسة في الولايات المتحدة في أخذ الحيطة من القوة العسكرية الصينية المتنامية حتى أثناء السعي إلى تشجيع التحرير الاقتصادي والسياسي في البلاد من خلال اندماج أكبر.
السياسة الخارجية للولايات المتحدة أضحت انفعالية
طوال تلك الفترة، رأى القادة الصينيون فرصة استراتيجية من أجل إعطاء الأولوية لتطور الصين في بيئة دولية مستقرة. وقد فتحوا أبواب البلاد أمام الاستثمار الأجنبي والممارسات الرأسمالية، سعياً إلى التعلم من الخبرات الأجنبية، فيما نظموا في الوقت نفسه حملات دورية ضد “التلوث الروحي” و”التحرر البرجوازي” [أي محاربة التأثيرات الأميركية غير المرغوب فيها]. على الرغم من محاولات إظهار ثبات العزم من وقت إلى آخر، بما في ذلك خلال أزمة مضيق تايوان في 1995-1996 وبعد قصف حلف الناتو السفارة الصينية في يوغوسلافيا عام 1999، التزم القادة الصينيون إلى حد كبير استراتيجية تجنب لفت الأنظار التي اتبعها الزعيم السابق دنغ شياو بينغ بغية تفادي إثارة الشعور بالتهديد الذي يمكن أن يعجل في بذل جهود لخنق صعود الصين.
أما السنة التي مثلت نقطة انعطاف في نهج الصين تجاه العالم، فهي ليست عام 2012 عندما تولى شي السلطة، بل عام 2008. واستطراداً، شجعت الأزمة المالية العالمية بكين إلى تجاهل أي فكرة تشير إلى أن الصين هي التلميذ والولايات المتحدة هي الأستاذ في ما يتعلق بالحوكمة الاقتصادية. وكان من المفترض أن يكون الهدف من أولمبياد بكين في ذلك العام هو إعلان وصول الصين إلى المسرح العالمي، لكن معظم العالم ركز عوضاً عن ذلك على أعمال الشغب في التبت التي عزا المسؤولون الصينيون حدوثها إلى التدخل الخارجي، وعلى ما تبعه من إجراءات قمعية صينية. وهكذا، رسخ الحزب الشيوعي الصيني بشكل متزايد فكرة أن القوات الأجنبية كانت عازمة على إحباط صعود الصين.
في السنوات اللاحقة، سلكت الحركة المتعثرة نحو الليبرالية اتجاهاً معاكساً: اتخذ الحزب إجراءات صارمة ضد تعليم الأفكار الليبرالية وأنشطة المنظمات غير الحكومية الأجنبية، وسحق الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ، وبنى دولة رقابة مترامية الأطراف ونظام معسكرات الاعتقال في شينجيانغ (كلها أدلة تشير إلى اعتماد مفهوم أوسع نطاقاً في موضوع “الأمن القومي”، نتيجة الخوف من الاضطرابات). على الصعيد الدولي، تخلت الصين عن أي مظهر من مظاهر التواضع الاستراتيجي. وأصبحت أكثر حزماً في الدفاع عن مطالبها الإقليمية والبحرية (على طول الحدود الهندية، في بحر الصين الشرقي والجنوبي، وفي ما يتعلق بتايوان). وبعد أن تجاوزت اليابان باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم في عام 2010، بدأت في استخدام قوتها الاقتصادية لفرض احترام مصالح الحزب الشيوعي الصيني، إضافة إلى ذلك، عززت تطوير القدرات العسكرية التي يمكن أن تقف في وجه التدخل الأميركي في المنطقة، بما في ذلك توسيع ترسانتها النووية التي كانت محدودة في السابق. وقد جاء قرار تطوير عدد من هذه القدرات قبل “شي”، ولكن تحت قيادة الأخير تبنت بكين تبنت نهجاً أكثر إكراهاً وتعصباً.
وبينما كانت الولايات المتحدة تراقب قدرات الصين المتنامية واستعدادها لاستخدام تلك القدرات، زادت واشنطن من تحوطها. وفي ذلك السياق، أعلنت إدارة أوباما أنها “ستستدير” [اهتمامها] نحو آسيا، وحتى عندما سعت واشنطن إلى إعطاء الصين دوراً بناء في النظام الدولي، سرعان ما تخطت وتيرة صعود الصين مدى استعداد الولايات المتحدة لمنحها صوتاً مهماً في المقابل. ومع انتخاب دونالد ترمب رئيساً، أصبح التقييم الصادر عن واشنطن متطرفاً بشكل خاص، إذ إنه اعتبر أن النظام الماركسي اللينيني يسعى إلى “اغتصاب” الولايات المتحدة، والهيمنة على العالم، وتقويض الديمقراطية. وكرد فعل على ذلك، شنت إدارة ترمب حرباً تجارية، وبدأت في الحديث عن “فصل” الاقتصاد الأميركي عن الاقتصاد الصيني، وأطلقت سلسلة من المبادرات التي تهدف إلى مواجهة النفوذ الصيني وتقويض الحزب الشيوعي الصيني. بطريقة موازية، لمح كبار المسؤولين الأميركيين في خطاباتهم إلى تغيير في النظام، ودعوا إلى اتخاذ خطوات من أجل “تمكين الشعب الصيني” لكي يسعى إلى شكل جديد للحكومة، كما أكدوا أن “التاريخ الصيني يحتوي على مسار آخر للشعب الصيني”.
في مقلب مغاير، أوقفت إدارة بايدن أي حديث عن تغيير النظام في الصين ونسقت نهجها عن كثب مع الحلفاء والشركاء، على النقيض من النزعة الأحادية التي اعتمدها ترمب، لكنها في الوقت نفسه واصلت اعتماد عدد من سياسات الإدارات السابقة وأيدت التقييم القائل إنه من الضروري كبح نفوذ الصين المتنامي. واستكمالاً، تم تعديل بعض خطوط الجهود المبذولة مثل “مبادرة الصين” التي أطلقتها وزارة العدل الأميركية، الساعية إلى مقاضاة سرقة الملكية الفكرية والتجسس الاقتصادي. في المقابل، تم الحفاظ على بعض الخطوط الأخرى بما في ذلك التعريفات وضوابط التصدير وقيود التأشيرات، أو جرى توسيعها، على غرار العقوبات ضد المسؤولين والشركات الصينية. في غضون ذلك، اعتبرت المواقف المعارضة الشديدة للصين في الكونغرس هي الشيء الوحيد ربما الذي اتفق عليه الديمقراطيون والجمهوريون، على الرغم من أن هذا الاهتمام المشترك لم ينتج عنه سوى اتفاق محدود (مثل التشريع الأخير في شأن استثمارات في أشباه الموصلات المحلية) حول الطريقة التي ينبغي أن تعتمدها الولايات المتحدة في المنافسة.
على مدى خمسة عقود، جربت الولايات المتحدة مزيجاً من الإشراك والردع لإدخال الصين في نظام دولي يدعم المصالح والقيم الأميركية على نطاق واسع. وكان صانعو السياسة الأميركيون يعرفون جيداً أن نظراءهم الصينيين ملتزمون الدفاع عن حكم الحزب الشيوعي الصيني، بيد أن واشنطن حسبت أن العالم سيكون أقل خطورة مع وجود الصين داخل النظام وليس خارجه. وقد نجح هذا الرهان إلى حد كبير، ولا يزال أفضل من الخيار الآخر. على الرغم من ذلك، لطالما عقد كثيرون في واشنطن آمالاً على تعزيز التطور الليبرالي الصيني أيضاً، كما سعوا بدرجات متفاوتة إلى تحقيق ذلك. وهكذا، أسهم الاستبداد المتزايد في الصين في تغذية رواية فشل السياسة الأميركية الشاملة، وأدى التركيز على تصحيح هذا الفشل إلى ترسيخ انعدام الأمن في بكين واعتقادها أن الولايات المتحدة وحلفاءها لن يقبلوا الصين كقوة عظمى.
حاضراً، اعتزم كلا البلدين القيام بكل ما هو ضروري لإثبات أن أي تحرك يقوم به الطرف الآخر لن يمر من دون رد. ويعتقد كل من صانعي القرار في الولايات المتحدة والصين أن الجانب الآخر يحترم القوة فحسب ويفسر ضبط النفس على أنه ضعف. في منتدى حوار شانغريلا هذا العام في سنغافورة في يونيو (حزيران)، تعهد وزير الدفاع الصيني، الجنرال وي فنغي، “بالقتال حتى النهاية” من أجل تايوان بعد يوم من اجتماعه مع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن.
أخبرني كيف سينتهي هذا
يبدو واضحاً إلى أين يقود المسار الحالي: عالم أكثر خطورة وأقل قابلية للسكن يتحكم به خطر دائم من المواجهة والأزمات، مع منح الاستعداد للصراع مركز الصدارة بدلاً من أن تكون الأولوية لمواجهة التحديات المشتركة.
وتجدر الإشارة إلى أن معظم صناع السياسة، على الأقل أولئك الموجودون في واشنطن، لا يسعون إلى أزمة بين الولايات المتحدة والصين، لكن هناك قبولاً متزايداً لفكرة أن الأزمة حتمية إلى حد ما. وستكون عواقبها وخيمة. حتى لو أراد الطرفان تجنب الحرب، فإن الأزمات بحكم تعريفها لا توفر سوى القليل من الوقت للاستجابة خصوصاً في خضم متابعة حثيثة من العامة، ما يجعل من الصعب العثور على مسارات تؤدي إلى خفض التصعيد. وحتى التطبيق المحدود للقوة أو الإكراه يمكن أن يطلق مجموعة غير متوقعة من الردود عبر مجالات متعددة، عسكرية واقتصادية ودبلوماسية ومعلوماتية. وبينما يناور القادة لإظهار العزم وحماية سمعتهم المحلية، قد يكون من الصعب للغاية احتواء الأزمة.
ومن المرجح أن تكون تايوان موقع انفجار الوضع، إذ أدت التغييرات في كل من تايبيه وبكين إلى وضع الجزيرة بشكل متزايد في قلب التوترات بين الولايات المتحدة والصين. كذلك، تسببت التحولات في الأجيال والديموغرافيا في تايوان، جنباً إلى جنب مع القمع الصيني في هونغ كونغ، في زيادة مقاومة تايوان لفكرة سيطرة بكين وجعل التوحيد السلمي يبدو خيالياً بشكل متزايد. بعد أن حقق الحزب الديمقراطي التقدمي التايواني (DPP) المؤيد تقليدياً للاستقلال فوزاً في الرئاسة في عام 2016، اتخذت بكين موقفاً متشدداً ضد الرئيسة الجديدة، تساي إنغ ون، على الرغم من جهودها الحثيثة لتجنب التحركات نحو الاستقلال الرسمي. واستطراداً، أغلقت قنوات الاتصال عبر المضيق، واعتمدت بكين على تدابير إكراه متزايدة لمعاقبة وردع ما اعتبرته تحركات تدريجية نحو الفصل الدائم لتايوان.
رداً على ذلك، كثفت الولايات المتحدة الدوريات العسكرية في مضيق تايوان وحوله، وسهلت المبادئ التوجيهية للتفاعل مع المسؤولين التايوانيين، ووسعت مجال التصريحات الأميركية المؤكدة على دعم تايوان، واستمرت في تأييد مشاركة تايوان الهادفة في المنظمات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن العديد من الجهود الأميركية الحسنة النية المبذولة لدعم الجزيرة وردع الصين قد غذت بدلاً من ذلك شعور بكين بالحاجة بشكل ملح إلى إرسال إشارة تحذير لردع العلاقات الأميركية التايوانية المتنامية باطراد.
حتى مع سياسة الولايات المتحدة الرسمية المتمثلة في “الغموض الاستراتيجي” حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتدخل في حالة وقوع هجوم على تايوان، يتوقع المخططون العسكريون الصينيون تدخلاً أميركياً. في الواقع، إن الصعوبة المتوقعة للاستيلاء على تايوان وفي الوقت نفسه صد الولايات المتحدة قد عززت الردع عبر مضيق تايوان منذ فترة طويلة، لكن العديد من الإجراءات الأميركية التي تهدف إلى دعم قدرة الجزيرة على مقاومة الإكراه كانت رمزية وليست جوهرية، إذ إنها تعمل على استفزاز بكين أكثر من ردعها. على سبيل المثال، بذلت إدارة ترمب جهوداً لتعديل المعايير المتعلقة بعلاقة الولايات المتحدة بتايوان (في أغسطس (آب) 2020، أصبح وزير الصحة والخدمات الإنسانية أليكس عازار المسؤول الأعلى منصباً في مجلس الوزراء الذي يزور تايوان منذ التطبيع الكامل للعلاقات الأميركية الصينية في عام 1979) ما دفع الصين إلى إرسال طائرات مقاتلة عبر الخط المركزي لمضيق تايوان، متجاهلة بذلك الحاجز غير الرسمي الذي كان يعمل منذ فترة طويلة على تسهيل العمليات الآمنة في الممر المائي. وأصبحت الاختراقات في منطقة تحديد الدفاع الجوي التايوانية (ADIZ) وسيلة متكررة تستخدمها بكين للتعبير عن استيائها من الدعم الأميركي المتزايد. في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، سجلت الاختراقات الصينية لتلك المنطقة رقماً قياسياً، وصل إلى 93 طائرة على مدار ثلاثة أيام، رداً على التدريبات العسكرية المجاورة التي تقودها الولايات المتحدة.
هذه الحلقة المفرغة من الفعل ورد الفعل، التي تحركها تطورات متآزرة في بكين وتايبيه وواشنطن، تعمل على تسريع تدهور السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان. في الأشهر الأخيرة، أصبح الخطاب الرسمي الصيني ينطوي على تهديد بشكل متزايد، من خلال استخدام عبارات تشير تاريخياً إلى نية الصين في التصعيد. في ذلك الإطار، قال “شي” مراراً للرئيس الأميركي جو بايدن: “من يلعب بالنار سيحترق”. في مايو (أيار)، بعد أن أشار بايدن إلى التزام غير مشروط بالدفاع عن تايوان، بدلاً من مجرد التعبير عن التزام الولايات المتحدة الطويل الأمد بتزويد الجزيرة بالوسائل العسكرية للدفاع عن نفسها والحفاظ على قدرة واشنطن على مقاومة أي استخدام للقوة، شددت وزارة الخارجية الصينية أن بكين “ستتخذ إجراءات حازمة من أجل حماية سيادتها ومصالحها الأمنية”.
على الرغم من استمرار بكين في تفضيل التوحيد السلمي، فإنها أصبحت تعتقد أن الإجراءات القسرية قد تكون ضرورية لوقف التحرك نحو الانفصال الدائم لتايوان وفرض خطوات نحو التوحيد، لا سيما بالنظر إلى التصور الصيني بأن دعم واشنطن لتايوان هو وسيلة لاحتواء الصين. حتى لو كانت الثقة في المسار العسكري والاقتصادي الصيني تدفع بكين إلى الاعتقاد أن “الوقت والزخم” ما زالا إلى جانبها، فإن الاتجاهات السياسية في تايوان والولايات المتحدة تجعل المسؤولين أكثر تشاؤماً في شأن احتمالات التوحيد السلمي. لم تحدد بكين جدولاً زمنياً للاستيلاء على تايوان ولا يبدو أنها تبحث عن عذر للقيام بذلك. وعلى الرغم من ذلك، كما أوضح العالم السياسي تايلور فرافيل، تستخدم الصين القوة عندما تعتقد أن مطالباتها بالسيادة تتعرض للتحدي. ويرجح بشكل خاص أن تفسر الإشارات الرمزية العلنية التي تدل على دعم الولايات المتحدة لتايوان على أنها إهانة يجب الرد عليها (منذ كتابة هذا المقال، أدت زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان، وهي أول رحلة يقوم بها رئيس مجلس نواب أميركي إلى هناك منذ عام 1997، إلى إرسال تحذيرات صينية من أن “الجيش الصيني لن يقف مكتوف الأيدي على الإطلاق”، وجرى بعد ذلك تنظيم تدريبات عسكرية واختبارات صاروخية حول تايوان شكلت تهديداً غير مسبوق).
ومع اقتراب كل من الولايات المتحدة وتايوان من الانتخابات الرئاسية في عام 2024، يمكن أن تؤدي السياسات الحزبية إلى بذل مزيد من الجهود للخروج عن حدود المألوف في ما يتعلق بالوضع السياسي لتايوان واستقلالها قانونياً. ومن غير الواضح ما إذا كان خليفة الرئيسة تساي سيكون ثابتاً بقدر ما كانت هي في مقاومة الضغوط التي مارسها دعاة الاستقلال المتشددون. حتى في عهد تساي، كانت هناك مؤشرات مقلقة على أن قادة الحزب الديمقراطي التقدمي غير راضين عن الوضع الراهن على الرغم من شعبيته بين الناخبين. وقد ضغط قادة الحزب على واشنطن للامتناع عن الإدلاء بتصريحات تفيد بأن الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان. في مارس (آذار)، أعطى المكتب التمثيلي لتايبيه في واشنطن وزير الخارجية السابق مايك بومبيو منحة فخرية كبيرة لزيارة تايوان، حيث دعا الولايات المتحدة إلى تقديم “الاعتراف الدبلوماسي بالجزيرة كدولة حرة وذات سيادة”.
واستكمالاً، يتزايد خطر وقوع تصادم مميت في الجو أو في البحر أيضاً خارج مضيق تايوان. مع نشاط الجيشين الصيني والأميركي على مسافة قريبة في بحر الصين الشرقي والجنوبي، وكلاهما عازم على إظهار رغبته في القتال، يستخدم الطيارون تكتيكات خطيرة تزيد خطر حدوث مواجهة غير مقصودة. في عام 2001، اصطدمت طائرة مقاتلة صينية بطائرة استطلاع أميركية فوق بحر الصين الجنوبي، ما أسفر عن مقتل الطيار الصيني وأدى إلى احتجاز الطاقم الأميركي لمدة 11 يوماً. بعد المبالغة في البداية [بهدف التأثير على الناس واستغلال الوضع]، عمل الصينيون على تفادي أزمة كبيرة، حتى إنهم قمعوا مظاهر معاداة أميركا في الشوارع. من الصعب جداً تخيل مثل هذا الحل اليوم، إذ إن الرغبة في إظهار العزم وتجنب إظهار الضعف ستجعل من الصعب للغاية نزع فتيل المواجهة.
النظام العالمي لا يستطيع أن يصمد
حتى لو تمكن الجانبان من تجنب الأزمة، فإن الاستمرار في المسار الحالي سيعزز الانقسامات الجيوسياسية بينما يعوق في الوقت نفسه التعاون في شأن المشكلات العالمية. في الحقيقة، تركز الولايات المتحدة بشكل متزايد على حشد الدول في كل أنحاء العالم للوقوف ضد الصين، ولكن في حال تشكل تحالف لمواجهة الصين، لا سيما بالنظر إلى الإطار الأيديولوجي الذي اعتمدته إدارتا ترمب وبايدن، فمن غير المرجح أن يشمل هذا التحالف مجموعة من الشركاء الذين قد يقفون للدفاع عن القوانين والمؤسسات العالمية. في ذلك السياق، كتب رئيس الوزراء السنغافوري لي هسين لونغ عن الصين والولايات المتحدة في هذه الصفحات في عام 2020: “لا تريد الدول الآسيوية أن تضطر إلى الاختيار بين الاثنين، وإذا حاول أي منهما فرض مثل هذا الخيار، إذا حاولت واشنطن احتواء صعود الصين أو سعت بكين إلى بناء مجال نفوذ حصري في آسيا، سيبدآن مساراً من المواجهة سيستمر عقوداً ويعرضان القرن الآسيوي [فترة هيمنة الدول والثقافات الآسيوية في قرن 21] الذي طال انتظاره للخطر”.
من المرجح أيضاً أن يسهم نهج المنافسة الحالي في تعزيز المواءمة بين الصين وروسيا. تمكنت إدارة بايدن من ردع المساعدة العسكرية الصينية لروسيا في أوكرانيا، وامتثلت الصين في الغالب للعقوبات، ما يدل على وجود حدود في الواقع للشراكة “بلا حدود” بين بكين وموسكو، ولكن طالما أن الحكومتين تتشاركان الاعتقاد القائل إنه لا يمكن أن تكونا آمنتين في نظام تقوده الولايات المتحدة، فسوف تستمران في تعميق تعاونهما. في الأشهر التي تلت غزو أوكرانيا، قامتا بدوريات عسكرية مشتركة في المحيط الهادئ وعملتا على تطوير بدائل للنظام المالي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة.
في نهاية المطاف، ستتشكل العلاقات الصينية- الروسية من خلال الطريقة التي تقيس بها بكين حاجتها إلى مقاومة الولايات المتحدة مقابل حاجتها إلى الحفاظ على العلاقات مع رأس المال الدولي والتكنولوجيا اللذين يعززان النمو. وتجدر الإشارة إلى أن تحالف الصين مع روسيا ليس قدراً تاريخياً: هناك نقاش مستمر رفيع المستوى داخل بكين حول الدرجة التي ينبغي أن تتقرب فيها من موسكو، علماً أن التكاليف التي ستترتب عن التوافق الكامل بينهما تولد الذعر بين بعض المحللين الصينيين. وعلى الرغم من ذلك، ما لم تستطع واشنطن أن تشير بصدقية إلى أن بكين ستنال أيضاً فوائد استراتيجية وليس مخاطر استراتيجية فحسب من إبعاد نفسها عن موسكو، فإن دعاة التعاون الصيني- الروسي الأوثق سيستمرون في كسب الجدال.
وبطريقة موازية، يحول التوتر الجيوسياسي المتزايد أيضاً دون التقدم في ما يتعلق بالتحديات المشتركة، بغض النظر عن رغبة إدارة بايدن في تجزئة بعض القضايا، وعلى الرغم من أن المبعوث الأميركي الخاص للمناخ جون كيري قد أحرز بعض التقدم في التعاون المناخي مع الصين، وتضمن ذلك بياناً مشتركاً في قمة المناخ العام الماضي في غلاسكو، فإن الضغينة تفوقت على التقدم في المجالات التي أثمرت فيها الجهود المشتركة السابقة، بما في ذلك مكافحة المخدرات ومنع انتشار الأسلحة وكوريا الشمالية. وفي كلا الجانبين، يخشى عدد كبير من صانعي السياسة من أن تفسر الرغبة في التعاون على أنها نقص في العزيمة.
وتؤدي تلك التوترات إلى زيادة تآكل الأسس الضعيفة في الأصل التي تستند إليها الحوكمة العالمية. ليس من الواضح كم من الوقت بعد يمكن لمركز النظام الدولي القائم على القواعد أن يصمد من دون جهد واسع النطاق من أجل تجديده، ولكن كلما تزايد قلق بكين من أن الولايات المتحدة تسعى لاحتواء نفوذ الصين أو تقليصه- من خلال حرمانها مثلاً من دور أكبر في الإدارة الاقتصادية الدولية- استثمرت أكثر في مؤسسات بديلة، مثل “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية” (Asian Infrastructure Investment Bank). وفي الوقت نفسه، فإن مشاركة الصين في النظام المتعدد الأطراف تهدف بشكل متزايد إلى تشويه سمعة القيادة الأميركية داخله. على الرغم من أن بكين لم تظهر بالضبط الولاء لعدد كبير من المبادئ التي تدعي أنها تدعمها، فإن الانقسام بين الميسورين والمعدمين سمح لها بتصوير الولايات المتحدة على أنها تحمي امتيازات عدد قليل من الدول القوية. في الأمم المتحدة، تسعى بكين وواشنطن في كثير من الأحيان لتقويض مبادرات بعضهما البعض، وإطلاق معارك رمزية تتطلب من الدول الأخرى الاختيار بينهما.
أخيراً وليس آخراً، يؤدي التركيز على المنافسة إلى تكبد تكاليف ومخاطر في الولايات المتحدة. في الواقع، فإن الجهود الأميركية العدوانية الرامية إلى حماية أمن البحوث، إلى جانب الهجمات المتزايدة ضد الأميركيين الآسيويين، لها تأثير مخيف على البحث العلمي والتعاون الدولي وتهدد جاذبية الولايات المتحدة كمغناطيس لاستقطاب المواهب الدولية. في ذلك الإطار، وجدت دراسة استقصائية أجرتها الجمعية الفيزيائية الأميركية (American Physical Society) في عام 2021 أن 43 في المئة من طلاب الدراسات العليا في الفيزياء الدولية والعلماء في بداية حياتهم المهنية في الولايات المتحدة اعتبروا البلد غير ودود، في المقابل، يعتقد ما يقرب من نصف العلماء الدوليين في بداية حياتهم المهنية في الولايات المتحدة أن نهج الحكومة في حماية البحوث قلل احتمال بقائهم هناك على المدى الطويل. وتظهر هذه التأثيرات بشكل خاص بين العلماء من أصل صيني. كذلك، وجدت دراسة حديثة أجراها منتدى العلماء الأميركيين الآسيويين (Asian American Scholar Forum) أن 67 في المئة من أعضاء هيئة التدريس المنتمين إلى أصل صيني (بمن فيهم المواطنون المجنسون والمقيمون الدائمون) أفادوا بأنهم فكروا في مغادرة الولايات المتحدة.
نظراً إلى أن الولايات المتحدة سعت إلى حماية نفسها من التجسس الصيني والسرقة والممارسات التجارية غير العادلة، فقد أصرت في كثير من الأحيان على المعاملة بالمثل كشرط مسبق للتبادلات التجارية والتعليمية والدبلوماسية مع بكين، لكن المعاملة بالمثل الصارمة مع نظام مغلق بشكل متزايد مثل الذي تعتمده الصين يؤذي الميزة التفاضلية التي تتمتع بها الولايات المتحدة والمتمثلة بالانفتاح التقليدي والشفافية وتكافؤ الفرص في مجتمعها واقتصادها، ما يحفز الابتكار والإنتاجية والتقدم العلمي.
وعلى نحو مماثل، يترك جو انعدام الأمن والخوف آثاراً ضارة على الديمقراطية ونوعية النقاش العام حول الصين وسياسة الولايات المتحدة. وتطغى الرغبة في تجنب الظهور بمظهر “المتساهل” تجاه الصين على مناقشات السياسة العامة والخاصة. والنتيجة هي أفكار مكررة تشجع المحللين والبيروقراطيين والمسؤولين على أن يكونوا على صواب سياسياً وليس تحليلياً. عندما يشعر الأفراد بالحاجة إلى التفوق على بعضهم في إظهار العدوانية تجاه الصين لحماية أنفسهم والتقدم مهنياً، تكون النتيجة هي التفكير الجماعي [أو تفكير القطيع]. والجدير بالذكر أن بيئة سياسية تحفز على الرقابة الذاتية والتركيز على الذات [التموضع الانعكاسي] تصد النقاش التعددي وتمنع وجود مكان مفعم بالنشاط لتبادل الأفكار، وهي مكونات ضرورية للقدرة التنافسية الوطنية في الولايات المتحدة.
من اعتقالات الحرب العالمية الثانية للأميركيين اليابانيين إلى المكارثية في الخمسينيات من القرن الماضي إلى جرائم الكراهية ضد الأميركيين المسلمين والسيخ بعد 11 سبتمبر (أيلول)، يمتلئ تاريخ الولايات المتحدة بأمثلة عن أميركيين أبرياء وقعوا في مرمى نيران المخاوف المبالغ فيها من “العدو الداخلي”. وفي كل حالة، أسهم رد الفعل المضخم، بقدر الخصم أو أكثر، في تقويض الديمقراطية والوحدة في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن إدارة بايدن دانت الكراهية المعادية لآسيا وشددت على أن السياسة يجب أن تستهدف السلوك وليس العرق، فإن بعض الوكالات الحكومية والسياسيين الأميركيين استمروا في الإيحاء بأن عرق الفرد وعلاقاته بالعائلة في الخارج تشكل أسباباً لمزيد من التدقيق.
قبل الكارثة
إذا تمكنت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي من التوصل إلى انفراج سياسي، فلا يوجد سبب يمنع واشنطن وبكين من القيام بذلك أيضاً. في وقت مبكر من الحرب الباردة، نادى الرئيس جون ف. كينيدي بالحاجة إلى “جعل العالم مكاناً آمناً للتنوع” وشدد على أن “موقفنا لا يقل أهمية عن موقفهم”. وحذر الأميركيين “من اعتبار الصراع أمراً حتمياً، والتكيف مستحيلاً، والتواصل مجرد تبادل للتهديدات”.
حتى مع التوضيح أن بكين ستدفع ثمناً باهظاً إذا لجأت إلى القوة أو غير ذلك من أشكال الإكراه، يجب على واشنطن أن تقدم للصين خياراً حقيقياً. يتطلب الردع إقران التهديدات بالضمانات. ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي ألا يخشى صناع السياسة في الولايات المتحدة التواصل مباشرة مع نظرائهم الصينيين من أجل مناقشة الشروط التي يمكن أن تتعايش بموجبها الولايات المتحدة والصين، بما في ذلك القيود المتبادلة في ما يتعلق بالمنافسة. كان من السهل نسبياً على الأميركيين تخيل التعايش مع الصين التي يعتقد أنها تسير في اتجاه أحادي نحو الليبرالية. وحاضراً، تواجه الولايات المتحدة وشركاؤها مهمة أصعب تتمثل في تخيل التعايش مع قوة عظمى استبدادية، وإيجاد أساس جديد للتفاعل الثنائي الذي يركز على تشكيل السلوك الخارجي بدلاً من تغيير النظام المحلي الصيني.
أما الحاجة الأكثر إلحاحاً فترتبط بتايوان، إذ يتعين على الولايات المتحدة تعزيز الردع والتوضيح في الوقت نفسه أن سياسة “الصين الواحدة” لم تتغير. وهذا يعني التأكد من أن بكين تعرف الثمن الذي قد تتكبده بسبب أزمة تايوان، ما يعرض للخطر أهدافها الإنمائية والتحديثية الأوسع نطاقاً ولكن أيضاً بأنها لو امتنعت عن اتخاذ إجراءات قسرية [تجاه تايوان]، فلن تستغل واشنطن أو تايبيه الفرصة للتمادي، في حين أكد وزير الخارجية أنطوني بلينكين وغيره من كبار المسؤولين أن الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان، فإن الإجراءات الأخرى التي اتخذتها الإدارة (خصوصاً تصريحات بايدن المتكررة حول وضع حد لـ”الغموض الاستراتيجي”) تثير الشكوك.
وفيما تساعد واشنطن في تعزيز صمود تايوان في وجه الإكراه الصيني، يجب عليها تجنب وصف تايوان بأنها عنصر ذو قيمة حيوية للمصالح الأميركية، إذ إن تصريحات مماثلة تغذي اعتقاد بكين بأن الولايات المتحدة تسعى إلى “استخدام تايوان لاحتواء الصين”، كما قال سفير الصين في واشنطن في مايو (أيار). عوضاً عن ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن توضح اهتمامها الثابت بعملية سلمية لحل الخلافات عبر المضيق، لا بالتوصل إلى نتيجة معينة. وبينما يسلط صانعو السياسة الأميركيين الضوء على التكاليف التي يمكن أن تتوقع بكين تكبدها إذا صعدت حملتها القسرية ضد تايوان، يجب عليهم أيضاً أن يؤكدوا لتايبيه أن الجهود الأحادية الجانب لتغيير الوضع السياسي لتايوان، بما في ذلك الدعوات إلى الاستقلال القانوني أو الاعتراف الدبلوماسي الأميركي أو خطوات رمزية أخرى للإشارة إلى انفصال تايوان الدائم عن الصين، يؤدي إلى نتائج عكسية.
ستكون تلك الخطوات ضرورية ولكنها ليست كافية لاختراق الحتمية المتزايدة في ما يتعلق بأزمة ما، نظراً إلى اعتقاد بكين المتشدد بأن الولايات المتحدة تسعى لاحتواء الصين وستستخدم تايوان لتحقيق هذه الغاية. وسيتطلب إيقاف انهيار العلاقات الأميركية الصينية بذل جهود أقوى ترمي إلى وضع قيود من أجل منافسة عادلة والرغبة في مناقشة شروط التعايش. على الرغم من الاجتماعات والدعوات الأخيرة، ليس لدى كبار المسؤولين الأميركيين حتى الآن تواصل منتظم مع نظرائهم من شأنه تسهيل مثل تلك المناقشات. إذاً، يجب تنسيق هذه المناقشات مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها لمنع بكين من محاولة إحداث شرخ بين الولايات المتحدة ودول أخرى في أوروبا وآسيا، لكن يجب على واشنطن أيضاً أن تصوغ تفاهماً مشتركاً مع حلفائها وشركائها حول الأشكال المحتملة للتعايش مع الصين.
في سياق متصل، قد يقول المشككون إنه لا يوجد سبب يدعو القيادة في بكين إلى المسايرة، بالنظر إلى خطابها الواثق من نجاحاتها وغياب الثقة. وفي الواقع، تعد هذه عقبات كبيرة، لكن الأمر يستحق اختبار الاقتراح بأن واشنطن يمكن أن تتخذ خطوات لتهدئة التوترات المتصاعدة من دون مواجهة أزمات متعددة أولاً مع منافس مسلح نووياً. وهناك سبب للاعتقاد أن بكين تهتم بدرجة كافية بتثبيت العلاقات ما يدفعها إلى الرد بالمثل. وعلى الرغم من ادعائها بأن “الشرق أخذ في الصعود والغرب يتراجع”، تظل الصين الطرف الأضعف، لا سيما بالنظر إلى مسارها الاقتصادي غير الواضح. وتميل التحديات المحلية عادة إلى تقييد سلوك الصين بدلاً من إثارة رهانات محفوفة بالمخاطر، مثلما توقع بعض المعلقين الغربيين. في ذلك الإطار، أظهر الخبير السياسي أندرو تشوب أنه عندما واجه القادة الصينيون تحديات لشرعيتهم، تصرفوا بشكل أقل حزماً في مناطق مثل بحر الصين الجنوبي.
وبما أن بكين وواشنطن لا ترغبان في تقديم تنازلات أحادية الجانب، خوفاً من أن يتم تفسيرها على أنها علامة ضعف في الداخل ومن قبل الطرف الآخر، فإن الانفراج سيتطلب المعاملة بالمثل. سيتعين على كلا الجانبين اتخاذ خطوات منسقة ولكن أحادية الجانب لتجنب أزمة عسكرية. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي التفاهم الضمني إلى تراجع في العمليات الصينية والأميركية داخل مضيق تايوان وحوله، ما يؤدي إلى خفض حدة الصراع من دون الإظهار عن الضعف. وتعتبر العمليات العسكرية ضرورية من أجل إثبات أن الولايات المتحدة ستستمر في الطيران والإبحار حيثما يسمح القانون الدولي، بما في ذلك مضيق تايوان، ولكن في النهاية، فإن قدرة الولايات المتحدة على الردع وقدرة تايوان على الدفاع ضد محاولة بكين أن تفرض التوحيد بقوة السلاح لا علاقة لها بما إذا كان الجيش الأميركي يعبر مضيق تايوان أربع أو ثماني أو 12 أو 24 مرة في السنة.
وفي الجو الحالي من انعدام الثقة، يجب أن تقترن الكلمات بالأفعال. في اجتماعه الافتراضي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 مع بايدن، قال شي “نحن نتحلى بالصبر وسنسعى جاهدين من أجل إعادة التوحيد السلمي بأقصى قدر من الأمانة والجهود”، بيد أن تصرفات بكين منذ ذلك الحين قوضت مصداقيتها في تايبيه وواشنطن. وعلى نحو مماثل، قال بايدن لـ”شي”، إن الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب باردة جديدة أو تغيير نظام بكين. وعلى الرغم من ذلك، فإن الإجراءات الأميركية اللاحقة (بما في ذلك الجهود المبذولة لتنويع سلاسل التوريد بعيداً من الصين والقيود الجديدة على التأشيرات المفروضة على مسؤولي الحزب الشيوعي الصيني) أضعفت صدقية واشنطن ليس أمام القادة في بكين فحسب، بل أيضاً أمام جهات أخرى في المنطقة. والجدير بالذكر أن استمرار بعض مسؤولي الإدارة في التذرع بأوجه التشابه مع الحرب الباردة، لا ينفع.
ومن أجل تعزيز مصداقيتها، يجب على إدارة بايدن بذل مزيد من الجهود الرامية إلى تفادي الاتهامات بالنفاق وازدواجية المعايير. فلنفكر مثلاً في سياسة الولايات المتحدة لمكافحة الاستبداد الرقمي: استهدفت واشنطن شركات تكنولوجيا المراقبة الصينية بشكل أكثر قسوة من الشركات المماثلة المتمركزة في الولايات المتحدة وإسرائيل والديمقراطيات الغربية الأخرى.
العالم المنشود
حتى الآن، فإن جهود إدارة بايدن لبناء النظام تركزت على الترتيبات التي تستثني الصين، مثل الكواد (الحوار الأمني الرباعي) Quadrilateral Security Dialogue QUAD والإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. على الرغم من حرص المسؤولين على الإصرار على أن هذه المبادرات لا تستهدف أي دولة بمفردها، فإنه في المقابل لا توجد مؤشرات تذكر على أي جهد مماثل للتفاوض في شأن دور بكين في النظام الدولي أو الإقليمي. على الهامش، كانت هناك بعض الدلائل على أن المجموعات الشاملة لا تزال قادرة على تحقيق ذلك (أبرمت منظمة التجارة العالمية اتفاقيات في شأن إعانات صيد الأسماك ولقاحات كورونا)، ولكن إذا استمر إعطاء الأولوية للاستثمارات في تحالفات أضيق ومناسبة للغرض الذي أنشئت من أجله، عوضاً عن الاتفاقيات والمؤسسات الأوسع نطاقاً وشمولاً، بما في ذلك تلك التي تلعب فيها الصين والولايات المتحدة أدواراً رئيسة، ستؤدي التوترات الجيوسياسية إلى تحطيم النظام الدولي بدلاً من تنشيطه.
وسيتطلب تجديد القيادة الأميركية أيضاً بذل مزيد من الجهد لمواجهة الانتقادات القائلة، إن النظام الذي تقوده الولايات المتحدة يعني “قواعد تنطبق عليك ولكن لا تنطبق علي”، كما أن الاعتراف الواضح والمتواضع بالحالات التي انتهكت فيها الولايات المتحدة ميثاق الأمم المتحدة، على غرار غزو العراق، سيكون خطوة مهمة للتغلب على هذا الاستياء. ويجب على واشنطن القيام بشيء مفيد للمواطنين في البلدان النامية، سواء في ما يتعلق بكورونا أو المناخ أو الجوع أو التكنولوجيا، بدلاً من الاكتفاء بحثهم على عدم التعامل مع الصين. في الداخل، يجب على واشنطن أن تعمل على إعادة بناء دعم الحزبين لمشاركة الولايات المتحدة في النظام الدولي.
وبينما تعيد الولايات المتحدة تصور هدفها المحلي والدولي، يجب أن تفعل ذلك وفقاً لشروطها الخاصة، وليس من أجل التفوق على الصين. وعلى الرغم من ذلك، فإن بلورة رؤية شاملة وإيجابية للعالم الذي تسعى إليه سيكون أيضاً خطوة أولى نحو توضيح الشروط التي بموجبها سترحب الولايات المتحدة بالمبادرات الصينية أو تتقبلها عوضاً عن معارضتها تلقائياً. وتجدر الإشارة إلى أن المصالح والقيم المتباينة للدولتين ستظل تؤدي إلى معارضة الولايات المتحدة لعدد من أنشطة بكين، لكن هذه المعارضة ستصاحبها رغبة واضحة في التفاوض في شأن شروط النفوذ الصيني المتزايد. لا يمكن للولايات المتحدة أن تتنازل عن جزء كبير من نفوذها لبكين إذ إن القواعد والمؤسسات الدولية لم تعد تعكس المصالح والقيم الأميركية، لكن الخطر الأكبر اليوم يتمثل في أن الجهود الحماسية بشكل مفرط المبذولة لمواجهة نفوذ الصين ستقوض النظام نفسه من خلال مزيج من الشلل وتعزيز الترتيبات البديلة من قبل القوى الكبرى.
أخيراً، يجب على الولايات المتحدة أن تقوم بمزيد للاستثمار في القدوة التي تمثلها ولضمان ألا تؤدي الخطوات المتخذة لمواجهة الصين إلى تقويض دورها كقدوة من خلال الوقوع في فخ محاولة التفوق على الصين. وينبغي تقييم الإجراءات الوقائية أو العقابية، سواء أكانت عسكرية أو اقتصادية أو دبلوماسية، ليس على أساس ما إذا كانت متخذة في وجه الصين فحسب بل أيضاً على أساس الطريقة التي تؤثر بها على النظام الأوسع وما إذا كانت تعكس الإخلاص لمبادئ الولايات المتحدة.
لا يمكن أن تصبح المنافسة في غاية حد ذاتها. وطالما أن التفوق على الصين يمثل شعوراً ضرورياً للولايات المتحدة، فسوف تستمر واشنطن في قياس النجاح بشروط مختلفة عن شروطها الخاصة. في الواقع، تعتبر التصنيفات بناءً رمزياً، وليس شرطاً موضوعياً. وإذا كان السعي إلى تحقيق التقدم البشري والسلام والازدهار هو الهدف الأسمى، كما ذكر بلينكين، فإن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى هزيمة الصين من أجل الفوز.
جيسيكا تشين فايس أستاذة قسم مايكل ج. زاك لدراسات الصين وآسيا والمحيط الهادئ بجامعة كورنيل. عملت مستشارة في الشؤون الدولية في مجلس العلاقات الخارجية في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية من أغسطس 2021 إلى يوليو 2022. الآراء المعبر عنها هنا هي وجهات نظرها الخاصة.
مترجم عن نص نُشر في فورين أفيرز في عدد سبتمبر/أكتوبر
المصدر: اندبندنت عربية