من يمنع أي حل سياسي في سورية هم جدران الفساد والاستبداد (البعث أسدي)، إنهم وقفوا ومازالوا يقفون عائقاً في وجه السلام في وطننا سورية، ويزرعون الخراب والدمار والفرقة منذ عقود بإدارة نظام تشبيحي عميل، إنهم أشد خطراً من البندقية، والمستعمر والمخططات التدميرية، وأشد فتكاً من المؤامرات الدولية، لأنهم يسيرون فوق جثث الأبرياء من شعبنا بلؤم وتكبر، متسرطنون في حيواتنا وغذائنا وشرابنا وأمننا واستقرارنا، يتاجرون بدماء جميع أبناء الشعب السوري؛ وأصحاب الأسهم الأكبر، في شركة الفساد السورية هذه، هم ضباطٌ في الجيش والأمن، وتجارٌ وأصحابُ مصانع، ورجال أعمال وصبيانهم الصغار، ورؤساء اتحادات عمالية وفلاحية، وأعضاء في غرف الصناعة والتجارة بالمدن والحواضر السورية، وقادة في حزب الفساد البعثي، واتحادات الطلبة، وخفافيش داخل مؤسسات الدولة، تساهم بتعزيز الرشوة والوصولية والانتهازية، مهندسون وشركات عقارات وجمعيات سكنية، واتحاد حرفيين، ومفاتيح فساد داخل البلديات في القرى والأرياف يتقاسمون الغنائم مع المُحافظين ورجالهم في المدن الكبرى، واتحادات رياضية للنهب والمحسوبية، ووزارات مترهلة بفائض متخلف من الموظفين العاطلين عن العمل، فضلاً عن أمراء الحرب وتجار المعابر (في المعارضة والنظام)، يتقاسمون الغنائم فوق جثث الجياع بالمناطق المحاصرة، جمعيات إغاثية، ومعارضة وصولية تقبض من دول الخراب العربي، منظمات مجتمع مدني وقادة فصائل كانت سراويلهم مرقعةً فصاروا يرتدون الجينز ويركبون سيارات الدفع الرباعي، ويشربون الشاي في مقاهي لوزان، قضاة ومحامون باعوا ذمتهم وضميرهم وأخلاقهم، فصار المجرم ملاكاً، فتُوج القاتل وزُج بالبريء في غياهب السجون، وأطباء صاروا رجال أعمال، وتجار بناء وأراضي؛ إنها منظومة الفساد السورية برعاية إدارة دولية أكبر دفعت سلطة الجريمة لما يسمى المصالحة فأعادوا اعتقال من صالحوهم! إنها المنظومة الأكثر حقارة في العالم الثالث، والأكثر إجراماً ووضاعة ولؤماً على وجه الأرض.
هؤلاء هم الجدران التي تقف في وجه الحل السياسي، وهم ذاتهم من يعزز الخلافات ويعمقها بين أبناء الشعب السوري الواحد، ومن وسوسوا للشيطان، لتدمير المدن الآهلة، لكي يكون لهم دور في إعادة الإعمار، وهم من يلعبون بأسعار العملات صعوداً وهبوطاً ويسحبون اللقمة من دم الفقراء؛ وقبل الحديث عن الديمقراطية والحرية و«العدالة الانتقالية»، على كل سوري، أن يعرف من هم أعداءه الأكثر فتكاً، إذ دون كنسهم ومحاسبتهم، فإن نهوض سورية سيكون مجرد وهـــــــــم.
لقد استغلت منظومة الحكم هذه أبناء الأقليات، وعلى الأخص الطائفة العلوية، وزجت بهم في ريح مصالحها وتسببت بهلاك مئات الآلاف، كما جرَّت بقية أبناء سورية لذات المحرقة ودمرت البلاد بشكل ليس له مثيل في تاريخنا الحديث، وهذا لم يُشبع نهمهم للمال، مما دفعهم، ومازالوا، لاختلاق المبررات الكافية لاستمرار الحرب على الشعب، وصولاً للسلم المتوافق مع مصالحهم وأطماعهم غير المحدودة؛ أما الحرية والديمقراطية، فهي العدو الأول لهم، لأنها ستفتح الأعين وستفرض القانون، وستحاسب الفاسد والراشي والمرتشي والمُخبر وبالتالي بدء المحاسبة و«العدالة الانتقالية»، وهذا الأمر غير مسموح به حتى الآن في مملكة الفساد السورية.
الشعب الذي لا يعرف ماضيه لا يقدرُ على فهم واقعه، وبالتالي يعجز عن السيطرة عليه، ما يعني أن آخرين سيُسيطرون على هذا الواقع بدلاً منه؛ وتظهر سيطرتهم في الأبعاد الثقافية- الإيديولوجيّة، وفي السياسة والاقتصاد، ويؤدي ضعفُ المعرفة بالتاريخ إلى العجز عن فهم العمليات التاريخية التي أدّت إلى الوقائع والأزمات وتفسير الظواهر التي ما نزال نعيشها، مما ولّد بدوره، قصوراً اجتماعياً عميقاً، يعتاش على مجتمع ضعيف التسييس والإرادة وبالتالي قليل المشاركة في الحياة العامة وفي صناعة مستقبله؛ فنحن لا نكتب تاريخنا وفق السيناريو الخاص بنا، بل حسب سيناريو الذين دفعوا، ويدفعون، باتجاه النسيان والتجاهل، ولسنا في الحقيقة مالكي حاضرنا، وذلك لأننا نعاني من ضعفٍ في معرفة تاريخنا، ونتجاهل أخطاءنا، فلا بد من إيقاظ واستعادة «الذاكرة التاريخية» الجماعية على الدوام، والتي هي عبارة عن حراكٍ اجتماعي- ثقافي منبثق عن المجتمع المدني، يسعى للكشف، برصانة، عن تاريخ النضال ضد الاستبداد وديكتاتورية آل أسد، وعن كتبة تقاريرهم ومُخبريهم ومُجرميهم، والكشف عن حكم العائلات الإقطاعية القديمة والطبقات المُفضَّلة المُغتصبة للامتيازات عبر تاريخ المنطقة، والتعريف بالمساهمين حقيقةً بالنضال في الماضي والحاضر، بغية تحقيق «العدالة الانتقالية» واستعادة مُثل ومرجعيات النضال من أجل حقوق الإنسان والحرية والعدالة الاجتماعية التي ننشدها.
وحين نتحدّث عن «العدالة الانتقالية» نقصد الاعتراف والتعويض والمحاسبة، دون أي معانٍ انتقامية ممكنة، مهما اتهمت حركة استعادة «الذاكرة التاريخية» الجماعية من قبل بعض الأوساط التي تفتقد للوعي وتريد الفوضى والدمار لكل المنطقة وشعوبها، فهناك فرقٌ واضح بين الانتقام، وإيجاد الحقيقة وتطبيقها وإحقاق العدل؛ وخطاب «المرحلة الانتقالية» السورية التي يُبشِرُنا بها من يُهندِسها ويبنيها، من ورثة وأحفاد {سايكس- بيكو- (سازونوف)} وعملائهم، بحيث تنطلق من «النسيان» و«طي صفحة الماضي»، فلم يأخذوا بعين الاعتبار أن هناك معتقلين لم يُطلق سراحهم وكثيرون منهم قضوا تحت التعذيب، وضحايا لم يُعوّضوا، مادياً ومعنوياً ورمزياً؛ وأن هناك جُناة، على شكل نظام ديكتاتوري قمعي ككل، وأيضاً كأفراد فاعلين فيه، وهم لن يُحاسبوا وفق توجههم هــذا.
فبدرايةٍ ووعيٍ أو من دونهما، فإن البشر هم الذين يبنون تاريخهم، وهم الذين سيتحمّلون نتائج بنائهم، وحين نتحدّث عن ثورة على الفساد والاستبداد والديكتاتورية، وحرب على الثورة والأحرار، فإننا نتحدث عن أناس قُتلوا أو هُجروا أو اغتيلوا أو عُذبوا أو سُجنوا، أو لوحِقوا أو تعرّضوا للإهانة، ولم يتمَّ التعاملُ مع هؤلاء الضحايا كما يستحقّون، بل وجدوا أنفسهم حبيسي الصمتِ وعدم الاعتراف بهم بعد عقود من تَحمُّلِهم لويلات القمع، وخاصة بعد انطلاق الثورة في 15 آذار/ مارس 2011، ويجب أن يكون التعامل الصحيح مع هؤلاء الضحايا ضمنَ الصفحة الأولى من المسائل العالقة في سورية؛ فالاعتراف وإعادة الحقوق والتكريم، والعمل من أجل استعادة جثامين الذين ماتوا خارج الوطن ومن تم تغييبهم واغتيالهم، وإجلاء الحقيقة أمام أعين الأهالي ودعمهم نفسياً والاعتراف بعذاباتهم مجتمعياً ومؤسساتياً وعودة المهجرين لوطنهم وأملاكهم وإعادة ما اغتصب منهم، ووضع «العدالة» بمتناول أيديهم على المستويين الأخلاقي والمادي، هي مهماتٌ أساسية في صلب «العدالة الانتقالية».
إن المواطنة هي المستهدفة بالعدوان عليها من أنظمة الاستبداد، الذي لا يمكن أن يستوطن بلد ما، إلا بإثارة العصبيات وإدارة الصراع بينها وتغذيته بين مكونات المجتمع، وبالتالي فإن استعادة المواطنة بقيمها الحقوقية والقانونية تتصدر أول الأولويات السياسية والمدنية، ذلك أن المواطنة شرط أساسي لاستعادة الحياة السياسية والمؤسسات الوطنية من أول مؤسسات المجتمع إلى آخر مؤسسات السلطة، وما يناط بتلك المؤسسات من مهام هي شرط الديمقراطية، إذ بدونها لا ديمقراطيــة.
نحن بحاجة ماسة لنغادر الخوف من الماضي، ونقاوم الخوف في الحاضر، ونتصدى للخوف من المستقبل، وذلك برفض الخيارين معاً: الاستبداد ، والاحتراب الأهلي بالتوازي والتزامن، وقد سبقنا إلى ذلك جيلٌ من الشباب رفض منذ اللحظة الأولى للثورة خيار الاستبداد وخيار الاحتراب الأهلي في الوقت ذاته، فرفع شعارين متلازمين يتبادلان الأولوية في كل تظاهرة: «الشعب يريد إسقاط الاستبداد»، و«الشعب السوري واحد»، لكن هذا لا يعني أن القوى التي تعبث بالنسيج الاجتماعي قد كفت يدها عن العبث، فالصراع مازال مفتوحاً، وهناك قوى عديدة قوية وفاعلة ومتداخلة، ومتناقضة أحياناً في المصالح، تجيد اللعب على هذه القضية، منها من يتخوف على مصالحه بعد زوال نظام كان ضامناً لها، ومنها من يخشى رياح الربيع العربي إذا انتصرت في سورية، ولعل المبدأ التأسيسي للدولة الحديثة، هو بالإضافة إلى مبدأ السيادة الوطنية للشعب، يكمن في مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وصياغة هذا المبدأ عبر دستور وقوانين وأنظمة تشكل بمجملها نظاماً عاماً للمجتمع والسلطات والحدود التي لا يحق لأحد تخطيها أياً كانت صفته ومكانتـه.
ومع «العدالة الانتقالية» هناك «المرحلة الانتقالية» ذات الخاصية المأساوية في سورية ذلك أنها ستأتي بعد الجراح العميقة التي ذكرنا، وهي تتعمق مع كل دقيقة، ونالت من النسيج الاجتماعي حتى الجذور، وبالتالي فإن «المرحلة الانتقالية» ذات طابع إسعافي هنا في الأساس، والمؤسسة المركزية لإجراء الإسعافات الأولية هي مؤسسة القضاء، ذلك أن ألف باء نجاح «المرحلة الانتقالية» يبدأ بحصر السلاح وجمعه، ووضعه بيد جيش وقوى شُرطية وطنية حصراً ومطلقاً، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بقيام مؤسسة قضائية ذات مصداقية، ذلك أنه لا يمكن لأحد أن يكف عن السعي لاستيفاء حقه بيده وبسلاحه إلا إذا نهضت مؤسسة للعدالة موثوقة ذات مصداقية تتكفل بالحفاظ على حقوق كل مواطن، أو تعيدها إليه إذا كانت تعرضت للعدوان، ومن هنا لا بد أن ينص الإعلان الدستوري الذي يشكل المرجعية الدستورية لـ«المرحلة الانتقالية» على استقلالية القضاء استقلالاً تاماً ومطلقاً عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهكذا نبــدأ.
لهذا، فإن «إصلاح القضاء في سورية» يبدأ بالتأسيس الشامل دستورياً وتشريعياً لقضاءٍ مغاير تماماً وعلى أسس عصرية، وينتهي بالتأسيس لهيكلية القضاء بناءً على تلك الأسس، ثم يبدأ القضاء بالعطاء وتحقيق العدالة وتحصين المجتمع والسلطات من الوقوع في الخلل مرة أخرى، بعد أن يساهم في إزالة آثار الخلل الذي كان من إعادة الحقوق لأصحابها وجبر الضرر والتعويض والمصالحة وإعادة الاعتبار لقوة القانون وطي صفحة قانون القوة.
فكيف لشعبنا أن يفرز من بين صفوفه كتلة وطنية تكون الحامل لإرادته ولبرمجة «مرحلة انتقالية» يقررها هو، ويصيغ دستورها هو، ويحدد أدواتها هو لتحقيق «العدالة»؟ كيف؟ ومتى؟ ومن أين تكون البداية؟ وبمن تكون بعد التخلص من النظام وأدواتــه؟
إن الشعب السوري العظيم، وبعد كل هذه التضحيات الملحمية سيعرف كيف يبني دولة المواطنة والعدالة والمساواة لتكون نموذج الدولة العصرية للإنسانية جمعاء.
المصدر: اشراق