لعله من غير المعتاد ان تتعاقب قمتان رئاسيتان بين تركيا وروسيا يفصل بينهما أقل من 3 أسابيع. وإن كانت قمة طهران التي انعقدت في 19 تموز/يوليو، والتي جمعت رؤساء الدول الثلاث الراعية لمسار استانة، يمكن إدراجها في سياق اللقاءات ذات الطابع الدوري، الا أن هذا الطابع لا يمكن إسقاطه على القمة التي سيعقدها الرئيس رجب طيب أردوغان الجمعة، مع الرئيس فلاديمير بوتين في منتجع سوتشي.
ولعل هذا ما يستدعي الوقوف بجدية عند صحة مجمل الاستنتاجات التي أعقبت قمة طهران والتي تذهب الى خواء اللقاء الرئاسي الثلاثي من أي توافقات سياسية توجبها مصالح الأطراف الثلاثة، إذ عاد كل زعيم الى بلده دون الحصول على ما يريده من الطرفين الآخرين، ولعل علامات هذا الخلاف لم تتأخر تجلياتها، إذ كانت أبرز تلك التجليات مجزرة بلدة الجديدة التي ارتكبها الروس في ريف جسر الشغور في 22 تموز، أي بعد القمة بثلاثة أيام فقط، أودت بحياة سبعة مواطنين سوريين أربعة منهم أطفال، ثم تلا ذلك تصعيد عسكري روسي استهدف منطقة جبل الزاوية والعديد من بلدات ريف إدلب، وذلك دون أن تظهر ردة فعل من الجانب التركي أو فصائل الجيش الوطني توازي بجديتها فظاعة العدوان الروسي، في موازاة ذلك شهدنا خفوتاً في وتيرة الخطاب التركي عن العملية العسكرية المرتقبة تجاه بلدتي منبج وتل رفعت.
لعلنا لا نحتاج إلى التأكيد على أن مبدأ تبادل المصالح كان الناظم الأساسي لمحور استانة الثلاثي طيلة ما يزيد على خمسة أعوام خلت، ولم تعد تلك المصالح محصورة بالشأن السوري فحسب، بل ربما امتدت الى حيث تقتضي الحاجة أو الضرورة، كما يمكن التأكيد من جهة أخرى على أن عملية تبادل المصالح التي غالباً ما كانت تُترجم إلى صفقات متبادلة على أرض الواقع، إنما تستند في جوهرها على مقدار ما يحوز كل طرف من أوراق القوة ، وعلى ضوء هذه الثوابت يمكن التساؤل: ما الذي تريده تركيا من روسيا، وما الذي بيدها من أوراق القوة الداعمة لمطلبها؟
لعله من البدهي القول إن العلاقة الروسية التركية بعد 24 شباط/فبراير، موعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ليست كما قبلها.ولإن كان بوتين يحرص فيما سبق على إبداء القوة والعنفوان باعتباره القابض المتفرد على الشأن السوري، الا أن حربه على أوكرانيا ومواجهة الغرب الأميركي-الأوروبي جديرة بأن تنزع عنه بعضاً من صلفه وجبروته لتجعله أكثر عوزاً وحاجة لتركيا، التي يحرص بوتين نفسه على الا تذهب بعيداً عنه تجاه الغرب، بل ربما يجد بوتين أن أنقرة باتت بمثابة رئة سياسية واقتصادية ينبغي أن تبقى مشرعة أمام موسكو، وبطبيعة الحال فإن تركيا تدرك ذلك وهي بدورها ترى أنه حان الأوان لتأخذ ما تريد دون أن تخضع لمبدأ الصفقات الذي فرضه بوتين بقوة فيما مضى.
هذا يدعونا للرجوع الى قمة طهران من أجل التأكيد على أن روسيا اشترطت أن يكون ثمن العملية العسكرية تجاه تل رفعت ومنبج هو سيطرة النظام وحلفائه على جبل الزاوية ومن ثم إحكام السيطرة على طريق “إم-4” بالكامل، الا أن الحسابات التركية أوجبت الرفض القاطع نظراً للتداعيات الخطيرة التي سيتركها نزوح عشرات الآلاف من الجنوب إدلب باتجاه الحدود التركية، فضلاً عن حصار قد يحكمه النظام على إدلب المدينة.
اليوم ومع تناقص الوقت الفاصل عن العملية الانتخابية التركية صيف العام القادم تبدو حاجة أنقرة شديدة لتنفيذ العملية العسكرية، وخاصة أن الفيتو الأميركي حيال العملية المرتقبة يبدو أكثر رخاوةً عما كان من ذي قبل، فلا بد إذاً من استثمار كافة الجهود الدبلوماسية مع موسكو ولو استدعى الأمر لقاءً رئاسياً كما سيحصل اليوم، ومما لا شك فيه أنه سوف تحضر كل القضايا المشتركة في هذه القمة، ولن يدخر كلا الطرفين أن يحشد كل أوراقه ، فهي فرصة أمام بوتين لكي يأمن أن أنقرة لن تقف حيث يقف الأعداء الغربيون، فهل سينجح الطرفان في تطويع مبدأ الصفقات ليكون خادماً لمصلحة كليهما؟
وفي هذا السياق تبدو أمامنا ثلاثة سيناريوهات لنتائج هذه القمة كل منها يحمل جانبا من المشروعية.
السيناريو الأول، استمرار صانع القرار التركي بتكثيف الضغط على القيصر المتورط في أوكرانيا وانتزاع موافقة على العملية العسكرية مقابل تفاهمات أخرى، قد تكون في سوريا وربما تكون في ملفات أخرى خارجها، وقد تتعلق بالموقف التركي من الغزو الروسي لأوكرانيا، وإبقاء الموقف التركي على حاله كوسيط بين الطرفين المتحاربين، وأن تبتعد تركيا عن الرؤية الأميركية والغربية بخصوص العقوبات الاقتصادية على روسيا، بالإضافة الى ضمان تسهيل حركة مرور السفن عبر مضائقها.
السيناريو الثاني، انتزاع الاتراك لموافقة روسية جزئية على عملية محدودة تنحصر في منطقتي تل رفعت ومنبج، ورغم أن ذلك لن يرضي الطرف التركي بصورة كاملة الا أنه يحرره من الحرج الذي وقع فيه طيلة الفترة الماضية، وربما يكون بوتين في هذه المرحلة حريصاً على كسب ود الرئيس التركي وإنقاذه من الحرج الداخلي بمواجهة خصومه السياسيين في ظل الاستحقاق الانتخابي القادم صيف 2023.
السيناريو الثالث، فشل اللقاء وعدم خروجه بموقف روسي يغطي العملية العسكرية التركية، وهو الخيار الأسوأ الذي ستترتب عليه تداعيات سياسية وميدانية خطيرة، لا سيما في حال ذهاب الأتراك نحو تنفيذ العملية دون موافقة روسية، وما سيتبعه من ردة فعل روسية ربما تكون وجهتها فتح جبهات إدلب وجبل الزاوية وسهل الغاب وجبال الساحل، ونسف كل تفاهمات خفض التصعيد فيها، وما سينجم عن ذلك من توترات في العلاقات الروسية التركية في مختلف الملفات الأخرى المتعلقة بالطرفين.
ربما كان من الصحيح أن مسائل عديدة تخص البلدين ستكون حاضرة في قمة سوتشي، إلّا أن الشأن السوري سيكون طاغياً، وهذا ما سيجعل لقاء الرئيسين التركي والروسي محطّ رهانٍ كبير ليس بخصوص التوافق أو الاختلاف حول المسألة السورية فحسب، بل يمكن الذهاب إلى أن مستقبل العلاقات بين أنقرة وموسكو سيكون وثيق الصلة بقدرة الرئيسين أو إخفاقهما بالوصول إلى تفاهمات مرضية لكليهما معاً.
المصدر: المدن