جاءت مظاهرات الشمال السوري فارقة هذه المرة، فهي المناسبة الأولى التي تحرق فيها أعلام تركيا، وتهاجم مركباتها العسكرية ومقراتها في مناطق خاضعة للنفوذ التركي شمال سوريا، ولم يكن هذا الانفجار وليد لحظة، أو مجرد فلتة غوغائية، بل جاء بعد تراكم الاستياء من السياسات التركية، سواء في إدارة النزاع مع النظام، أو في ما يتعلق بالممارسات المهينة ضد اللاجئين السوريين التي تصاعدت بشكل كبير مؤخرا في تركيا.
وبالمثل، لم تكن التصريحات التركية خارجة عن سياق التطورات في السياسة الخارجية التركية، فهي أولا امتداد لتصريحات ومواقف كثيرة أطلقها المسؤولون الأتراك منذ سنوات، تشير لنزوع نحو التسوية مع دمشق، واعتبار الصراع بين نظام الأسد والمعارضة أمرا ثانويا، مقابل تهديد الأكراد السوريين شمال سوريا، فمثلا ذكر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل أعوام عبارة بين ثنايا كلامه، بينما كان يتحدث عن إبعاد الأكراد من منبج، ردا على سؤال من صحافي تركي رافقه في الطائرة، عن احتمالية تقدم قوات النظام السوري إلى منبج، ليجيب الرئيس التركي «ليس لديّ مشكلة في ذلك فهي في النهاية أرضهم»، مرّ هذا التصريح مرور الكرام، ولم يمنح الاهتمام الكافي بما يمثله من تصورات القيادة التركية نحو شرعية قوات الأسد، وساهم التجاهل وحتى الإخفاء الإعلامي المتعمد من المواقع التركية الناطقة بالعربية، في غض النظر عنه، فقد تمت إزالة العبارة من مواقع تركية ناطقة بالعربية، بينما ظلت العبارة نفسها في النسخة الإنكليزية والتركية في هذه المواقع نفسها.
بعد ذلك صدرت تصريحات مشابهة من مسؤولين آخرين مثل، وزير الخارجية التركي والناطق باسم الرئاسة، كلها كانت توحي بشكل أو بآخر بأن لا مشكلة كبيرة بالنسبة لأنقرة من توسيع سيطرة وشرعية النظام السوري على حساب المعارضة، وفي الحقيقة فإن اتفاقات أستانة وسوتشي، التي تضم إيران وروسيا وتركيا، كانت تنص بشكل صريح على دعم سيادة الدولة السورية على أراضيها الموحدة، وعمليا وهو الجانب المهم أكثر من التصريحات، فإن الوقائع تقول إن الدور التركي العسكري في سوريا منذ اتفاقات أستانة وسوتشي، لم يكن مناوئا لنظام دمشق، بل للقوى الكردية، وترجم ذلك عمليا في اتفاق سوتشي في شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، عندما وافقت أنقرة على دخول قوات النظام السوري للمناطق الحدودية شمال سوريا، لتحل مكان القوات الكردية. ولم تكن أنقرة في السنوات الأخيرة معنية كثيرا بدعم فصائل المعارضة في نزاعها مع قوات الأسد لاسترداد أراض لصالح المعارضة، كما فعلت روسيا وإيران اللتان سخرتا جهديهما لاستعادة الأسد لأراضي سيطرت عليها قوات المعارضة، بدل ذلك اهتمت أنقرة بتجنيد ما تيسر من هذه الفصائل لمعارك تركيا ضد الأكراد شمال سوريا، وحتى لمعارك تركيا خارج سوريا في ليبيا وأذربيجان. الموقف الأخير لوزير الخارجية التركي عن مصالحة المعارضة والنظام، الذي أثار استياء واسعا، جاء أيضا في سياق محدد من التصريحات والسياسات، يشير إلى نوايا انفتاح أكبر لأنقرة على دمشق نحو تطبيع العلاقات، فبعد قمة طهران وسوتشي التي جمعت أردوغان مع بوتين، قال الزعيم التركي كلاما واضحا أسس لهذا التوجه، فقد قال إن بوتين نصحه بالتنسيق مع النظام السوري بخصوص مخاوفه من الأكراد شمالا، وإن أجهزة المخابرات التركية والسورية تنسق معا، وإن هناك احتمالا لإجراء مكالمة هاتفية بين الأسد وأردوغان، وأعلن وزير الخارجية التركي عن «تقديم كل أنواع الدعم للنظام السوري» لمواجهة «الإرهابيين» شمالا، ويعني بهم القوى الكردية، ثم جاء تصريحه الأخير عن المصالحة بين النظام والمعارضة، من أجل السلام في سوريا. وهنا يطرح معارض سوري سؤالا بسيطا، إذا كانت الخارجية التركية تدعو للمصالحة بين النظام والمعارضة «من أجل السلام في سوريا» فلماذا لا تشمل هذه الدعوة المصالحة مع «قسد» من أجل السلام أيضا! الإجابة ببساطة أن سياسة أنقرة هنا تظهر منفصلة في المسار والأهداف عن المعارضة السورية، التي يفترض أنها حليفتها، فهي ترى بعين المصالح القومية التركية التي لا تقبل السلام مع القوى الكردية السورية، ولكنها تدعو للسلام مع النظام السوري عدو المعارضة! وكل هذا لأنه يخدم مصالحها بالتقارب مع دمشق في سبيل توحيد جهود أنقرة ودمشق ضد القوى الكردية شمالا، وهو ما أقر به صراحة وزير الخارجية أوغلو في تصريح سابق عندما قال، إن بلاده (ستقدم الدعم الكامل للنظام السوري في مواجهة الإرهابيين).
على العموم، يبدو أن ما يحدث من انعطافة تركية في الملف السوري وإقبال نحو تطبيع للعلاقات مع دمشق هو مشابه لما حصل في الملفين المصري والسعودي، وهو يؤشر لإخفاق كبير في السياسة الإقليمية، إذ تحولت من سياسة صفر مشاكل إلى صفر رؤية استراتيجية.
*كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»
المصدر: القدس العربي