منذ عودة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من مدينة سوتشي بعد لقائه نظيره الروسي فلاديمير بوتين في 5 آب (أغسطس) الجاري، برزت معطيات جديدة تتعلق بموقف تركيا من الأحداث في سوريا، تختلف عن مواقفها السابقة. وكان واضحاً من خلال التصريحات الأخيرة المتكررة لوزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو عن ضرورة التصالح بين النظام والمعارضة في سوريا، أن شيئاً ما قد حدث في سوتشي حول الملف السوري، على رغم أن تصريحات أردوغان اقتصرت على التعاون مع روسيا لمكافحة الإرهاب، ولم يصدر عن الرئيس الروسي أي كلمة تشير الى موافقته على عملية عسكرية تركية في الشمال السوري، وهو طلب من أردوغان التعاون لإيجاد تسوية في سوريا، تضمن مساعدة النظام في احتواء الموقف، وإيقاف النزاع المسلح بينه وبين الفصائل المعارضة له.
لا يمكن الاستهانة بمدى تأثير تركيا في الملف السوري، حيث هناك ما يزيد على ثلاثة ملايين نازح سوري يعيشون فيها، وما يزيد على هذا العدد متواجد في محافظة إدلب وشرق حلب اللذين تسيطر عليهما المعارضة، وهؤلاء على علاقة طيبة مع تركيا، والأخيرة تمون على غالبية الفصائل المسلحة المتواجدة في هذه المناطق. وكان التفاهم الذي حصل بين روسيا وتركيا قد منع عملية عسكرية غير مضمونة النتائج، كانت ستنفذها القوات الحكومية السورية على إدلب في شهر أيار (مايو) من العام 2019.
من الواضح أن تفاهماً حصل بين بوتين وأردوغان حول سوريا في سوتشي، وإن كان غير معلن. وليست مصادفةً أن تأتي الانعطافة التركية تجاه سوريا بعد هذه القمة مباشرةً. وتوضيحات الوزير جاويش أوغلو حول الدعوة الى “تسوية” في سوريا، وليس الى “مصالحة” بين المعارضة والنظام؛ لا تنفي حصول هذه الانعطافة، لأن مواقف تركيا كانت ضد النظام ومؤيدة لمطالب المعارضة قبل هذا التاريخ. وقوى المعارضة السورية المتنوعة أدركت هذا التحوُّل التركي، وقد تظاهر العديد من المواطنين السوريين في محافظة إدلب مُنددين بالسياسة التركية الجديدة.
ما هي مبررات التحوّل التركي. وهل هو تحوّل تكتيكي، أم أنه يحمل أبعاداً استراتيجية جديدة ستعتمدها تركيا في المقبل من الأيام؟
يبدو أن تبادل المنافع بين تركيا وروسيا توسَّع الى حدود بعيدة. فإضافة الى إطلاق يد تركيا لإرساء تفاهم على تصدير القمح والذرة من موانئ أوكرانيا وروسيا، والعمل على عقد اجتماع تفاوضي بين البلدين المتحاربين، فقد وعد بوتين، أردوغان بتنفيذ المرحلة الثانية من صفقة صواريخ “أس – 400” المتطورة، واستكمال بناء المحطة النووية السلمية في جنوب تركيا من قبل الشركات الروسية. وفي المقابل فإن أردوغان وعد بعدم السماح باستخدام خط غاز “ترك ستريم” الذي يمر عبر الأراضي التركية ويصل إلى أوروبا من قبل أي جهة تضرّ بمصالح روسيا. وواضح أن أردوغان وعد بوتين بفتح قنوات تواصل مع نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا بعد قطيعة استمرَّت ما يزيد على عشر سنوات.
هناك رأي تؤيده أوساط تركية واسعة، يقول: إن التحوَّل تجاه سوريا تكتيكي وموقت، وهو يهدف الى سحب ورقة النازحين السوريين من يد المعارضة التركية، وهي تحاول استثمارها في الانتخابات التشريعية والرئاسية التي ستجرى في أيلول (سبتمبر) 2023 ضد أردوغان، والأخير يعمل على ترحيل قسم من النازحين الى شريط حدودي في شمال سوريا، ويستعمل هذه الحجة للقيام بعملية عسكرية لطرد قوات “قسد” و”حزب العمال الكردستاني” من هذا الشريط، وهو يضغط للحصول على موافقة روسيا على هذه العملية. كما أن أردوغان يحاول اعتماد تهدئة مع النظام السوري، لكي يخفف من حدة استخدام المعارضة التركية لأصوات العلويين الأتراك ضده، خصوصاً أن أعداد هؤلاء تتزايد، وتقول التقديرات أنهم يشكلون 12 في المئة من عدد المقترعين الأتراك، والغالبية منهم متعاطفة مع نظام الرئيس بشار الأسد.
والرأي الآخر، يرى أن الانعطافة التركية الجديدة لها أبعاد استراتيجية ودائمة، لأن مصالح أردوغان مع روسيا أصبحت تزيد على مصلحته مع الولايات المتحدة الأميركية، ما يدفعه الى مراعاة سياسة موسكو في سوريا، وفي غير سوريا. وواضح أن التفاهم الذي حصل بين روسيا وإيران وتركيا في قمة طهران الأخيرة، لا يؤذي الطموحات التركية المستقبلية، وهو ضمن لأردوغان جانب إيران التي تغذي سراً المنظمات المعادية لتركيا، خصوصاً ميليشيات “حزب العمال الكردستاني” في سنجار شمال شرقي العراق وفي شمال سوريا.
ستوضِّح الأيام المقبلة ما اذا كانت الانعطافة التركية تجاه سوريا موقتة أم دائمة على المدى المنظور، وذلك في ضوء التطورات الميدانية التي تحصل في شمال سوريا، وموقف روسيا وإيران من العملية العسكرية التي قد تنفذها أنقرة هناك. كما أن أردوغان بدأ يتلمس التغيير الجوهري الذي حصل في المزاج الدولي العام تجاه نظام الأسد، وهذا المزاج قد يؤدي الى فتح صفحة جديدة مع هذا النظام بحجة وقف النزوح السوري الى أوروبا، والضغط على نظام الأسد للقبول بإعادة قسم من هؤلاء النازحين الى وطنهم الأم.
المصد: النهار العربي