عمرُ بنُ الحمقِ الخزاعي، طعن سيدنا عثمان بن عفان – رضي الله عنه – تسع طعنات، وقال: ثلاثةٔ لله، وستةٌ لشيء في نفسي. يقول الخبراءُ الصادقون مع أنفسهم: إنّ الأخبارَ التي تتسرب، أو تظهر للعلن وللعامة من خلال اجتماع أصحاب القرار في عالم السياسة تكونُ بأغلبها لا تمتُّ إلى ما اتفق عليه، أو ما جرى خلال تلك الاجتماعات. فالاتفاقات والمباحثات التي تجري خلف الأبواب المغلقة دائمًا ما تتمتع بصفة السرية المطلقة، وخاصةً إن كانت مصيرية وحساسة، وهذا يضعنا كمتفرجين ومتأثرين بتلك القرارات بشكل مباشر أو غير مباشر في حيرة من أمرنا، وخصوصًا أنّ ما يُتفق عليه، أو ما يُختلف عليه يتحكم بمصائرنا، ويغير مجرى حياتنا! لم يجد البشر إلى الآن حلًا لتلك المعضلة، ولم تحلَّ الليبرالية الغربية والديمقراطيات هذه المعضلةَ، رغم وجودِ مبدأ المحاسبة والمسائلة، الذي غالبًا ما يكون بعد أن يفوت الأوان!
لا شكَّ أنَّ المراقبَ للمشهد الدولي، والقارئ للتاريخ بأثر رجعيٍّ تحليلي، يصبح في حيرة، ويُصاب باكتئاب شديد عندما يقرأ الأخطاءَ البشريةَ الكارثية التي ارتكبها حفنة أشخاص، وتحكمت بمصير الملايين، وتسببت من الكوارث الشيء الذي لا يمكن تخيله. عندما تقرأ على سبيل المثال؛ أن حسني مبارك نصح بشارَ بالانسحاب من لبنان، والقذافي نصحه بتسليم مجمع الكبر النووي، وساركوزي أعاد دمجه بالمجتمع الدولي، وأوباما دعم بقاءه بشرط تسليم السلاح الكيماوي الذي خبأه صدام عنده من قبل، ومادلين اولبرايت باركت توريثَه بشرط الحفاظ على خطوط أبيه الحمراء، وفرنسا دعمته لرغبتها بعودة نفوذها في سوريا وتقويةً لنفوذها في لبنان، الذي أضعفه أبوه من قبله لصالح الأمريكي والبريطاني!
عندما تقرأ أنّ عبد الناصر والانقلابات العسكرية ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية لإخراج بريطانيا من مناطق نفوذِها التاريخية، وأنّ الجولان سُلِّم بصفقة، وحربَ تشرين كانت مخططًا مرتبًا لتحقيق السلام وتبنّي إسرائيل في أحضان المنطقة العربية، وأن مناطقَنا منذ سقوط الخلافة العثمانية إلى هذه اللحظة تتقاذفُها صراعاتُ الكبار الذين يتفقون تارة ويختلفون تارة أخرى، وكلُّ هذا يجري في غرف سرية واجتماعات مغلقةٍ لا نشاهد منها إلا ابتساماتٍ صفراء وتصريحاتٍ وجملٍ منمقةٍ بشعارات فارغة.
عندما نجد الولايات المتحدة الأمريكية تُشعل الحرائق السياسية والاجتماعية عبر العالم وتتفرج، وتتلاعبُ بالجميع لتغطية شيء أو إظهار شيء نجهله، وروسيا تسعى من جديد لاستعادة أمجادها، والصين تريد موطئ قدم بين الكبار، وأوروبا تريد استعادة مجدِها الضائع! أما نحن فنفقد بيوتنا وأحباءنا وأرزاقنا، وتتحطم أحلامُنا وتضيع أوطاننا. عندما نرى أشخاصًا هنا وهناك يتحفوننا بمعلوماتهم السريةِ وأخبارهم التي لا يخطئها أنفُهم، ثم نكتشف أنّهم جزءٌ من مسرحية الوهمِ التي يُديرها خلف الستار أناسٌ لا نعلم عنهم شيئًا. عندما يُصدع رأسنا بالأيديولوجيات، وترى كلَّ طرف يدافع بشراسة متناهية عن شعارات هو أول من يتخلى عنها تحت بند الواقعيةِ السياسية وتبشيراً بمهاراته البراغماتية وذكائه الخارق وبعد نظرِه الذي يتجاوز الملائكةَ والجنّ مجتمعين، ومن ثم يصدمنا بوضاعته في تدمير كلِّ ما حوله تحت مبررات لا يستطيع هو نفسُه أن يفهمَها أو حتى يدركَ أبعادها!
عند كلِّ هذا نتوقف عند قول عمر بن الحمق الخزاعي الذي طعن سيدنا عثمان بن عفان – رضي الله عنه – تسعَ طعنات، وقال: ثلاثة لله، وستة لشيء في نفسي. ربما تلك العبارة تلخصُ تلك الفوضى البشرية التي هي ربما نتاجُ صدمةِ البشرية الكبرى عندما أُخرِجَت من الجنة، وهبطت إلى الأرض تحت خطيئة الذكاء والبراغماتية.
“ثلاثةٌ لله, وستةٌ لشيء في نفسي” مزيجٌ وخلطةٌ عجيبةٌ من التسويغ والتبرير البشري الخاطئ لكل ذلك الحجمِ الهائلِ من الآثام والشرور ، والتي عجزنا كبشر إلى اليوم من إيجاد وسيلةٍ لضبطها أو حتى التخفيف من كوارثها. لكن باستثناء الأنبياء والرسل الذين كانت طعناتهم التسع -إن جاز التعبير- لله جل في علاه فهل يوجد من البشر من قلب تلك المعادلة الخبيثة، وجعلها -في أضعف الايمان – ستةً لله وثلاثةً لشيء في نفسه؟ وهل يمكن أن تسعفَنا عبقريةُ البشر يومًا ما في اختراع ضوابط وكابِحات لتلك المعادلة؟ ربما يقول بعض المحللين أنّ الطعنات التسع هذه الايام لشيء في نفس حاملها، وليس فيها شيءٌ لله، وهذا يصح بالطبع في هذا الزمن الذي أصبحت محدداتُ الأخلاق وما يصح وما لا يصح منوطةً فقط بالشخص القوي المتحكم، ولم يعد في عرف هؤلاء دورٌ للخالق (سبحانه) أو للبشر في ذلك.
الأنبياء والرسل نموذجٌ بشريٌّ حيٌّ عن إمكانية تحقيق المعادلة الصعبة: بأن تكون الطعناتُ التسع لله حتى يكافئك الله جل في علاه بالعودة إلى جنات الخلد بعد رحلتنا القصيرة على هذا الكوكب، وعندها فقط يزول تعجبُ الجنِّ -الكائناتِ الأقوى من البشر- حين أبدوا دهشتَهم من حكمة اللهِ في تلك البشرية المنفلتة من عقالها: “وَأَنَّا لَا نَدْرِىٓ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى ٱلْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا”(الجن – 10). نختم بقول الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله في كتابه حراسة الفضيلة:
“ويا أخي لا يغرنَّك في طريق الحقِّ قلةُ السالكين، ولا يغرنَّك في طريق الباطلِ كثرةُ الهالكين، أنت الجماعة ولو كنتَ وحدك {إنَّ إبراهيمَ عليه السلام كان أُمَّة} كن غريبًا.. وطوبى للغرباء!
أخيرًا: اِعلم أنَّ خروجَك من قافلة الخير لا يضرُّ أحدًا سِواك! ووجودك فيها فضلٌ من الله عليك ونعمةٌ أنعم بها عليك، والخروج منها هو الخسران المبين في ثوب مواكبة العصر والزمن الجديد!
واعلم أنَّ شريعةَ السماء تسير غيرَ آبهةٍ بأسماء المتخاذلين، تسقط أسماء وتعلو أسماء “وإنْ تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم “. وسيعود حكمُ السماء بإذن الله حاكمًا، واللهُ لا يخلف وعدَه (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)”.
نعم كلمات الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله فيها من الحكمة الشيءُ الكثير، لكنها يجب أن تُنقل من مستوى الفرد إلى مستوى الجماعة والمجتمع، وإلا لن تصبح قانونًا وأعرافًا تحكم وتتحكم بحياتنا اليومية، وعندها يصبح الفردُ غريبًا في أرضه، معتزلًا لمحيطه، وعليه عندها أن يذهب إلى الكهف في انتظار سنّة الاستبدال التي قهر اللهُ بها عبادَه الضالين جماعةً.