عندما فتح ياروسلاف كاتشينسكي، زعيم حزب “القانون والعدالة”، أكبر أحزاب الائتلاف الحاكم في بولندا، النار على الاتحاد الأوروبي، متهماً إياه بالسعي إلى بناء دولة “عملاقة”، كان يتحدث بأصوات أقطاب اليمين الذين وقفوا ضد الاتحاد الأوروبي منذ أيامه الأولى. فقد كانت كلمات رجل بولندا القوي أشبه برجع الصدى لما قالته مارغريت تاتشر في خطابها الشهير في بروج (1988)، وما اشتكى منه، كل بطريقته، الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان، وقادة آخرون. كان الهدف الأساسي للمشروع كما تخيله مهندسوه الأوائل، وفي مقدمتهم الفرنسيون والألمان، توحيد القارة اقتصادياً درءاً لحروب جديدة. لكن رأى المشككون في الاتحاد الأوروبي Eurosceptics أن التكامل يتحول إلى انصهار، والحدود تتلاشى في ما تبتلع الدولة “العملاقة” مكوّناتها.
الصراع بين السيادة القومية للدول والاندماج في أوروبا الموحدة هو في صميم المشروع الأوروبي، منذ بدأ التداول بشأنه بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة (1949) قبل إنشاء “الجماعة الاقتصادية الأوروبية” في عام 1957 وانطلاقه فعلياً. وبذوره متأصلة في طبيعة الاتحاد ككيان يجمع بين مواصفات الدولة ذات المؤسسات الرسمية الأساسية من بنك ومحكمة وبرلمان وعملة موحدة من جهة، وسمات المؤسسة الفيدرالية، من جهة أخرى.
والتوتر الناجم عن هذا الصراع حاضر في تعاطي الاتحاد مع مكوّناته ذات “الحساسية” القومية خصوصاً، ويؤثر ويتأثر بتبايناتها الداخلية. هكذا تضبط العلاقة مع الاتحاد الأوروبي إيقاع الخلافات في الائتلاف الحاكم الذي يقوده حزب “القانون والعدالة” في بولندا منذ 2015، والتفاهمات بين فئات الحزب الثلاث، وإحداها أكثر تشدداً حيال الاتحاد من الآخريين. أما في بريطانيا، فكانت آليات العمل مع الاتحاد سبباً مباشراً في إطاحة ثلاثة رؤساء وزراء، هم مارغريت تاتشر (1979-1990) وديفيد كاميرون (2010-2016) وتيريزا ماي (2016-2019)، وتأجيج حرب أهلية في حزب المحافظين لا تزال تستعر، دافعة به إلى اليمين أكثر فأكثر.
لكن رغم المناوشات المتواصلة، فإن خسائر الاتحاد الفعلية كانت عموماً محدودة. وحدها بريطانيا التي اعتبر شارل ديغول في 1961 أنها تكنّ “عداءً متأصلاً” تجاه الاتحاد، انسحبت منه في 31 كانون الأول (يناير) 2020 بعد قرابة خمسين عاماً. ولئن كانت حكومة المحافظين الحالية في لندن لا تزال منهمكة في مهاجمته، فقد أخذ الشعب البريطاني يتغير بعدما بدأ يحصد أشواك خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي (البريكست) بطالة وفقراً وشح مواد استهلاكية وخوفاً من اندلاع العنف مجدداً في أيرلندا الشمالية.
مثلاً، أظهر استطلاع للرأي أجرته شركة “إيبسوس” في نهاية حزيران (يونيو) الماضي، أن 45 في المئة من البريطانيين يعتقدون أن البريكست جعل حياتهم اليومية أكثر سوءاً. واللافت أن نسبة هؤلاء في حزيران 2021 كانت 30 في المئة فقط.
والأحزاب اليمينية التي لوّحت ذات يوم بالانسحاب أعلنت توبتها. فمارين لوبن زعيمة “التجمع الوطني” الفرنسي، التي روّجت سابقاً لـ”فريكست”، باتت معنية بتصحيح أخطاء الاتحاد من الداخل. وبالمثل، صارت “إيطاليكست” في ذمة التاريخ بعدما تخلى ماتيو سلفيني، وحزبه “الرابطة”، عن مشروع إخراج إيطاليا على طريقة البريكست.
صحيح أن بولندا وهنغاريا تخوضان منذ سنوات معارك متقطعة مع الاتحاد الأوروبي، يدور بعضها في أروقة المحاكم، لأنه يرفض حرصهما على تشديد قبضة النظام على المحاكم وسن تشريعات مخالفة لقوانينه. وقد فرض عقوبات مالية وتنظيمية على الدولتين بسبب هذه المخالفات، أبرزها عدم دفع مستحقاتهما من مساعداته الخاصة بالجائحة، وتبلغ في حالة بولندا نحو 36 مليار يورو. إلا أن فوائده وسخاءه أكبر من أن تقوى أي منهما على مغادرته، ناهيك بشعبيته المتنامية في البلدين. في بولندا، مثلاً، فاز ستانسلاو زولتيك الذي تعهّد إخراج بلاده من الاتحاد بمجرد 0.23 في المئة من الأصوات في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، وجاء سابعاً.
ربما انتهى موسم الهجرة من الاتحاد الأوروبي أو يكاد، مع بدء انتعاش دوله اقتصادياً وهبوط معدلات البطالة فيها، ونجاحه في رصد مليارات اليورو لدعم تعافي الدول الأعضاء من جائحة كوفيد-19. وأخذت أسهمه ترتفع حتى وصلت إلى 68 في المئة في 2019، وهذا المستوى الأعلى في تاريخه منذ 1983، علماً أن نسبة تأييده الشعبي تراجعت بين 2007 و2015 إلى أقل من 50 في المئة. وطبيعي أن تميل الأحزاب اليمينية الشعبوية مع آراء الناخبين كلّما مالت.
ولا ننسى أن ما بعد أوكرانيا ليس كما قبلها. من السابق لأوانه الحديث عن تداعيات الحرب. لكن من نتائجها حتى الآن تعزيز موقع الدول المتاخمة لأوكرانيا، وفي مقدمتها هنغاريا وبولندا. كما أبدى الاتحاد بسببها بعض التساهل بشأن تسوية الخلاف مع وارسو، معلناً عزمه على الإفراج عن المليارات المجمدة شرط تنفيذ إصلاحات تضمن احترام سيادة القانون. غير أن كاتشينسكي شنّ حملة شعواء عليه في مقابلة أجراها في 8 آب (أغسطس)، متهماً إياه بالإخلال بالاتفاق، ومؤكداً اقتناعه “بأنهم يريدون كسر بولندا” لأنها لا تناسب “الخطط الألمانية – الروسية” للسيطرة على أوروبا”!
الإجابات عن التساؤلات المشروعة عن المرحلة المقبلة من حياة الاتحاد برسم المستقبل. فمن الصعب حالياً الجزم بما إذا كانت أزمة أوكرانيا ستقويه أو ستضعفه، أقله من الناحية الاقتصادية، وبالتالي توقظ رغبة البعض بالانفضاض عنه؛ أو إذا كانت ستساهم في جعل أخطائه المزمنة، مثل البيروقراطية وتبديد الموارد والقوانين البالية، كتلك التي تقيّد الإتجار بـ”الموز الملتوي”، أمضى وأخطر على حياته بعدما تعايش مع بعضها طويلاً. لكن ترجح حسابات الربح والخسارة الأولية كفة بقائه وتطوره، على عكس ما يشيعه خصومه. ولعل الكيان الذي تضاعف عدد دول أعضائه أربع مرات في 70 عاماً حتى الآن، أكثر تماسكاً من المملكة المتحدة المهددة بالتفكك بانفصال إيرلندا الشمالية واسكتلندا، ومن الولايات المتحدة التي واجهت محاولة “انقلاب” في 6 كانون الثاني (يناير) 2020.
وهو أبقى من “أعداء” على شاكلة كاتشينسكي، 73 عاماً، الذي حقق إنجازات باهرة، بصرف النظر عن مدى إيجابيتها، لكنه بدأ مرحلة الخريف السياسي، كما يبدو. فهو يردّد نظريات مؤامرة، كالتي تزعم أن اللاجئين من المنطقة العربية يجلبون معهم الأمراض والأوبئة إلى الغرب. ولعله استعار في مقابلته الأخيرة لسان قادة شرق أوسطيين، فراح يوزع الاتهامات جزافاً من دون أدلة مقنعة، كما اعتبر أن دونالد تاسك، زعيم المعارضة رئيس الوزراء الأسبق ورئيس المفوضية الأوروبية السابق، “خائن”. هكذا استسهل هذه المرة تخوين خصومه وشدّد على شعوره باستهداف بلاده دائماً! ومن يدري، لعله سيقول في الإطلالة المقبلة إن بولندا تواجه مؤامرة عالمية، أو أنها الدولة الوحيدة في الاتحاد وكل ما عداها “عصافير”!
المصدر: النهار العربي