يبقى الاقتصاد المتعثّر القضية الرئيسة في تونس، وقد يؤدي ذلك إلى تقويض الطموحات السلطوية للرئيس قيس سعيّد.
مَن شهدوا عن كثب على تقدّم تونس نحو الديمقراطية خلال العقد الممتد بين العامَين 2011 و2021 تصعب عليهم مشاهدة الانتكاسات التي حلّت بالبلاد خلال العقد المنصرم.
كنت سفيرًا للولايات المتحدة في تونس بين العامَين 2012 و2015، وتابعت عن كثب عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد. تخللت مسار تونس نحو الديمقراطية فترات جيدة وأخرى سيئة، إنما تحققت نتائج مذهلة مع مرور الوقت. ولكن خلال العام المنصرم، بدّلت البلاد مسارها وضاعت جميع المكاسب تقريبًا التي تحققت في العام السابق. في استفتاء أُجري في 25 تموز/يوليو، وكانت نسبة المشاركة فيه متدنية على نحو لافت، اعتمدت تونس دستورًا جديدًا من دون نقاش وافٍ بشأنه ولا مساهمة تُذكَر من الرأي العام، ما أسفر عن تثبيت جميع الصلاحيات تقريبًا في يدَي شخص واحد هو الرئيس قيس سعيّد. لماذا غيّرت تونس اتجاهها بهذه الطريقة الفجائية، وماذا تخبئ المرحلة المقبلة لمهد الربيع العربي؟
نظرة إلى الوراء: إنه الاقتصاد
بدأ انتقال تونس إلى الديمقراطية في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، حين قضى بائع الفواكه المتجول محمد البوعزيزي بإضرام النيران في نفسه، بعدما تعرض للإذلال وسوء المعاملة على أيدي مسؤولين محليين في سيدي بوزيد. أشعل موت البوعزيزي شرارة الاحتجاجات في مختلف أنحاء البلاد، ما أدّى إلى هروب الرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي في 14 كانون الثاني/يناير 2011. استمدت هذه الثورة الشعبية جذورها من الاستياء الواسع من نظام بن علي القمعي والتململ من المشقات الاقتصادية، ولا سيما في المناطق الداخلية والأحياء الفقيرة في العاصمة تونس. وخلال الأعوام الثلاثة اللاحقة، شهد الانتقال التونسي اضطرابات كثيرة، ولكنه أنتج بحلول العام 2014 دستورًا ديمقراطيًا على أساس توافق سياسي واسع، أسفر عن انتخاب رئيس ومجلس نواب في انتخابات حرة ونزيهة. ولكن حتى فيما كانت البلاد تعالج مشاكلها السياسية، تجنّبت الخوض بجدّية في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، ما زرع بذور التململ الشعبي مستقبلًا.
المشاكل الاقتصادية التونسية بنيوية في طبيعتها ومتجذرة في السياسات التي نُفِّذت على مر عقود كثيرة، وتشمل التنظيم المفرَط للاقتصاد المحلي، والحواجز أمام المنافسة والاستثمار المحلي، ومشاركة الدولة غير الفعالة في القطاعات الصناعية الرئيسة. ونتيجةً لذلك، لم تتمكن البلاد عادةً من استحداث ما يكفي من الوظائف الجيدة الأجر لسكّانها الآخذة أعدادهم في التزايد. وفي الفترة التي أعقبت الثورة، تجنّبت الحكومات المتعاقبة تنفيذ إصلاحات اقتصادية هيكلية يصعب تمريرها سياسيًا، واعتمدت بشدّة على الاستدانة الخارجية، بما في ذلك القروض من صندوق النقد الدولي والجهات المانحة الغربية. ترافقت هذه القروض الخارجية مع شروط طالبت بالإصلاح الاقتصادي، ولكن الجهات الدائنة الغربية التي كانت مندفعة في تلك المرحلة لدعم الديمقراطية الوليدة في تونس، لم تُظهر صرامة في فرض تطبيق هذه الشروط. ونتيجةً لذلك، ازداد عبء الديون التونسية فيما استمر استحداث الوظائف والنمو الاقتصادي في التراجع.
ومع مرور الوقت، تفاقم التململ الشعبي، مستمِدًّا جذوره مرةً أخرى من المشقات الاقتصادية، ولكنه كان موجَّهًا هذه المرة ضد الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا، والأحزاب السياسية التي تقف خلفها، ولا سيما حزب النهضة الإسلامي الذي شغل العدد الأكبر من المقاعد في مجلس النواب لمرحلة طويلة خلال العقد الذي أعقب الثورة. وفي العام 2019، منح هذا التململ زخمًا لترشح سعيّد الآتي من خارج المشهد والذي كان يفتقر إلى الخبرة السياسية، وقد انتُخِب رئيسًا في فوز ساحق.
لم يكن الاقتصاد الضعيف السبب الوحيد لابتعاد الكثير من التونسيين عن الديمقراطية. كانت تجربة التونسيين المباشرة مع الديمقراطية ضئيلة قبل العام 2011؛ فقد عرفت البلاد رئيسَين فقط قبل الثورة، وكانت الانتخابات في تلك الفترات تشهد بصورة عامة تزويرًا لمصلحة الحزب الحاكم. وكان الإطار المؤسسي الجديد الذي أُنشئ بعد الثورة ضعيفًا أيضًا. فقد انتُخِب مجلس النواب مثلًا بموجب قانون ساهم في تسهيل انتشار الأحزاب الصغيرة. وهكذا أسفرت انتخابات 2019 عن دخول 20 حزبًا إلى البرلمان، ونال ثلاثة عشر حزبًا منها أقل من ثلاثة في المئة من الأصوات. لم يتمكّن مجلس النواب المنقسم الذي انبثق من الانتخابات من إنجاز الكثير، وتحوّل إلى هدف سهل وجّه سعيّد الغضب الشعبي نحوه. ولم تبصر المحكمة الدستورية، وهي مؤسسة أخرى أساسية، النور بسبب الخلافات على عضويتها التي استمرت أعوامًا طويلة. فلو كانت المحكمة موجودة لعطّلت ربما خطوات سعيّد غير الدستورية في العام 2021، لكن ذلك لم يحدث.
نظرة إلى الأمام: الاقتصاد أيضًا وأيضًا
في أعقاب الاستفتاء الذي أُجري في تموز/يوليو وكانت نتيجته الموافقة على الدستور الجديد، يبدو سعيّد مصممًا على ترسيخ نظامه الرئاسي المفرَط الجديد، على الرغم من تدنّي نسبة التصويت والمخاوف الجدّية التي عبّر عنها عدد كبير من المراقبين التونسيين والحكومات الأجنبية بشأن العملية. الخطوة التالية التي يستعد لها سعيّد هي إقرار قانون انتخابي جديد سيؤدي، كما أُفيد، إلى التخلص من القوائم الحزبية. وعلى الأرجح أن النتيجة ستكون مزيدًا من الانقسام في مجلس النواب الذي سيصبح أقل نفوذًا من المجلس السابق. ومع تثبيت سعيّد قبضته على الحكومة والقضاء والقوى الأمنية، وفي ضوء الضغوط الشديدة على المجتمع المدني، ستكون الضوابط المتبقية على صلاحيات الرئيس ضئيلة أو معدومة.
ولكن المشكلة الأساسية التي يواجهها سعيّد في المرحلة المقبلة هي نفسها المشكلة التي تطارد تونس منذ سنوات: الاقتصاد. فالوضع الدائم الذي تعاني منه البلاد على صعيد بطء النمو وضعف استحداث الوظائف يتفاقم الآن بسبب الاختلالات الدولية التي أحدثتها جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا. إذا لم يتمكن سعيّد من تحقيق النمو الاقتصادي واستحداث الوظائف، فسوف يواجه قريبًا التململ الشعبي نفسه الذي واجهه أسلافه. ففي ضوء الديون الطائلة التي ترزح البلاد تحت وطأتها والصعوبة التي تواجهها في سداد ثمن الواردات الأساسية، تحتاج تونس مجددًا إلى الدعم من صندوق النقد الدولي والحكومات الغربية.
ولكن سعيّد عالق بين الجهات الدائنة الخارجية التي لا تزال تطالب بإصلاحات هيكلية – وتُبدي الآن ميلًا أقل إلى دعم بلادٍ تتجه نحو حكم الرجل الواحد – وبين القواعد الناخبة المحلية الرئيسة، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل الذي لا يزال يعارض بشدة الإصلاحات الاقتصادية. وسعيّد غير مناسب بتاتًا لهذه المهمة الصعبة، نظرًا إلى افتقاره التام إلى الخلفية الاقتصادية وعدم استعداده لتقديم تنازلات.
تزداد المهمة الصعبة التي يواجهها سعيد تعقيدًا بسبب المنظومة الدستورية الجديدة التي فرضها. فبعدما باتت جميع الصلاحيات متركّزة الآن بين يدَيه، لم تعد ثمة قنوات راسخة يعبّر الشعب من خلالها عن استيائه. سيكون البرلمان الجديد، حين يبصر النور، ضعيفًا ومتصدّعًا. وستفقد الأحزاب السياسية، وهي مؤسسة أساسية يجري من خلالها توجيه الطاقة السياسية في الأنظمة الديمقراطية، موقعها أو ربما تصبح خارجة عن القانون في بعض الحالات. وعندئذٍ سيبقى الشارع المكان الوحيد للتعبير عن الاستياء الشعبي، مع ما ينطوي عليه ذلك من آفاق خطيرة في السنوات المقبلة.
يبدو أن تونس عادت إلى المربّع الأول، بعدما قطعت دورة كاملة لتجد نفسها في مواجهة المشاكل عينها التي كانت تعاني منها قبل عقد من الزمن. في الوضع الراهن، يصعب الشعور بالتفاؤل إزاء المستقبل، أقله في المدى القصير. ولكننا نأمل بأن يميل الميزان من جديد، مع مرور الوقت، لصالح الديمقراطية التي لا تزال تقدّم للتونسيين الفرصة الأفضل للحرية والكرامة اللتين يطالبون بهما ويستحقونهما.
المصدر: مركز مالكولم كير- كارنيغي للشرق الأوسط